المقال رقم 3 من 14 في سلسلة مشاهدات إكليروسية
مشهدان باعد بينهما الزمن لقرون، لكنهما قد يقدمان لنا مداخل تفكك تشابكات الحالة القبطية الكنسية المعاشة، الأقرب زمنًا من لحظتنا، مشهد عشته قبل أربع عقود أو نحو ذلك، والثاني أحداث اقترب منها أحد الباحثين المدققين تدور في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي، فيما يجلس ذاك الباحث يقلب في مخطوطاته وأوراقه، في واحدة من قرى الوجه القبلي، الصعيد كما نسميه، موزعًا بين التزاماته الطقسية لكونه من رجال ال، وبين شغفه بالبحث والتنقيب.

مسرح أحداث المشهد الأول كنيستنا الأثيرة مار جرجس بالقللي، الوقت صباح يوم “أحد”، أبونا القمص، وهو شيخ طاعن في السن، يصلى القداس ومعه كاهن شريك، شاب يافع تدرك من ملابسه أنه راهب من أحد الأديرة، اللافت أن أبونا كان حريصًا على تقديم هذا الشاب عليه، يتعامل معه بحرص شديد يوحى لك بأن الشاب هو الأكبر وأن أبونا القمص هو الشريك، وظننت وقتها أنه من فرط محبته وترحيبًا بالشاب الصغير، لم أكن وحدى الذي لاحظ ذلك، فبينما نستبدل ملابس الشموسية بعد انتهاء القداس، همس صديقي الشماس في أذني “شفت أبونا القمص راجل واعي وفاهم الدنيا صح!!“، ولم يزد، كعادتي كنت أرافق أبونا الشيخ في رجوعه لبيته القريب من الكنيسة، ورغم فارق السن كنا أصدقاء، قلت له هل من تفسير لما رأيته من معاملة مجاملة لذاك الراهب؟ هل من باب الاتضاع والمحبة كدأبك مع ضيوفنا؟ ابتسم ابتسامة تحمل خبرة السنين؛

  • يا بنى الرهبان لا ينسون…!!
    – مش فاهم.
  • من المحتمل أن يصير هذا الشاب يومًا أسقفًا، وقد تكون كنيستنا ضمن زمام إشرافه، ساعتها ستكون علاقته بي مؤسسة على مثل هذه المواقف، سيعتبر التعامل الطقسي وفق ترتيب الكنيسة إقلال منه، وأنا يا ولدى شيخ متقدم في أيامي ولا احتمل ردود أفعالهم، إنهم قد يغفرون لكنهم لا ينسون.

تذكرت هذا الحوار المقتضب، وأنا أتابع رد قداسة البابا ـ الراحل ـ على أحد “أسئلة الناس” عن موقفه الحاد من مخالفيه رغم سنوات الصداقة الطويلة، والتي تتعارض مع مبدأ الغفران، فأجاب بأن هناك فرق بين الغفران والنسيان، ونحت مقولته البليغة:

أنا أستطيع أن أغفر، لكنني لا استطيع أن أنسى

(قداسة البابا )

وذكرني هذا الحوار بواقعة حدثت في واحدة من كنائس روض الفرج (شبرا)، رواها صديقي وقت أن كنت أكتب بمجلة “”، أن شابًا من خدام الكنيسة اشتاق للرهبنة، وكان لذلك كثير التردد على أديرة وادي النطرون، وعندما حزم أمره طلب منه المسئول في الدير أن يأتي بـ “خطاب تزكية” من أب اعترافه، مع الأوراق الثبوتية وما يفيد انتهاءه من أداء التجنيد الإجباري أو الإعفاء منه، رتب أوراقه وقدمها، وتم قبوله في صفوف طالبي الرهبنة، واجتاز فترة الاختبار التي امتدت لأكثر من عام، وتم قبوله راهبًا.

يومًا، قرر خدام تلك الكنيسة الذهاب في رحلة لهذا الدير، ومعهم أبونا القمص صاحب خطاب التزكية، اقترب أحد الرهبان الشيوخ من المسئول عن الرحلة ليستوثق منه أنه من ذات الكنيسة التي أتى منها ذاك الراهب الشاب، فاتجه لأبونا القمص وسأله: هل تعرف أبونا الراهب فلان، أجابه: دا كان ابني في الاعتراف، وأنا من كتبت له خطاب التوصية، خير يا أبونا؟ قال له الأب الراهب بصوت خفيض: كنت انتظر مجيئكم لألقاك وأشكو لك تصرفات هذا الشاب، وحِدّته في التعامل مع إخوته، كويس إنك جيت، سأخبره بقدومكم، وأتمنى أن تجلس معه وتطلب منه أن يصحح طريقة تعامله بما يتفق وحياة الرهبنة بل وحياة المسيحي العادي. رد أبونا القمص بنفس الصوت الخفيض: متشلش هم يا أبونا وامسحها فيَّ.

جاء الراهب إلى القاعة التي يجلس فيها الشباب، وتبادل معهم الترحيب والسعادة باللقاء، طلبه أبونا القمص في جلسة منفردة، واطمئن على أحواله، ثم نقل إليه شكوى إخوته بالدير، وبدأ في الكلام عن نذور الرهبنة، ومحبة الإخوة، لكنه لم يستطع أن يسترسل في كلامه، إذ وقف الراهب الشاب مقاطعًا وموجهًا كلامه لأبونا القمص بحزم وثقة: يبدو يا أبونا انك نسيت أنك كاهن علماني وأنا كاهن راهب، ولا يحق لك توجيهي. وأقفل راجعًا إلى حيث كان!!، وبقى أبونا القمص صامتًا بقية اليوم وحتى عودة الرحلة.

صمت الكاهن لم يوقف سيل الأسئلة عن أزمة الرهبنة المعاصرة وما اقتحمها من متغيرات:

  • هل صارت تنويعه على التجمعات الأحادية النوع، بمتاعبها واختلالاتها؟
  • هل اختفت التلمذة ومن ثم التسليم؟
  • هل صارت عبئًا على الكنيسة بعد أن كانت الداعم الأكبر لها؟
  • هل صارت رافدًا إكليروسيًا بعد أن كانت بحسب مؤسسها كيانًا علمانيًا قائمًا بذاته؟
  • هل كان للتغيرات التي اقتحمتها بفعل التطور خارجها أو بفعل الضغوط الحياتية للأجيال الذين انبهروا بالرعيل الأول من رهبان مدارس الأحد، يد في ارتباكاتها داخل وخارج أسوارها؟
  • هل كان لتطور نمط الحياة الديرية ودخولها في دوائر الإنتاج الزراعي والحيواني والداجني الموسعة وما استتبعه من تصنيع زراعي وتسويق دور في خفوت الدور الروحي لها؟
  • هل ما زالت نذور الرهبنة قائمة؟
  • هل رسامة أسقف لكل دير هو مصادرة على تمايزات التجمعات الرهبانية؟
  • هل تحتاج الكنيسة للتفكير في انساق الرهبنة الخادمة بجوار الرهبنة التقليدية، رهبنة البحث والعمل الاجتماعي بتنويعاته؟

الأسئلة لا تتوقف.

يبقى الاقتراب من الكتاب أو قل الكتيب الذي اصدره الأب الكاهن والذي يقرأ بشكل مختلف واقعة زيارة مؤسس الرهبنة الأنبا أنطونيوس لأول السواح ، وما دار بينهما من حديث حول رداء البابا البطريرك الأنبا ، ورحلة الرداء من قصر ال إلى مقر البابا بالإسكندرية ثم إلى مغارة الأنبا بولا بصحراء البحر الأحمر، ونحيله إلى مقال تال، لما يحمله من عصف ذهني لم نعتده في تحليل مثل هذه الأحداث، حتى إن كاتبه تراجع عن طرحه بالمكتبات واحتفظ به في خزانته، تحسبًا لردود الفعل في مناخ صارت فيه أعصاب القارئ المؤمن فوق جلده.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مشاهدات إكليروسية[الجزء السابق] 🠼 مشاهدات إكليروسية [٢][الجزء التالي] 🠼 مشاهدات إكليروسية [٤]
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨