- مشاهدات إكليروسية [١]
- ☑ مشاهدات إكليروسية [٢]
- مشاهدات إكليروسية [٣]
- مشاهدات إكليروسية [٤]
- مشاهدات إكليروسية [٥]
- [٦] الطريق إلى الزعامة
- [٧] إعادة تشكيل المنظومة
- [۸] شظايا السياسة وصراعاتها
- [۹] زحف الرهبنة
- [١٠] اختلالات الأديرة
- [١١] من أنت أبي الأسقف؟
- [١٢] إعادة تركيب قطع البازل
- [١٣] تحالفات ومصادمات
- [١٤] نقطة في آخر السطر
قبل نحو نصف قرن وبضع سنوات، تحديداً في العام 1968، شهدت كنيستنا المحلية ـ مار جرجس، القللي ـ رسامة أوّل كاهن يخصص لخدمتها، القس "منسى فرج"، بعد سلسلة ممتدة من الكهنة الأتقياء الذين يتم نقلهم من كنائس وربما إيبارشيات أخرى للخدمة بها بشكل مؤقت. كانوا يأتون محملين بمشاكل وأزمات بينهم وبين كنيستهم، أو بينهم وبين اسقفهم، أو بينهم وبين مجلس كنيستهم. كان البابا كيرلس يسارع بنقلهم إلى كنيستنا ليفض الاشتباك وحتى يكون الكاهن بالقرب منه يتابعه ويراقب التزامه، وتصحيح مساره، فيعيده إلى كنيسته. لذا فهو بالنسبة لكنيستنا المحلية: "كاهن ترانزيت" يرى فترة وجوده هذه أقرب إلى العقوبة، وكان لهذا انعكاساته على خدمته، فوجوده المادي هنا بينما قلبه هناك. لكن هذا لا يمكن تعميمه كقاعدة، فقد كان بينهم من يرى يد الله في نقله. وأنه محمّل برسالة يؤديها حيثما يرسله الله.
لهذا كانت فرحتنا غامرة بالكاهن الجديد، شاب يافع مجتهد مقبل على الخدمة، يعشق الليتورجيا، والألحان والطقوس الكنسية، بادرنا؛ صديقي “صبحي صموئيل” وأنا، بالذهاب إليه في محل إقامته بعد الرسامة حيث يقضى فترة أربعين يومًا كترتيب الكنيسة لإعداده لخدمته في دقائق جانبها الطقسي والمعروفة بفترة استلام الذبيحة، وكانت إقامته ببيت المطارنة الملاصق لمقر إقامة البابا البطريرك، بالكنيسة المرقسية بكلوت بك.
ذهبنا ومعنا كتابين للقس “منسى يوحنا” (1899 ـ 1930) ـ أحد نوابغ الكهنة الشباب والذي أثرى المكتبة المسيحية بالعديد من الكتب الروحية والتاريخية وفى مقدمتها “تاريخ الكنيسة القبطية” أحد أهم المراجع في التأريخ الكنسي ـ تيمنًا بأن كاهننا على اسمه، وتطلعًا لأن يكون فيه من روحه.
كان المشهد جدير بالتأمل، يجمع بين شاب مولع بالألحان القبطية يملك حنجرة ذهبية، وبطريرك يتماهى مع الصلاة ويعتبرها خبز يومه، لكن هذا المشهد رحل مع رحيل البابا البطريرك، لتبدأ رحلة رهبنة الفضاء القبطي خارج الأديرة، إذ تقرر أن يمضى الكهنة الجدد أربعينية إعدادهم الطقسي داخل أحد الأديرة، ليعودوا إلى كنائسهم بهوى رهباني وأقدار متباينة.
لم يكن الأمر بظني محض مصادفة، بل كان وراءه عقول تملك رؤية واضحة، وهدف محدد، كان يسيطر على طيف من الرعيل الأول من كوادر منظومة مدارس الأحد، جيل شباب الأربعينيات الواعد من القرن المنصرم، والذي تفتح وعيه على تناقضات المشهد المصري السياسي والديني.
كانت سني ولادتهم تتماس مع تفجر ثورة 1919 أو بعدها بسنوات قليلة، وتحتشد بالوهج الوطني، المطالبة بالاستقلال، قبل أن يصدمهم إعلان تشكيل جماعة الإخوان المسلمين (1928) التي تبنت الدعوة والعمل على إعادة إحياء الخلافة بعد سنوات قليلة من سقوطها في طورها العثماني (1922). كان المشهد يشمل كل الجيل بأطيافه الاجتماعية والدينية، ومنه تشكلت الخريطة السياسية والحراك السياسي لذاك الجيل.
وأنا هنا أتناول ما يتعلق بالجانب القبطي، لذلك سأكتفي بالقول أن على الجانب الأخر ظهر تأثير الحدثين؛ ثورة 19 وتأسيس جماعة الإخوان في التكوين الفكري والسياسي لما عرف باسم “تنظيم الضباط الأحرار”، والذي كان له موقفًا متحفظًا تجاه ثورة 19، فيما افسح مساحة في تكوينه لجماعة الإخوان، وحين قُيّض له أن يتولى السلطة في 1952، كان من بين الحقائب الوزارية وزارة الإرشاد القومي، والتي تتولى وضع السياسة الإعلامية العامة للدولة، ومخاطبة الرأي العام في الداخل، والتواصل مع العالم الخارجي، وربما يكون المسمى مستوحى من نظيره في تنظيم تلك الجماعة، وما يدعم ذلك استبداله باسم الثقافة والإعلام على إثر الصدام بين الجماعة وبين مجلس قيادة الثورة 1954. واللافت عودته مجددًا حتى رحيل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
كان جيل شباب الأقباط، الذي شب عن الطوق في أربعينيات القرن العشرين، يعيش مناقضة المد الوطني ترتيبًا على ثورة 19، والمد الديني ترتيبًا على تأسيس جماعة الإخوان، حين أراد أن يجد لقدمه موضعًا في الشارع السياسي، كانت الغيوم تملأ فضاء الأحزاب، وكان الهوى الطائفي يتسلل إلى الشارع.
كانت تجربتي جماعة الأمّة القبطية ومنظومة مدارس الأحد، أبرز التكتلات القبطية تأثرًا وتأثيرًا بالمناقضة التي أشرنا إليها، فبينما تبنت الأولى طريق المواجهة حتى المصادمة، تبنت الثانية سياسة النفس الطويل والتغيير المرحلي. لكنهما اتفقتا على التربص بالبابا البطريرك الأنبا يوساب الثاني، وكان لكل أسبابه، ففي حين رأت جماعة الأمة فيه رجلًا ضعيفًا ترك زمام أمور الكنيسة في يد تلميذه، كما رُوِّج وقتها عبر كلام مرسل لم يقم عليه دليل، كانت جماعة مدارس الأحد تراه خطرًا على الكنيسة بتوجهاته للتقارب مع الكنائس الخلقيدونية، يدعمهم أساقفة يتوجسون من دراساته اللاهوتية في اليونان، لكن كلاهما ـ مدارس الأحد والأساقفة ـ لم يعلن ذلك، وحشدوا مجلة مدارس الأحد بسيل من المآخذ الطقسية والإدارية.
ثمة ملاحظات على سير هذه الأمور وقتها:
• أن جماعة الأمة القبطية، ظهرت واختفت في غضون عامين، في أعطاف ثورة 52، وكان لها موقعًا قريبًا من قيادتها، بجناحيها، سجلتها صور قيادة الجماعة، الأستاذ إبراهيم فهمى هلال المحامي، مع كل من محمد نجيب وجمال عبد الناصر.
• البيان التأسيسي للجماعة وشعارها جاءا محاكاة تكاد تصل للتطابق مع نظيرهما عند جماعة الإخوان المسلمين.
• وفى احتفال الجماعة بمرور عام على تأسيسها والذي أقيم بجمعية التوفيق القبطية ـ 1953 ـ أعلن أن عضويتها تجاوزت التسعين ألف،
• وثالث الملاحظات، وتزامن توقيت القبض على هلال وقيادات الجماعة مع دخول الأستاذ نظير جيد الدير قاصدًا الرهبنة، بالرغْم أن كلاهما أكد على عدم انضمام الأخير للجماعة،
• أما أخر الملاحظات اللافتة، أن محاكمة هلال وحل جماعته لم يكن لهما عِلاقة بحادثة اختطافهم للبابا يوساب، الذي من منطلق أبوته وحرصه على مستقبل هؤلاء الشباب، ناشد قيادة الثورة بالإفراج عنهم، واستجيب لطلبه، إنما جاءت المحاكمة لاحقًا والإدانة وقضاء عقوبة السجن كاملة على خلفية المذكرة التي قدمتها الجماعة للجنة إعداد الدستور التي رأسها الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وكانت الصراعات بين أجنحة ضباط يوليو خلف كل هذا.
كانت شباب اللجنة العليا لمدارس الأحد يسعون لكسر احتكار الرهبان للرسامة لرتبة الأسقفية، اعتمادًا على أن تاريخ الكنيسة يحفل بالعديد من الأساقفة بل والبطاركة الذين اختيروا من غير الرهبان، تجار وأراخنة ومزارعين وكانت لهم بصماتهم في حبريتهم، فبادروا إلى الدفع باسم رائدهم الأستاذ “حبيب جرجس” للرسامة أسقفًا للجيزة عقب خلو كرسيها، لكن مجمع المطارنة والأساقفة رفض هذا السعي تمامًا وأبطله.
ويرقب شباب اللجنة هذا ويتابعون فشل إقصاء البابا يوساب عن الكرسي بالقوة، وما آلت إليه حالة جماعة الأمة القبطية، ويدركون أنَّ لا تغيير يأتي خارج منظومة الرهبنة فيبادرون إلى الالتحاق بالرهبنة، فيما ينتصف العام 1954، وفى الأيام الأخيرة للعام 1956 يرحل البابا يوساب فيبادر شباب رهبان مدارس الأحد ولم يمض على رهبنتهم عامين بالترشح للكرسي البابوي في ترجمة على الأرض لمخططهم، فتباغتهم تعديلات لائحة انتخاب البابا البطريرك فيما يتعلق بشروط الترشح، وقد تضمنت ألا يقل السن عن أربعين عامًا وألا تقل سنوات الرهبنة عن خمسة عشر عامًا، فيجدوا انفسهم خارج قوائم المرشحين لعدم استيفائهم لهذين الشرطين، وكان في مقدمة المستبعدين الراهب متى المسكين والراهب أنطونيوس السرياني.
لم يستسلم المستبعدون فيدفعون باسم أبيهم الروحي الراهب مينا المتوحد والذي يحظى بموافقة جمعية الناخبين ليصبح البابا كيرلس السادس، ومن خلاله يجدون لهم مواقعًا أسقفية كما أوضحنا في الحلقة السابقة من مشاهداتنا الإكليروسية.
ثمة ملاحظة عابرة حول شخصيتين كان لهما دورا إيجابيًا وفاعلًا في نهضة الكنيسة: الأستاذ حبيب جرجس والبابا كيرلس السادس، ومن عندهما انطلق قطار هذه النهضة، وفيما يتعلق بشباب اللجنة العليا لمدارس الأحد لا يمكن إغفال دورهما في مسارات هؤلاء الشباب، فالأول اختارهم ووضعهم على قمة منظومة مدارس الأحد والثاني ضمهم إلى صفوف القيادة العليا للكنيسة، ويربط البعض بين هذا وبين اعتمادهما ضمن قديسي الكنيسة مؤخرًا (يونيو 2013).
ومازالت جعبة المشاهدات مليئة بالأحداث الجديرة بالطرح.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨