المقال رقم 12 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا
«( خواطر في تفسير إنجيل يوحناwp-content/uploads/2022/02/bible-says.jpg

”فجاءوا إلى يوحنا [المعمدان] وقالوا له: « يا معلم، هوذا الذي كان معك في عبر الأردن [يسوع المسيح]، الذي أنت قد شهدت له، هو يعمِّد، والجميع يأتون إليه »“

جاء تلاميذ في حمية واستهجان يخبرونه عن يسوع المسيح الذي جاء إليه عند نهر الأردن يطلب منه المعمودية قائلاً ”فأجاب يسوع وقال له: «اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر»“ (متي٣)، هذا الذي شهد له يوحنا المعمدان أنه المسيا الذي ينتظره اليهود، هوذا يقوم بتعميد الناس !! وكما يبدو أنهم جاءوا إليه بوشاية أو ”مصيبة“ أن المسيح يسحب البساط من تحت قدميه وينافس يوحنا المعمدان علي الصدارة.

نعم إنها مصيبة … مصيبة أبتُليت بها البشرية منذ أن تغربت عن الله بسقوط . مصيبة بدأت بغواية وانزلاق الإنسان حتي تمكّنت منه وتكررت علي مدي تاريخ الإنسان مع الله وسجَّلها الكتاب المقدس في عهديه. وحتي تلاميذ المسيح ”كانت بينهم أيضا مشاجرة من منهم يُظَنُّ أنه يكون أكبر“ (لوقا ٢٢) وصَمَت الكتاب عن أن يخبرنا إن كانوا قد ضربوا بعض أم لا؟ !!.

كان هذا تماماً موقف آدم و من الله ذاته عندما تحاورا مع الشيطان وهو يحاول إغواءهما… فقد كانا يريدان أن يصيرا مثل الله. وتسجِّل لنا بدايات تاريخ الله مع الإنسان (تكوين١١) كيف أن بنو آدم بعد طرده من الجنة ”قالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا أسماً لئلا نتبدّد على وجه كل الأرض“ ليصيروا آلهة.

هذه قضية قديمة وخطيرة جداً وينبغي فهم جذورها، لأنها تدور حول سمة    ”الطموح“ المرتبط بطبيعة الإنسان منذ الخلق. لذلك يلتبس علي الكثيرين بأنه خطية وأنه سبب سقوط الإنسان. ويتكرر الربط بين طموح الإنسان وسقوطه في الكتاب المقدس. كما يتكرر النصح والإرشاد بين الوعاظ بضرورة التواضع كعلاج لهذا الطموح. وأختلط الأمر عند جموع المؤمنين بين الطموح والكبرياء. وقد يستشهد البعض بموقف يوحنا المعمدان المعارِض لموقف تلاميذه وطموحهم إذ قال لهم ”ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص“.

في هذا المقال نحاول أن نتناول موضوع الطموح الإنساني من جهة أصوله الإلهية في خَلق الإنسان. وكيف أن الطموح الإنساني ليس خطأ ولا خطية.   لذلك فالمقال يحاول أن يلقي الضوء علي الخيط الرفيع الذي يفصل بين الطموح الإنساني وبين أن يتحول إلي مادة خصبة لغواية عدو الخير ليجعل من الطموح الإنساني نفسه سبباً لخسارة الإنسان في تحقيق طموحه في الرقي والرفعة والنجاح والخلود، الذي من أجله خلق الله تعالي الإنسان بهذا الطموح.

فعندما نتكلم عن ”طموح الإنسان“ فنحن نتكلم عن شيئ أصيل في كيان الإنسان لا ينفصل عنه وهو الذي يجعله يشتاق ويسعى إلي ما هو أعلي مما هو عليه كيانه، مهما كان العصر والزمان والمكان الذي يعيش فيه.

فهذا هو دافع المنافسة بين البشر والرغبة في النبوغ الكاشف لطموح الإنسان في كل مجالات حياته مثلما في المنافسات الرياضية والامتحانات الأكاديمية…إلخ. فكيف يكون هذا خطأ؟! بل حاشاً لحياتنا مع الله أن تتعارض مع الطموح الإنساني.

ولكي نأتي بالإجابة ”مِن الآخِر“ كما يقول المصريون في لغتهم الدارجة، نقول  بأن حقيقة هذا الطموح الإنساني في حياته علي الأرض هو انعكاس لأصل الطموح الغير محدود الذي وضعه الله في الإنسان عند خلقه.

فلنستعين باللاهوت المسيحي بحسب الإنجيل وكيف أن التجسد الإلهي للمسيح يسوع ”كلمة الله“ كان من أجل الارتقاء الفائق بالإنسان ليتعرف علي الله من جهة ذاته وفكره وعلاقته بالإنسان والكون فيحب الله لذاته الجديرة بالحب. فبالتجسد الإلهي صار اللاهوت متكلماً وعاملاً وشارحاً ومفسراً لكيان الله ذاته من خلال إنسانٍ هو يسوع المسيح الذي هو نفسه كلمة الله ”الله كلَّمنا في الأيام الأخيرة في أبنه“ (عب١).

فإن النتيجة الحتمية التي أكملها الله بالتجسد واتخاذ اللاهوت بالناسوت في شخص/ أقنوم المسيح أبن الله الوحيد، أن الله أدخل الطبيعة البشرية – التي كانت واقعة تحت الفساد والموت بعد – إلي دائرة عدم الفساد لأن لاهوت الله وحياة الله أتّحدت بطبيعة الإنسان لتجدده وتقدسه، وبذلك يتسنى للإنسان إمكانية الشركة الغير مباشرة في لاهوت الله من خلال اتحاد الإنسان بناسوت المسيح المتحد باللاهوت. وهكذا تجمَّعت وتواصلت وتوحَّدت في ناسوت المسيح  كل البشرية منذ بدء الخليقة. ومن ثمّ فإن المسيح بتجسده فتح الباب لعودة الإنسان إلي مصيره السعيد بحسب تدبير الله ومسرته منذ خلق آدم ”نخلق الإنسان علي صورتنا كشبهنا“.

بهذا نعرف أن الله خلق الإنسان وغرز في طبيعته طموح الإله اللانهائي بأن يكون في الله من خلال الاتحاد بالله، ليكون له الخلود والحياة الأبدية التي ليست لأحد آخر غير الله ”وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته“.

وهكذا فإن ”ال Theosis“ هو طموح الإنسان الأصيل الذي خلقه الله عليه ليحققه بنعمة الله ومن خلال الله. وليس بمعزل عن الله، كما أراد الشيطان/الحية القديمة، فخدع به الإنسان – ولا زال. فبدلاً من طموح الاتحاد بالله بالنعمة، فإن الشيطان يوظِّف الطموح الإنساني بمعزل عن نعمة الله، بل وإلي أن يصير طموح الإنسان سبباً في التغرب عن الله، فيقتل الأخ أخاه، بل وأحياناً كثيرة باسم الله.

لهذا وصف المسيح له المجد الشيطان بصفتين يستطيع أي أنسان أن يكتشف بهما غواية الشيطان الخبيثة في أي شيئ حتي لو كان الدين نفسه. قال المسيح أن الشيطان هو ”الكذاب وأبو الكذاب“، وأنه ”كان قتالاً للناس منذ البدء“. فكل طموح – ولو كان يبدو أنه في سبيل الله وليس فقط الإنسان- ولكنه ينتوي الكذب وموت الإنسان، فإنه انحراف بالطموح الإنساني من أن يكون بحسب تدبير الله ومسرته لينحدر ويصير بحسب الشيطان الذي أستعبد الإنسان وطموحه حتي ولو كان باسم الله وفي سبيل الله.

والسُبح لله.

بقلم : د. رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٤)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br>الإصحاح الرابع (١)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٥) 1