إن فحصنا ما يُقال الآن ضمن التعاليم القبطية، سنجد الكثير من الأخطاء والانحرافات العقائدية التي تعلمناها منذ الصغر وزرعت داخلنا. فكم من مرة عندما سألنا: لماذا يتجسد الله ويصلب؟ كنا ومازلنا نجد الكثير من الإجابات المبهمة التي لا تمس لكنيستنا بصلة، قيل لنا أن خطية أبونا ادم كانت غير محدودة ولهذا يجب أن يكون شخص الفادي غير محدود، الإنسان أخطأ ولهذا يجب أن يكون الفادي إنسان يموت ويعاقب. ولماذا العقاب من اﻷساس؟ هل خلقنا الله لكى يعاقبنا؟! هل أصبحت الخطية غير محدوده كمثل الله؟ هل الله خلق شجرة محرمة كي يشتهيها الإنسان فيسقط ويموت؟ هل يتجسد الابن كي يرضى الأب ويضع عليه جام غضبه لكى ينقذنا نحن؟ هل الله يحتاج أن يعاقب ابنه لكى يرضى كرامته؟ مسرحية عبثية ومخيفة وقد تعلمناها ورددناها منذ الصغر دون فحص أو اختبار لماهية هذه التعاليم الغريبة عن الله.
تتطرق هذه الدراسة إلى الفداء، لكن في عمق العقيدة الأرثوذكسية والتقليد الكنسي، أو بمعنى اكثر دقة سنذكر العقيدة الخلاصية بكل جوانبها حسب كتابات الآباء اليونانيين. وينضم لهم الأربع كراسي الكبرى: القسطنطينية، وأورشليم، وأنطاكية، والإسكندرية. وسنرى خلال دراسة هذا التقليد السكندري اليوناني أنهم تعمقوا في الفلسفة، وقاموا بتعميد التعاليم لخدمه الكنيسة، فالفكر الشرقي كان فلسفيا يهتم بالأسئلة الأنطولوجية (الوجدانية وعن الوجود وأصله وكينونته) وهذا الفكر كان وليد الزمكان الموجودين فيه. تعتمد الأرثوذكسية على فهم العقائد من كتابات اﻵباء، وتتبع أصولها الأولية وإيمان الكنيسة الأولي، وهما المرجعية الأولي لشرح العقيدة في الكنيسة الأرثوذكسية، سنرى أن الإباء هنا بالأخص في عقيده الفداء لا يبدأن أولا بالفداء أو يرون السقوط كبداية لقضيه الفداء كما يحدث في الغرب، ولكن بالأحرى ينظرون في بداية الخلق وسببه.
سنبدأ بمناقشة القضية الأنطولوجية للإجابة عن سؤال لماذا الخلق؟ في المفهوم المسيحي الأرثوذكسي، ثم نناقش ماهية شجرة معرفة الخير والشر ولماذا كان وجودها ضروري وهل هي مجرد اختبار من الله فقط لأسقاط البشر؟ ثم السقوط لأنه المفتاح الذي سيقودنا إلى الفهم الصحيح للفداء، وهل كان السقوط هو السبب الأوحد للتجسد أم هناك أسباب أخرى؟ وأخيرًا، سنتطرق إلى لب الموضوع وهو الفداء وماهيته في العقيدة الأرثوذكسية وكيف تم؟
لماذا خلق الله الإنسان؟
لقد أجاب الآباء هذا السؤال في أكتر من نقطه:
الله منذ الأزل يعيش في شركه مطلقه بين الأقانيم الثلاثة، ولهذا أراد أن يجلب البشر لكى ينعموا في تلك المحبة بين الأقانيم والشركة، فأصبح الخلق مثل التجسد عمل محبه من المنطلق الأول، واشترك فيه الثلاث أقانيم وكما قال القديس أثناسيوس:
أن الكون المخلوق، بدون الابن الكلمة، لا يعتبر في ذاته كافياً ليجعل الله معروفاً لنا. ولكن التأمل الصحيح في الكون إنما يكون في اللوغوس ومن خلاله، إذ هو انشأ الكون وأعطاه نظامه المنطقي، وفيه [أي في الكلمه] يتماسك الكون بثبات معاً(القديس أثناسيوس الرسولي)
فالإنسان الذي أتى إلى الوجود بكلمة من الله، إنما هو في صميم كيانه علاقة حوار مع الله، والحوار يفترض الحرية، فالخلق إذًا ليس استعبادًا للإنسان ولا احتقارًا لكيانه ولا امتهانًا لكرامته.
إن الله في ذاته ليس منعزلاً لأنه كأب وإبن وروح قدس هو في ذاته شركة أزلية للحب والوجود الشخصي. إلا أنه لا يريد أن يكون وجوده هو لذاته فقط، بل بتلقائية وحريه قد أحضر العالم إلي الوجود من العدم وأعطاه تكاملاً خاصاً به، ووضع فيه كائنات مخلوقه عاقله يمكنه أن يهبها من نعمه ويشركها معه في شركة الحب الخاصة به. ومع أن الله متعال بصوره فائقة، إلا انه ليس بمعزل عن خليقته، بل هو حاضر وعامل فيها بلا عائق، كما أنه يتدخل شخصياً بعنايته الإلهية في أحداث العالم وفي شئون خليقته من البشر.(القديس هيلاري أسقف بواتييه)
المسيحية لم تقصد اﻹجابة عن كيف وجد العالم، بل ركزت على إجابة معنى وجوده، وأن هذا الوجود مستقى من الله ذاته. وتلك العلاقة هي علاقة محبة، فالعالم هو فيض من محبة الله اللامتناهية وعطيّة مجانية من إله العطاء والمحبة،
وليس شيئ من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر. خلقتني إنساناً كمحب للبشر، ولم تكن أنت محتاجاً إلي عبوديتي، بل أنا المحتاج إلي ربوبيتك. من أجل تعطفاتك الجزيلة، كوَنتني أذ لم أكن.. لم تدعني معوزاً شيئاً من أعمال كرامتك. أنت الذي جبلتني. ووضعت يدك عليَّ. وكتبت فيَّ صورة سلطانك. ووضعت فيَّ موهبة النطق. وفتحت لي الفردوس لأتنعم. وأعطيتني علم معرفتك. أظهرت لي شجرة الحياة. وعرفتني شوكة الموت.(القداس الغريغوري)
• شجرة معرفه الخير والشر:
في الفكر الأرثوذكسي فان الشجرة لا تعني أبدا مجرد التمييز بين الخير والشر، لأن هذه الصفة هي نعمه معطاه للإنسان منذ الخلق، وإنما تعنى المعرفة المطلقة، وهذا التشبيه معروف جدا في نصوص الكتاب المقدس مثل: خالق النور والظلمة. والمعرفة، في الكتاب مرتبطه بالقدرة، فتكون معرفه الخير والشر معرفه مطلقه تترادف مع سلطان مطلق، بمعنى سلطان إلهي، وهذا يتضح من النص: تصيران كآلهة عارفين الخير والشر
(تكوين 5:3)
فالإنسان في الفكر الشرقي هو كائن عطش وجائع، كائن يحول العالم إلى حياة لذاته، فإن هدف البشرية تحويل العالم إلى: “حياة”! وبهذا يجعل الحياة وسيلة شركة مع العالم، مع بداياته، مع هدفه، مع الله.. وفي مقابل عطايا الله للإنسان: عطية العالم، عطية الطعام، عطية الحياة، يستجيب الإنسان بالشكر والتسبيح، وبواسطتهما يملأ ويعيد تشكيل العالم.
أُعْطَى كل العالم للإنسان من الله كطعام باستثناء ثمرة واحدة ممنوعة. وهذه الثمرة على وجه التحديد هي التي يأكلها الإنسان، رافضًا أن يطيع الله، وهذه الشجرة بعكس كل الأشجار الأخرى، لم تُعطى كعطية للإنسان. أي لا تحمل البركة الإلهية، هذا يعني أن الإنسان لو أكل هذه الثمرة فهو لا يأكل ليكون له حياة مع الله، كوسيلة لتحويلها إلى حياة، ولكن كهدف في ذاته. ولهذا بأكله إياها، عَرّض الإنسان نفسه للخروج عن إرادة الله! اشتهى أن يحصل على الحياة، ليس من الله، وليس لله، ولكن لذاته. فلم يُخلق الإنسان خطّاء بطبيعته، ولم يُخلق طاهرًا معصومًا بطبيعته، بل خُلق علي حالة تقبل كلا من الصورتين، إما حياة المعية الشركة أو حياة السقوط، وقد أوضح القديس أثناسيوس الرسولي هذا من خلال قوله:
خلق الله الإنسان وجعل فيه عقلا يعقل به إكراما للنفس التي خلقها مع الجسد، فإذا مارست النفس ودبرت أمورها جيدا والجمت حركات الجسد، فإنها تنجو وتخلص الجسد من السقوط في الشدة، أما إذا توانت ولم تدبر حركات الجسد وتغافلت وتكاسلت وفكت لجام الجسد، فمن أجل أنه لا فكر له يخرج إلى الطريق الوعرة وتسقط النفس في الشرور، وليس هذا من اجل شر الجسد بل من أجل أن النفس لم تدبره كما يجب(القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة)
• السقوط:
السقوط في الفكر الشرقي يتلخص في أن الإنسان خلق من العدم، وبالتالي الإنسان ليس له وجود ذاتي في كيانه، لكن وجوده مكتسب، ومرتبط بالذي خلقه، وترتب على هذا احتياجه الدائم للحياة المستمدة منه.
خلق الإنسان قابلاً للموت والألم قبل السقوط وذلك بسبب طبيعة الإنسان أنه مخلوق من العدم وليس لأن الله خلق فيه خاصية الموت والألم. والذي كان من الممكن أن ينجو منه أن أبقى الله في معرفته(القديس أثناسيوس الرسولي)
الإنسان خلق من العدم، وبحسب طبيعته تلك فإنه قابل للفناء والعودة إلي العدم مره أخري، وقد وهبه الله نعمة الخلود حتي إن بقي محافظًا علي هذه النعمة، يظل خالدًا إلي الأبد في شركه حقيقيه في الله. أما وقد سقط الإنسان من نعمة الله وفقد شركة الروح القدس، فقد أصبح عائدًا مرة أخري إلي الأرض التي أخذَ منها وفي طريقه إلي العدم والاضمحلال.
الإنسان فانٍ بالطبيعة، لأنه أتي إلي الوجود من العدم … ولكن مع ذلك لو انه قد استمر موجهاً نظره نحو الله، لكان قد تجاوز قابليته الطبيعية للفساد وبقي غير فاسد وقد قال الله لآدم أنت تراب وإلي تراب تعود، ولم يقل له لقد صرت الآن ترابً، مما يعني ضمناً أن آدم قد خلقَ في الأصل قابلاً للموت والفناء ولكن آدم قد أعطي وعداً بعدم الموت وعدم الألم كهبه إلهيه تمنح له بنعمة الله، وبالسقوط فقد الإنسان هذه النعمة الإلهية، علي الرغم من أنه لم يجرد من طبيعته(القديس ساويرس الأنطاكي)
أنا جلبت الموت على نفسي(القداس الغريغوري)
فالموت والشر في فكر الآباء ليس لهم وجود ذاتي بل وجود سلبي، فالله لم يخلق الشر ولم يوجده، بل أن الله أوجد للإنسان معطيات تسهل له وجود الخير لأنه خالق الخيرات، ولكن حين امتنع الإنسان عن فعل الخير وجد الشر كوجود سلبي لانعدام الخير.
النفس ليس فيها الشر بطبعها، إنما وجد فيها الشر من جهة أنها لم تعمل الخير(القديس باسيليوس)
ومن تعريف الشر ووجوده، وطبيعة الإنسان وعدم مصدرية الشر فيه، وقابليتها لبلوغ أي من الصورتين “الحياة” أو “الموت”، نستطيع أن نستشف أن الآباء نظروا للسقوط ما إلا مرض أصاب الإنسان. ليس عقابا لتهاونه أو عدم طاعته، بل لا يعدو كونه مرضا أحضره إلى الموت.
خطيتنا هي التي جلبت علينا المرض(القديس باسيليوس)
ومن هذا المنظور للفكر الشرقي، يتضح أن جلب الإنسان لذاته مرضا، أوجد بدوره سلطان علي الإنسان، فكما أن المرض يتسلط علي الجسد ويحنيه ويعيقه ويسيطر عليه، هكذا الخطية كانت مسيطرة علي الإنسان كمرض خبيث لم يخلقه الله ولم يوجده ولم يسع إلى بلوغ الإنسان إليه من المنطلق العقابي. ويلخص هنا القديس كيرلس الكبير هذا السؤال الهام في تفسير رسالة رومية فيقول: هل نتوارث خطية آدم بعقوبتها؟ أم الطبيعة الفاسدة بمرضها؟
بَعْدَمَا سَقَط آَدَمَ بِالخَطِّيَّةِ وَغَرِقَ فِي الفَسَادِ، فَعَلَى الفَوْرِ تَدَفَّقَتْ اللَّذَّاتُ النجسة وَاِنْفَجَرَ قَانُونُ الغَابَةِ فِي أَعْضَائِنَا. وَهَكَذَا أَصْبَحَتْ الطَّبِيعَةُ مَرِيضَةً بِالخَطِّيَّةِ مِنْ خِلَالِ معصية الوَاحِدُ الَّذِي هُوَ آَدَمُ. وَبَعْدَ ذَلِكَ صَارَ الكَثِيرُونَ خَطَأَةً، لَا كَشُرَكَاءَ فِي المعصية مَعَ آَدَمَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حَتَّى مَوْجُودِينَ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِمْ مِنْ نَفْسِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي سَقَطَتْ تَحْتَ نَامُوس الخَطِّيَّة. لَقَدْ أَصْبَحَتْ الطَّبِيعَةُ البَشَرِيَّة مَرِيضَةٌ فِي آَدَمَ، مِنْ خِلَالِ فَسَادِ المعصية، وَهَكَذَا دَخَلَتْ إِلَيْهَا الأَهْوَاءُ(القديس كيرلس الكبير)
ينظر الفكر الشرقي لثلاثية: الموت والخطية والفساد، كتعبير واحد عن الخطية الجدية، وعندما يستخدم أي قديس كلمه من الثلاثة فهو يعبر عن معنى الثلاثة لأنهم واحد بالنسبة له. لا يوجد هنا تراتبية مثل الفكر الغربي والقديس أغسطينوس أول من علم بالتراتبية بين الثلاثة في شرح معناه أن الإنسان اخطأ (تعدى)، فصار في فساد، فدخل في حكم الموت، لكن الفكر الشرقي يستخدم الثلاثة في تبادليه وليس بعلاقة زمنية. وبالتالي النظرة الشرقية للخطيه الأولي لا تكون قضائيه كما النظرة الغربية التي تكونت على يد ترتليان، وازداد في شرحها القديس أغسطينوس، ولكنها نظرة طبية، وكما قلنا سابقا أن الخطية هي الموت هي السقوط، والثلاث كلمات لمفهوم واحد، بمعنى أن الطبيعة البشرية أصبحت مريضة.
بعدما سقط آدم بالخطية وغرق في الفساد، فعلى الفور تدفقت اللذات النجسة وانفجر قانون الغابة في أعضائنا. وهكذا أصبحت الطبيعة مريضة بالخطية من خلال معصية الواحد الذي هو آدم. وبعد ذلك صار الكثيرون خطاة لا كشركاء في المعصية مع آدم لأنهم لم يكونوا حتى موجودين ولكن لكونهم من نفس الطبيعة التي سقطت تحت ناموس الخطية. لقد أصبحت الطبيعة البشرية مريضة في آدم من خلال فساد المعصية وهكذا دخلت إليها الأهواء(القديس كيرلس السكندري)
الخطية ليست جريمة ضد العدالة الإلهية، لكنها مرض يتلف الإنسان. لم يأت المسيح لكي يشفي كرامه الله المجروحة، بل ليشفي الإنسان من مرضه. بسبب الخطية صار الإنسان أسير الموت والفساد.
الله حياة، والإنسان قطع نفسه عن الله مصدر الحياة الأبدية، جاء المسيح ليعيد هذه الحياه الضائعة للإنسان. بسبب خطيئة آدم وحواء صارت الطبيعة البشرية فاسدة وأسيرة للموت. لم يرث الإنسان ذنب خطيئة آدم. هذا ذنب شخصي، بل ورث نتائج السقوط التي أصابت الطبيعة البشرية العامة ككل. أيضاً لم نرث طبيعة مائته فحسب، بل أيضاً طبيعة أصاب الفساد ملكتها. الإرادة البشرية صارت مشلولة بالخطية وتفضل الشر علي الخير.
آدم أخطأ فمات. أما نحن فنولد مائتين إذاً نحن عرضه للخطية. الله لا يحكم علينا بالموت الآن لأننا شركاء في ذنب آدم وخطيئته الأولي أو الأصلية كما يفهمها لاهوتي العصور الوسطي واباء الغرب، بل لأننا نرث طبيعة خاطئة. الله سمح بالموت كعمل رحمه حتي لا يكون الإنسان خالداً في الخطية عندما قال بولس لأن أجرة الخطية هي موت (رومية 23:6) فلا يعني أن الله يجازي أعمال الإنسان بالموت، بل أن الخطية هي مرضنا القاتل. خطية آدم كانت إعلان بأنه ذاتي الاكتفاء. ويفصل نفسه عن الله الذي له وحده عدم الموت ( 1 تيموثاوس 16:6)(اللاهوتي الأرثوذكسي د. عدنان طرابلسي)
أضاع آدم الروح القدس، الحياة الحقه. وهذا يتفق تماماً مع ما تسلمته الكنيسة من تعاليم الآباء:
منذ التعدي الأول للوصية ساد الموت، وامتزج الموت مع الشهوة بالطبيعة، وصار كل من يدخل العالم بالزواج، من الطبيعي أن يولد مائتاً، وأن يكون خاضعاً للموت حتماً، سواء أخطأ أم لا، وسواء أخطأ قليلاً أم كثيراً، لأن الموت صار ممزوجاً بالطبيعة(مار فليكسينوس)
• الفداء والكفارة:
الفداء لم يكن وليد لحظه السقوط، بمعنى أن الله اعد لنا الخلاص والفداء قبل خلقنا، بل قبل تأسيس العالم، لأن الله فوق الزمكان ولا يحده الوقت، وقد شرح القديس أثناسيوس هذا باستفاضة في ضد الآريوسيين المقالة الثانية. فقره 5، وهذا أيضا يؤكد من الأية التي تقول معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله
(أعمال 18:15)
ولكن بعدما حدث وسقط الإنسان في الفساد، لم يكن هناك وسيله أخرى إلا التجسد، وأن يتأنس الكلمة ويصلب ويقوم غالب الموت بالموت ويعيد الفساد إلى عدم الفساد مرة أخرى. فلم تعد مثلا التوبة فعل كافي للإنسان لأنه قد نزعت النعمة من البشر وصاروا في فساد، فلا تستطيع التوبة أن تغير هذا الفساد لأن التوبة كافيه لعدم فعل الخطية مرة أخرى فقط، ولكن الإنسان لم يعد ينظر إلى أعلى بل إلى الماديات والشهوات عائشا فيها. فتجسد الكلمة في ملئ الزمن من العذراء المطوّبة، فأتخذ المسيح كل أداه من العصيان ليحولها إلى انتصار إلهي فيقول القديس يوستينوس:
إننا نؤمن أنه مولود من عذراء لكي يزيل العصيان الذي تسببت فيه الحيه بالطريقة نفسها التي نشأ بها هذا العصيان. لأن حواء وهي عذراء عفيفة (لأن آدم عرف امرأته بعد السقوط) حبلت كلمة الحيه وولدت العصيان والموت، ولكن العذراء مريم الممتلئة إيماناً وفرحاً عندما أعلن لها الملاك البشارة بأن روح الرب يحل عليها وقوة العلي تظللها والمولود منها يدعي ابن الله قالت “ليكن لي كقولك”، وبالفعل ولدت الذي أشار إليه الكتاب المقدس كثيراً والذي به يسحق الله الحيه، ويسحق هؤلاء الملائكة والناس الذين صاروا مثل الحيه، ويحرر من الموت هؤلاء الذين يتوبون عن خطاياهم ويؤمنون به.(القديس يوستينوس الشهيد)
فالكلمة المتجسد هنا قد استطاع أن يجمع فيه الكل، ليرجع الكل إلى عدم الفساد بكونه آدم الجديد الروحي، لأنه بحسب تعبير الآباء: احتوى في نفسه كل الطبيعة البشرية ل يصحِّحها و يرجعها كلها إلى جمالها القديم
. فالمسيح هنا قد دخل إلى هيكل جسدنا ومر بنا من الفساد إلى المجد والاتحاد بالمسيح، فالمسيح إذن احتوانا كلنا في نفسه لكي يصالحنا جميعا في جسد واحد مع الله الآب كما يقول بولس الرسول في (أفسس2 18:16) وعندما قال أيضا لأن الكل مات في المسيح
(2كورنثوس14:5) فعندما تألم المسيح كنا فيه، وعندما مات متنا معه، وعندما قام قمنا به وفيه.
فذاك الذي هو غير قابل للتألم كإله، تألم في جسده الخاص إنسانياً، وجعل الجسد القابل للموت خاصاً به.(القديس كيرلس السكندري)
إن الآباء الشرقيين لم ينظروا إلى المسيح الذي على الصليب بأنه مهزوم من الخطايا والموت، بل كان منتصرا على الموت وعلى الشيطان، فلخصوا هذا الانتصار في أنه لا انتصار لنا دون الاتحاد في المسيح “يقودنا في موكب نصرته” “طهر نفسك من الخطايا ولتمسح رأسك بالمسحة المقدسة لتصير شريكاً للمسيح”، وبدون تلك الشركة في المسيح لما صار للتجسد أي فائدة تعود علي الإنسان ولكن بشركتنا فيه صار انتصاره انتصارنا وموته موتنا وقيامته قيامتنا
الخاتمة:
رأينا من هذه الدراسة أن الفداء ليس مجرد رد فعل لخطيه آدم أو سقوطه، ولكن كان بالحري خِطَّة وتواجد إلهي عظيم، ومعد للإنسان من قبل بدأ الخليقة، فهو فعل اتحاد كامل إلهي إنساني عظيم. ويتضح مما ذكر من كتابات الآباء الشرقيين أن جميع الأفعال الإلهية يجتمع فيها عمل الثالوث، فدائما نرى جملة “من الآب في الابن بالروح القدس”، فالخلق تم بالآب بالابن بالروح القدس، وأيضا سننظر إلى الفداء نظرة ثالوثية. وقد اتضح هذا العمل الثالوثي في أن اللاهوت الشرقي لم يتغاض عن عمل الروح القدس كاللاهوت الغربي في البدلية العقابية. إذ اعتبر “الخلاص” ليس عملية تمت وانتهت بل عملية ديناميكية مستمرة في كل أفعال الله حتي الآن حتي وان لم ندرك هذا:
إن جميع ما يصنعه الله هو من أجل خلاصنا بتدبير لا ندركه(القديس باسيليوس)
وأيضا لم يهمل عمل الروح في التأله، حيث قال أن الباراكليت يمنح الاتحاد بالله وأن نصبح شبه الله، بل والأعلى من كل هذا هو أن نصبح آلهة
، هذا هو التراث الشرقي في النظر إلى العمل الفدائي ليس فقط كعمل بنوي أو عمل أبوي بنوي، بل عمل ثالوثي كامل اشترك فيه أقانيم الثالوث، الآب والابن والروح القدس، وتخالف اللاهوت الذي يقلص دور الروح القدس في صورة رمزية وتعظم دور الابن، وتنظر لدور الآب الناقم في خزي من السادية الأبوية، وتنظر لدور الروح بنظرة تعجب واستفسار، فان النظرة الشرقية للخلاص التي شرحها القديس باسيليوس هنا نظرة متكاملة للعمل الثالوثي للخلاص.
هوامش ومراجع:
1 – الإيمان بالثالوث في القرون الأولى، توماس ف تورانس، ترجمة د. عماد موريس، إصدار دار بناريون للنشر
2 – تجسد الكلمة، القديس أثناسيوس الرسولي، ترجمه المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية
3 – مجمع خلقيدونية إعادة فحص، بحث تاريخي ولاهوتي، الأب ف. سي. صموئيل، ترجمة د. عماد موريس إسكندر، مراجعة د. جوزيف موريس فلتس، سلسلة دراسات عن المسيحية في العصور الأولي، إصدار دار بناريون للنشر
4 – الطب النفسي الأرثوذكسي، ايروثيئوس فلاخوس
5 – سألتني فأجبتك، د. عدنان أديب طرابلسي ومجموعه من العلماء واللاهوتيين الأرثوذكس، الجزء الأول
6 – سلسلة النصوص المسيحية في العصور الأولي، القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد، الدفاعان والحوار مع تريفون ونصوص أخري، ترجمة أ. آمال فؤاد، مراجعة د. عماد موريس إسكندر، د. جوزيف موريس فلتس، إصدار دار بناريون للنشر.
7 – شرح قانون الإيمان، ترجمة وإصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، فقره 33، 34
8 – شرح تجسد الابن الوحيد للقديس كيرلس السكندري، تعليقاً علي فقره 37، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية
9 – مدخل إلى اللاهوت المسيحي، إعداد امجد بشارة
10 – مقال تدبير الخلاص، سكشن مدرسه تيرانس
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
Studies at Evangelical Theological Seminary in Cairo - ETSC
تمت الدراسة ايضا بمدرسة تيرانس للتعليم اللاهوتي والوعظ