يعتقد البعض أن أسباب الحرب الروسية الأوكرانية تقتصر فقط على المشاحنات السياسية بين البلدين، ومخاوف بوتين من الزحف الأوروبي نحو بلاده، لكن للحرب أسبابٍ أخرى، لعل أهمها هو الصراع الديني بين الكنيستين الأرثوذكسيتين في روسيا وأوكرانيا.
علّقت المؤرخة الكنسية “ديانا باتلر” قائلة: إن السبب الجوهري للحرب هو “الأرثوذكسية الروسية” شديدة المحافظة، ووصفتها بأنها: “حرب صليبية أرثوذكسية”. كما أوضح رئيس حزب الشعب الأوروبي “دونالد تاسك” قائلًا: إن مطالب بوتين مرتبطة بالكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية واستقلالها عن موسكو. أما البابا فرانسيس فقد وصف الحرب في عام ٢٠١٥ بالـ”فضائحية” لأنها “fratricidal war among Christians” [حربًا أخوية بين المسيحيين].
فما الذي دفع السياسيين والمؤرخين لربط الحرب بالدين وبالكنيسة؟ وما الذي يدفع أساقفة الكنيسة للنزول لمباركة الأسلحة بالماء المقدس من حين لآخر؟ هل مبتغاهم فقط هو كسب رضاء الرئيس؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نعود إلى تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، التي تعود أصولها إلى الكنيسة البيزنطية (كرسي القسطنطينية).
انتشرت المسيحية في منطقة كيفين روس (حاليًا مناطق روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا) بواسطة المبشرين اليونانيين القادمين من الإمبراطورية البيزنطية في القرن التاسع، وبسبب توسع حدود الدولة الروسية، شهدت الكنيسة الروسية أيضًا توسعًا جغرافيًا هائلًا لتصبح أقوى كنيسة أرثوذكسية في العالم.
انهيار الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١، كان من نتيجته استقلال أوكرانيا عن روسيا في العام نفسه، ومع ذلك ظلت كنيسة أوكرانيا تابعة لكرسي موسكو، وشهدت الكنيسة الأوكرانية عدة محاولات للاستقلال وإنشاء كنيسة “قومية مستقلة” غير خاضعة لسيطرة دولة أخرى.
نالت الكنيسة الأوكرانية مبتغاها فعلًا في عام ٢٠١٩، وذلك بتأسيس الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية، وهي مؤسسة كنسية وطنية مستقلة تمامًا ولا تخضع لسيطرة موسكو، ورأسها في عاصمة أوكرانيا، “كييف”.
نالت الكنيسة الجديدة مباركة الكنائس الأرثوذكسية الشقيقة، مثل كنيسة الإسكندرية، وكنيسة اليونان، والبطريرك المسكوني برثلماوس الأول، بطريرك القسطنطينية. لكنها، ظلت تؤرق الكنيسة الروسية التي لم ترض بوجود كنيسة أرثوذكسية أخرى “ذاتية الرأس” لم تعد بين تلابيبها لأول مرة منذ القرن السابع عشر.
ندد فلاديمير بوتين الرئيس الروسي بتلك الكنيسة الجديدة وسعى سعيًا حثيثًا لتحريض المؤمنين ضدها، وقال إنها تمثل خطرًا على الإيمان، وستنشر عقائد غربية في كنيسته اﻷرثوذكسية المستقيمة؛ مثل زواج المثليين جنسيًا وأشياء أخرى تتعارض مع جوهر الإنسانية. فالرئيس الروسي، الذي يعشق التصوير وهو يرتدي صليبه، ويعوم في مسبحه وسط صور القديسين، لا يحب أن يتساهل في الأمور التي تخص الإيمان المسيحي. وقام بتشييد تمثالًا شاهقًا أمام الكريملن للقديس فلاديمير الأول، الإمبراطور الـ”كيفن-روس”ـي، الذي تحول إلى المسيحية ونشر الإيمان في أوروبا الشرقية، وعمّد المواطنين في نهر دنيبر (هو بمثابة اﻹمبراطور قسطنطين بالنسبة للإمبراطورية الرومانية).
أراد فلاديمير بوتين بتشييد هذا التمثال تذكير الأوكرانيين بأن الروس هم أصل المسيحية في المنطقة؛ وربما، كما أشار البعض، أراد الإعلان عن نفسه بصفته فلاديمير هذا العصر، أو فلاديمير الثاني، الذي سيسير على خطى سلفه فلاديمير اﻷوّل.
ومن الجدير بالذكر أن “دونالد ترامب”، الرئيس الأمريكي السابق، لم يستطع – رغم العداء الأميركي الروسي الشهير – منع نفسه من مدح نظيره بوتين ووصفه “بالعبقري”، قائلاً “أنا أعرف بوتين جيداً.” فكتاجر “دين سياسي” زميل بالمهنة، بالطبع ستكون شهادته في بوتين مجروحة.
ربما يكون بوتين لا يريد فقط حماية بلاده من هجوم أوكرانيا بعد انضمامها للناتو؛ فهذا الهجوم المزعوم قد أنكرته أوكرانيا التي ظلت تستغيث بأوروبا والناتو، ولا من مغيث. فالدب الروسي يريد بالأحرى الاستيلاء على الأرض الأوكرانية التي تفيض بالخيرات المتعددة، بالإضافة إلى السلطة الدينية حين تستعيد كنيسة روسيا الوصاية على ابنتها المستقلة، ليصبح بذلك قائد أكبر دولة مترامية الأطراف، وحامي أقوى كنيسة أصولية محافظة في أوروبا الشرقية. وهو أيضا يهدف إلى توحيد القوى اليمينية في الغرب المحافظ الذي يتمثل في الإنجيليين المتشددين، والكاثوليك المحافظين، والأرثوذكس الروس تحت مظلة الكنيسة الروسية، ككتلة واحدة ضد الصين الشيوعية، والشرق الأوسط المسلم، وأمريكا العلمانية. وعلى غرار هتلر، يسير نحو هدفه بلا كلل، حتى وإن تطلب الأمر قتل بعض المدنيين وﻻ بأس ببعض جرائم الحرب.
وبالعودة إلى الكنيسة الروسية “المجاهدة” التي نزلت إلى الشارع لمباركة الأسلحة ليكون القتل مباركًا بسم المسيح والصليب، لا نجد أمامنا إلا أن نتذكر الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في العصر الوسيط، والتي مازال بعضنا يتعجب منها متسائلاً: كيف يمكن أن تفعل الكنيسة مثل هذه الأمور وفكرة القتال مرفوضة رأسًا من المسيح كما هو موضح بشكل صريح في العهد الجديد؟!
ربما لا يبدو الأمر بهذا الصعوبة. فالتحايل على الوحي لتبرير القتل ليس مستحيلًا، أليس كذلك؟ فحين شنت الكنيسة الكاثوليكية حربها في القرون الوسطى، وقفت أمامهم بعض النصوص مثل “سافك دم الإنسان، بالإنسان يسفك دمه.” [1]، و”من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك.” [2]، وتفتقت الأذهان حينها عن حيلة رائعة، وهي القتل بدون سفك دم. لذلك، اتفقوا على ممارسة القتل بالحرق على أن تسلم الكنيسة الهراطقة إلى السلطة المدنية لتقوم بحرقهم أحياء. وبذلك، يتفادوا سفك الدماء بأنفسهم ويحافظوا على تعاليم الإنجيل. لعل من أشهر من حرقوا بتلك الطريقة هو العالم “جورديانو برونو” لأنه تقدم بنظرية فلكية عن إمكانية وجود حياة في كواكب أخرى غير الأرض، مما أغضب الكنيسة لأن لو كانت هناك حياة على كواكب أخرى، لما أصبحت الأرض بآدم، وخطيئته الأصلية، والخلاص محور الكون! والآن، ها هي الكنيسة الروسية تعيد التاريخ من جديد وتبارك الأسلحة ليتسلمها الجنود الروس بعد ذلك من الأيادي الطاهرة ليقوموا هم بالدور القذر الذي تريده الكنيسة —الاستيلاء على كنيسة أوكرانيا بالإكراه لتصبح الكنيسة الروسية بذلك محور المسيحية الأرثوذكسية في أوروبا بلا منازع. وتدعي أنها بدعم بوتين تطبق قول الكتاب: “لتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ” [3].
الصور المرفقة في هذا المقال لم تلتقط في هذا العام (٢٠٢٢)، ومنها ما يعود لعام ٢٠١٩ و٢٠١٥. لكن الحرب الروسية-الأوكرانية، لمن لا يعلم، ليست وليدة اللحظة. فقد بدأ النزاع المسلح في فبراير ٢٠١٤ في أعقاب منطقة الميدان الأوروبي، التي تركزت على وضع شبه جزيرة القرم وأجزاء من دونباس، المعترف بها دوليًا كجزء من أوكرانيا. وبدأت محاولات الكنيسة الأوكرانية في الاستقلال منذ ١٩٩١. وكأي حرب كبرى، تم التمهيد لها منذ سنوات إعلاميًا وعسكريًا.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟