- مشاهدات إكليروسية [١]
- مشاهدات إكليروسية [٢]
- مشاهدات إكليروسية [٣]
- ☑ مشاهدات إكليروسية [٤]
- مشاهدات إكليروسية [٥]
- [٦] الطريق إلى الزعامة
- [٧] إعادة تشكيل المنظومة
- [۸] شظايا السياسة وصراعاتها
- [۹] زحف الرهبنة
- [١٠] اختلالات الأديرة
- [١١] من أنت أبي الأسقف؟
- [١٢] إعادة تركيب قطع البازل
- [١٣] تحالفات ومصادمات
- [١٤] نقطة في آخر السطر
أتوقف هنا مع دراسة قام بها أحد رجال الإكليروس المعاصرين، تعيد قراءة واقعة لقاء قطبي الرهبنة، أو قل اثنين من مؤسسي الرهبنة في مصر والعالم، الأنبا أنطونيوس الذي أسس الحياة الديرية، بعد أن استقر به المقام في فيافي الصحراء الغربية، واستحق أن يعرف بأبي الرهبان، والأنبا بولا الذي اعتزل في صحراء البحر الأحمر متوحدًا، وظني أنهما التقيا غير مرة.
الدراسة التي نتوقف عندها تتناول لقائهما الأخير وما شهده من أحداث، والمجال السياسي وقتها، في توقيت كانت الكنيسة تشهد فيه حالة من الهدوء النسبى بعد أن أصدر الإمبراطور المعاصر قسطنطين مرسومًا يعترف بالأديان الموجودة بربوع إمبراطوريته، ومنها المسيحية، وقد لفت نظره جسارة المسيحيين ورباطة جأشهم، في مواجهة موجات الإبادة التي شنتها الإمبراطورية عليهم، ولم يكن قد أعلن إيمانه بعد.
ولعل السؤال لماذا يهتم حاكم وثني بعقد مؤتمر إمبراطوري (دولي) يجمع فيه قيادات الكنيسة لتصفية ما بينهم من خلافات تخص عقيدتهم ويرأس هو هذا المؤتمر وكان من الممكن أن تجد حلًا بالحوار بين مفكري وآباء الكنيسة؟!
ظني أن تصعيدًا متعمدًا خرج بالخلاف الفكري الطبيعي من دوائره الإقليمية والمحلية إلى الطرح العام، على مستوى الإمبراطورية، وبحضور الإمبراطور نفسه. أنه أول تسييس للكنيسة، التي ابتلعت الطُعم بل وكرسته لتقرر فيما بعد أن حضور الإمبراطور أحد شروط اعتماد أية مؤتمرات مثيلة كمجمع مسكوني!!
دعونا نقترب من مشهد افتتاح المؤتمر (المجمع) كما سجلته أدبيات الكنيسة، ورصدته الدراسة، حيث نقرأ أن الإمبراطور قسطنطين وضع أمام المجتمعين قضيب المُلك وسيفه قائلًا لهم:
إن لكم هذا اليوم سلطان الكهنوت والمملكة لتحلوا وتربطوا كما قال السيد، فمن أردتم نفيه أو إبقاؤه فلكم ذلك(اﻹمبراطور قسطنطين، حسبما ورد في سنكسار 9 هاتور اليوم الموافق انعقاد مجمع نيقية سنة 325م)
ومن هذه اللحظة بدأت أدوات السياسة تخايل الكنيسة، فما أن يصدر المجمع قرارًا بإدانة أحد بتهمة الهرطقة حتى تبادر الدولة إلى اعتقاله ونفيه.
وتقول سطور الدراسة:
الذي فعله قسطنطين في مجمع نيقية هو بروتوكول إمبراطوري ثلاثي القوة؛ قانون ـ حُكم ـ تنفيذ، وهو ذو دلالة واضحة وضوح الشمس في منتصف النهار، وهى تدشين عَلاقة صداقة أو تحالف بين الإمبراطورية والكنيسة، وقد بدأت ودامت تلك العَلاقة أزمنة، وانقلبت إلى صدام في أزمنة أخرى إلى أن جاء القرن السابع، فسقطت المملكة المنقسمة على نفسها بكنائسها المنقسمة هي أيضاً على نفسها، في فم الهزات العربية مثل:أشجار تين بالبواكير إذا انهزت تسقط في فم الآكل(ناحوم 3 : 12)
وكان القديس جيروم قد أدرك وقتها مخاطر هذا التحالف فقال:
إذ ارتبطت الكنيسة بالأمراء المسيحيين اقتنت سلطاناً وغنى، ولكنها افتقرت إلى الفضيلة(القديس جيروم، 347 ـ 419م)
أصبح المسيحيون يعترفون بأفضال الإمبراطور قسطنطين عليهم لأنه كان يهب لهم مبانٍ رسمية وقصوراً لتستعمل استعمالاً دينياً. كما أمر ببناء أماكن رائعة للصلاة، وأهدى للأساقفة هدايا كبيرة، وخُصت المحاكم الأسقفية بولاية مدنية، واعتبر الأساقفة مساوين للحكام(الأبُ “جان كمبي”، كتاب “دليل إلى قراءة تاريخ الكنيسة”، الصادر عن دار المشرق)
كانت الحُلّة (العباءة) الملكية ضمن الهدايا التي أرسلها الإمبراطور للأساقفة، ومنهم البابا أثناسيوس، ومعها كرسي مستنسخ من كرسي الإمبراطور، وهكذا صارت الكنيسة تحاكى الإمبراطورية، حتى أنها أخذت عنها التقسيم الإداري، ففي مقابل المقاطعة جاءت الإيبارشية، وفى مقابل الأمير أو حاكم المقاطعة يأتي الأسقف، وفى مقابل الإمبراطور يأتي البابا البطريرك!!
ترصد الدراسة اللقاء الأخير الذي تم بين القديسين أنطونيوس وبولا فتذكر أنه:
بعد أن جلس الأنبا أنطونيوس مع الأنبا بولا وأخذا يتحدثان بعظائم الأمور، قال الأنبا بولا له:والآن أسرع وأحضر لي الحُلة [العباءة] التي أعطاها قسطنطين الملك لأثناسيوس البطريرك.فمضى إلى البابا أثناسيوس وأخذها منه وعاد إليه. وفيما هو في الطريق رأى نفس القديس بولا والملائكة صاعدين بها. ولما وصل إلى المغارة وجده قد تنيح، فقبَّله باكياً ثم كفنه بالعباءة وأخذ الثوب الليف. وحينئذ وارى القديس أنطونيوس الجسد المقدس وعاد إلى الأبُ البطريرك وأعلمه بذلك. أما الثوب الليف فكان يلبسه الأبُ البطريرك ثلاث مرات في السنة في أثناء التقديس.(نقلا عن كتاب السنكسار القبطي)
ويرى الباحث أن التفسير الذي ذهب إليه البعض ومنهم القديس جيروم، الذي سجل سيرة الأنبا بولا، أنه حين طلب من صديقه أن يذهب ويحضر العباءة، أراد أن يجنبه لوعة لحظات موت ونياحة الأنبا بولا، هو تفسير يصعب ترجيحه لأن الموت لم يعد كما كان قبل تجسد المسيح وموته وقيامته منتصرًا على الموت. ويؤكد الباحث أيضًا على أنه لم يكن طلب القديس بولا الرداء لتكفينه، حال موته، لتعارض ذلك مع تركه لكل مباهج الدنيا وممتلكاتها واختياره حياة التجرد والتقشف والفقر الاختياري، وتيقنه من أن مآل
فلماذا طلب القديس بولا إذن عباءة البطريرك المهداة من الإمبراطور؟
تجيب الدراسة عن هذا السؤال:
- “مضى القديس أنطونيوس إلى البابا أثناسيوس وأخذ العباءة الملكية منه.”
- “سمع الحكيم أثناسيوس كلمات الرسالة الصامتة، وفهم أن المشورة في قلب الرجل [الأنبا بولا] مياه عميقة وذو الحكمة يستقيها، فسلم العباءة الملكية للأنبا أنطونيوس حسبما طلب الأنبا بولا”
- سحب الرائي بولا من كنيسة الإسكندرية ثوبًا يُظلم استنارة العقل ويغطى الرؤية قبل أن يغطى البدن.
- سحب الثوب الناثر براعم خصال وسجايا الأباطرة في الأذهان، تاركًا فقط ثوبه الليف. التراب هو مصير ثوب الملوك.
- دفنه لئلا يُكفَن به الذين أقامهم الله للحياة الجديدة.
- دفن في التراب ثوب الكرامة والأبهة والعظمة الإمبراطورية فلا يصير زيًا أو طقسًا كنسيًا.
- دفن مراودة ملكية ناعمة لكنيسته ستفقدها حريتها إن قبلتها.
ويكمل الباحث هذا المشهد:
طرح القديس أنطونيوس ثوب الأنبا بولا الليف على البطريرك القديس تشجيعاً له على مواصلة جهاده “ضد العالم”، وكأنه إيليا يطرح رداءه على إليشع مجدداً، كذلك تلقف القديس أثناسيوس رداء الأنبا بولا الليفي، مثلما فعل إليشع عندما أخذ رداء إيليا الذي سقط عنه وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك فعبر إليشع، كذلك ضرب أثناسيوس بحر صداقة الملزك فانفلق أمامه وعبرمن وجه الضيق إلى رحب لا حصر فيه(أيوب 36 : 16)
والسؤال اليوم عن خيارات الكنيسة المتأرجحة بين عباءة الإمبراطور وثوب بولا الليفي، سواء في الغرب أو الشرق، فما زالت مظاهر وممارسات كثيرة لا تتفق مع طبيعة ورسالة الكنيسة، وما زال تتبعنا المشاهد الإكليروسية مستمرًا، لعلنا نضع أيدينا على أسباب تراجعنا بواقعية وتبصر بعيدًا عن صراعات الأجنحة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨