المقال رقم 6 من 14 في سلسلة مشاهدات إكليروسية

سطوري اليوم تتناول الضلع الثالث في مثلث شباب أقباط جيل الأربعينيات من القرن المنصرم والذين كان لهم أدوار محورية في تشكيل ورسم خريطة أحدات الكنيسة وتشابكاتها مع دوائر الرهبنة و والمجتمع العام بالداخل والخارج، وهو الأستاذ “نظير جيّد” الذي صار فيما بعد اسقفا للتعليم ثم اختير لموقع البطريركية ليصير قداسة البابا . وقد امتد به المقام في موقعيه الكنسيين لنحو نصف قرن من الزمان.

ومن نافلة القول أن الاقتراب من المجال الحيوي الفكري والسياسي واللاهوتي لقداسة البابا شنودة الثالث مغامرة وعند البعض من المريدين مؤامرة، حتى إن من يقترب بقلمه من هذا المجال عليه أن يقدم شهادة إبراء ذمة.

كانت البداية فيما تجمع عندي من خيوط والشاب نظير جيد على مشارف التخرج في كلية الآداب، ونذر الحرب تلبّد سماء المنطقة العربية بعد أن أطلقت جماعة الإخوان بمصر نفير الحرب المقدسة وزينت الأمر لمليك البلاد بأنها الباب التاريخي لبعث الخلافة التي سقطت في طورها العثماني بانهيار تركيا، رجل أوروبا المريض، وداعبت أحلام الملك الشاب، والتي سبق وراودت والده السلطان ـ ثم الملك ـ فؤاد، بأن يصير الخليفة.

ونحن في نهايات عقد الأربعينيات من القرن العشرين أعلن ال عن إخضاع طلاب السنوات النهائية في الجامعة المصرية لدورة مكثفة للتدريب العسكري، يقضونها وفق جدول زمني بكلية الضباط الاحتياط، وفى هذه الدورة يتعرف الشاب نظير على عديد من الشباب من كليات مختلفة، وفيما هم يتسامرون في عنبر المبيت يدعوه أحد رفاقه للخدمة في كنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا، ومع انتهاء الدورة يتواصلا ويقصدان معًا تلك الكنيسة.

سرعان ما تتكشف مواهب الشاب الوافد التنظيمية والحركية، وما يملكه من ذاكرة تستحضر دقائق ما يقرأ حتى لو كانت قراءة عابرة وكل ما يسمع حتى لو كان في دردشة غير مرتبة، وهو ما أهله ليقفز إلى صفوف قادة الاجتماع، وتصل أخباره إلى مسامع الأستاذ ، الذي يستحضره وبعين الخبير يدرك ملكات هذا الشاب فيقربه إليه ويسند إليه أمور التنظيمية، وبناء على اقتراح من الشاب تصدر مجلة مدارس الأحد وتسند رئاسة تحريرها للصحفي النقابي الأستاذ “”، والذي كان يترأس تحرير أكثر من مطبوعة صحفية، لذا كان المدير الفعلي للمجلة الأستاذ نظير جيد، والذي تم تعيينه رئيسًا لتحريرها بعد صدام الأستاذ مسعد مع ضباط ثورة 52، واعتقاله، وتبادر الجهات الحكومية بمخاطبة المجلة لتعيين رئيس تحرير أخر، فيطرح اسم الأستاذ نظير، وتقوم تلك الجهات بقيده صحفيًا في نقابة الصحفيين، وبهذا يتولى موقع رئاسة التحرير حتى يقرر دخوله الدير 1954، في غضون تلك الفترة يقرر الأستاذ حبيب جرجس ضمه ونفر من أقرانه إلى اللجنة العليا لمدارس الأحد.

حين رُسم الراهب أنطونيوس السرياني أسقفًا عامًا للتعليم، باسم الأنبا شنودة، دشن اجتماعًا عامًا أسبوعيًا يلقى فيه محاضرات وعظات دينية، بدأه في مطعم الكلية الإكليريكية ومتاح حضوره للكافة، يعقد مساء يوم الجمعة، كانت أخباره يتناقلها الشباب المتعطش لم يقدم له كلمة الله بلغة يفهمها خارج سياقات اللغة السائدة في العظات وقتها والمسجونة خلف القوالب الجامدة والألفاظ المهجورة، كان اسقف التعليم يملك الجملة البسيطة ويجيد الحكي، وذكاء اختيار ما يتحدث فيه، دون أن يخدش فصاحة الطرح، هي لغة أقرب إلى لغة الصحافة، ويمكن أن نسميها السهل الممتنع.

مازلت أتذكر حين تعرفت على اجتماعه وكيف أعيد ترتيب مقاعد مطعم الإكليريكية إلى صفوف خلف بعضها، في مواجهة عدد من مناضد الأكل التي تجمعت لتصنع قاعدة تحمل فوقها مكتب وميكروفون يجلس إليها الأب الأسقف الأربعيني، تزدحم القاعة بالحضور فينتقل الاجتماع إلى القاعة اليوسابية بمبنى الإكليريكية والتي تحولت فيما بعد إلى قاعة الأنبا رويس (!!)، ويزداد العدد لينتقل الاجتماع إلى الكنيسة المرقسية بالأزبكية [البطريركية قبل انتقالها للعباسية]، ثم إلى الدور الأرضي للكاتدرائية الجديدة بالأنبا رويس وكانت تحت الإنشاء وقتها، ويستقر الاجتماع بانتقاله إلى صحن الكاتدرائية نفسها، ولم يبرح ذهني صوته المسترسل الناعم وهو يطلق العنان للتأمل في “مزامير السواعي” في إعادة تقديم للإجبية لجيل لا ينقصه الشغف، كان المزمور “يستجيب لك الرب في يوم شدتك“، فبراير 1969، وكانت رحلة العودة من قاعة الاجتماع إلى بيوتنا نقطعها سيرًا على الأقدام، ونحن نزدرد ونجتر ما قاله الأسقف الساحر، وتعرف عيوننا طريقها إلى القراءات الروحية والربط بين صلوات الكنيسة وبين الكتاب المقدس.

على ذكر اللجنة العليا لمدارس الأحد اسمحوا لي أن اقفز عبر الزمن لنقف عند مشارف 1997، احكي لكم فيها عن مقابلة مع الأنبا والبهنسا، وقتها، وزميل الأستاذ نظير في تلك اللجنة، ورفيقه في درب حلم الإصلاح، كان اللقاء في منزل أخي وأبى القمص بولا ناشد بالمعادي، وكنت وقتها اكتب مقالًا أسبوعيًا بجريدة الأخبار المصرية يتناول الإشكاليات القبطية والكنسية الإدارية، كانت بمثابة حجر ألقى في بحيرتنا الساكنة. وخلق دوائر من ردود الأفعال المتباينة.

بادرني أبونا المطران:

بقى أنت يا أخ كمال بتكتب عشان قداسة البابا يلتفت لما تراه إشكاليات في إدارته للكنيسة، وتنتظر أن يستجيب لما تطرحه؟ طيب أنا هاحكيلك موقف حصل زمان أما كنا في اللجنة العليا لمدارس الأحد، كنا على موعد للقاء في مقر اللجنة لمناقشة بعض الترتيبات، فوجدت الأخ “” غاضباً، خير مالك؟ أبداً شوف صاحبك الأخ نظير عمل إيه؟ مش إحنا خدنا قرار بخصوص الموضوع الفلاني بأغلبية الأصوات، ولم يعترض عليه سواه؟ تمام، طب روح شوف لوحة الإعلانات، مطلع قرار عكس المتفق عليه، روح كلمه، إنت اكتر حد بيعرف يتكلم معاه. ذهبت لألتقى صديقي، التقيته وكلى ثقة بإقناعه، واستغرقت المقابلة نحو ساعة أو يزيد، كنت أنا المتكلم في أغلبها، وكان هو منصتاً باهتمام، وهذه واحدة من سماته، في نهاية المقابلة قال بهدوء، أفهم من ك إن المطلوب أغير القرار؟ شوف يا غالى، واحد فقط هو الذي يقنعني أن أغير قراري، بادرته متلهفاً مين؟ قال وهو يضغط على كل حرف:

لا أحد يقدر أن يغير رأى نظير جيد إلا نظير جيد

يعنى وهو أفندى كان هذا موقفه ومنهجه، وأنا صديقه ورفيق مشواره، الآن، وهو من هو، بكل ما له من سلطان وشعبية وثقل، وأنت مجرد علماني من آحاد الناس، تفتكر هل ستأتي كلماتك بنتيجة إيجابية؟ الأمر ليس بهذه البساطة

(الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف والبهنسا، في لقاء بمنزل القمص بولا ناشد بالمعادي)

دعونا نخرج من هذه المشاهد ودلالاتها، لنستأنف المشهد الأساسي مع الشاب نظير جيد وهو يطرق أبواب الدير طلبًا للرهبنة، وفيه تعددت روايات دوافع الرهبنة، وهو أمر لا تحسمه التحليلات، والتي تأتى محكومة بالهوى والموقف الشخصي لمن يطرحها، الأهم نتائج هذه الخطوة المفصلية.

هل نجد مفتاح الشخصية في المشهدين السابق إيرادهما قبل سطور، أم نجده في اللقطة التي يجسدها ترشحه لمنصب البابا البطريرك بعد نحو عامين من رهبنته، التي بدأت في يوليو 1954 فيما رحل ال في نوفمبر 1956، فيسارع الراهب الشاب بالترشح لشغل الكرسي الشاغر، وهو الأمر الذي ازعج شيوخ مجمع الكنيسة وشباب الحكام الجدد وقتها، فكان تحركهم معًا لتغيير بنود لائحة البطريرك كما بينا في المقال السابق، واللافت أن المشهد يتكرر بعد رحيل البابا البطريرك أنبا ، فيعاود الراهب القمص أنطونيوس السرياني تقديم أوراقه للترشح للمنصب، بعد أن تخطى شروط المنع السابقة، وتغيرت أيضًا أجواء الكنيسة والدولة، ويفوز بالمنصب في مرحلتي التصويت والقرعة التي استحدثت في انتخاب البابا كيرلس السادس.

ومازال للمشهد بقية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مشاهدات إكليروسية[الجزء السابق] 🠼 مشاهدات إكليروسية [٥][الجزء التالي] 🠼 [٧] إعادة تشكيل المنظومة
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨