Search
Close this search box.
منذ أيام، بدأ العرض الأول للفيلم القصير "الحفرة" من تأليف وإخراج "عمرو عابد" وإنتاج "كريم قاسم" وبطولة كل من "صدقي صخر" و"أحمد البنهاوي"، وذلك في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته ال43.

اتخذت موقعي المعتاد على الجانب الأيمن من صالة العرض شديدة البرودة، متحمسة ومشجعة، فأنا أدرك جيدًا صعوبة خروج فكرة ما للنور بعد سنوات من البلورة والعمل الشاق. كانت مدة العرض تقريبًا 15 دقيقة أو أكثر بقليل، غلبت الإضاءة الحمراء الممتزجة باللون الأخضر المائل للزرقة على الأجواء، موقع تصوير واحد وممثلان اثنان فقط ووتيرة سريعة معتمدة على الحوار المتبادل لكنها تكشف أكثر مما يُنطق به!

تدور الحبكة ببساطة حول شقيقان أحدهما مُمثل موهوب، غير تقليدي، محبوب من عائلته وله شعبية لا بأس بها، من الجانب الأخر هناك الأخ الهادئ، البشوش، الذي يتبع القواعد ولا يجرؤ على كسرها حتى بينه وبين نفسه! للوهلة الأولى، تتصور كم هو بغيض ذلك الفنان الذي يدفع أخيه دفعًا للتعبير عما بداخله من كراهيَة وسواد، فربما تقول: لماذا يفعل ذلك؟ فأخيه لطيف ويتمنى خير الجميع. لماذا يُساومه على حضور حفل زفاف؟ فلن يخسر شيئا من مجاملة اجتماعية عابرة.

بين تلك التساؤلات، كان العرض ينفجر بالضحكات المتوالية لأسلوب الممثل الساخر المُصر على توبيخ أخيه وسب أبيه وضرب كل الـ”مفروضات” بعرض الحائط. والحقيقة أني نوعًا ما شاركت الضحكات، فمن النادر انتزاع ضحكة وسط موبقات الحياة الصاخبة، وإن تملكني توتر، خوفٍ ما، شيء يُخبرني هذا ليس مُدعاة للضحك، أنها مرارة مُغلفة بطبقة من الـ”كراميل” السائح، طبقة ذاتية جاهدت لتُظهر نفسها عارية مُثخنة بجراح لم تلتئم بعد! ذاتية قد تُعيد إليك مُحاكمة “شاهين” لنفسه وماضيه ومستقبله في فيلم “حدوتة مصرية”: الطفل الذي يريد تدمير ذاته إذ لم يعد قادرًا على مُداواه الجروح العميقة. ذاتية سريعة القطعات تُجبرك على تكملة التجربة إلى نهايتها!

"الحفرة" وسُمّية المجتمع الزّائف 1كان ما توقعته صحيحًا: فمع اقتراب نهاية العرض، أعيد إلينا مشهد دفن “” لـ”” تحت رمال من مشاعر الخزي والشعور بعدم الاستحقاق، لحظة من تكشف حقيقة الوجه البشوش اللطيف الذي لا تخرج العيبة من فمه، فهو أيضُا قبر مُبيض لعبت به الحياة وأنهكته معاييرها وتخبط عدالتها، والحقيقة، كل الحقيقة، أنني تعاطفت معه للغاية حين صاح مُعبرًا عن غضبه من كل شيء يقمعه حتى الإله القدير!

خلال عرض قصير المدة، تواترت داخلي أسئلة كنت ومازلت أبلعها بعمق داخل كياني، والحقيقة هذا جانب جيد من الفن: فهو مؤثر ويمس جزءًا من روحك كان يمكن أن تنسى وجوده. أحيانًا، وكثيرًا، من شدة تأثرك بعمل ما، أو في شدة اكتماله، تبدأ في فتح ملفاتك الأقدم والأكثر تقيحًا! ألا يُذكرك كل هذا بشيء؟ هذا ما قلته لنفسي بنهاية العرض وساقي اليسرى تهتز متوترة! بالطبع ذكرني ويُذكرني، فكما أن تجربة “الحفرة” تغلب عليها الصدق الذاتي، تجرأت وكتبت تلك السطور حول أكثر المواقع التي تعلمنا فيها ارتداء الأقنعة وارتداء القطع الجديدة على نزف دامٍ.

ههنا، سأطلق عليها مصطلح المجتمعات المزيفة السامة، هربًا من مقص الرقيب، لكن وأنت تقرأ بإمكانك مطابقة معايير وصفات المجتمعات السامة على ما شئت، فقط استجمع شجاعتك واكمل قطع البازل المتناثرة فترى بوضوح على من تنطبق تلك المعايير. ولأني من عشاق “سورين كيركيجارد” فربما أعذبك معي ببعض أقواله الوجودية خلال رحلتنا القادمة [1].

The most common form of despair is not being who you are

(Søren )

الشق الأول من سمات المجتمعات السُمية هو القولبة: لا تعترف المجتمعات السُمية بقدرات الفرد في ذاته وإن أكدت على مسامعنا ليل نهار كم أن الإنسان هو لمحة من التصور الإلهي الكامل للحياة، الكائن العاقل الحامل لسمات الأبدية في روحه بشكل خاص. لكن، المجتمعات “إياها” لا تقدر بل لا مكان فيها لأي نوع من التفرد والاختلاف: فقط كن كفلان أو علان وليس ذاتك لنرضى عنك. تلك المجتمعات دائمًا ما تضعك في موقع المقارنة، لا مجال ههنا للأصالة والاختيارات الحرة، أو بمعنى أدق لا قدرة لدى مرتادي تلك المجتمعات على التعبيير عن ذواتهم ودائمًا ما ستجدهم باحثين عن من يحمل عنهم وزر القرارات. حياة كاملة لا تديرها بتعقل أو تدبر لكن هناك من يشد خيوطك لتتشكل على مقاسات مجتمعه! مؤسف.

What if everything in the world were a misunderstanding, what if laughter were really tears

(Søren Kierkegaard)

الشق الثاني في التعرف على المجتمعات السُمية هو معيار الإنجاز السريع: تتبع المجتمعات السالف ذكرها معيار البقاء للمتفوق، فتكرم الناجح والصالح أخلاقيًا وكل من يتبع الصواب والمفروض من قواعد تلك المجتمعات الواضحة. الحقيقة أن ذلك ليس سيئًا بالكامل فما الضرر من اتباع القواعد أو محاولة الإنجاز أو الصلاح الأخلاقي؟ في الواقع لا ضرر إطلاقًا. لكن يبدأ الضرر حين ترسل لك تلك المجتمعات سمها باستمرار في أن وجودك، كيانك بالكامل لا معنى له ولا يحدده سوى ما تفعل! أنت لست ما تكون بل ما أنت فاعله! بهذه الطريقة تحاول فقط اللهث وراء مكافأة قبول الجماعة التي تنتمي لها، حيز أكبر نسبة من أمان وجودهم حولك، فاحتمالية انكشاف بعض الرغبات الجامحة أو الخلل في شخصيتك سيعرضك لسيل من الخذلان والرفض. فما العمل إذًا؟ تمامًا كجبل الثلج تُخفي كتلتك الأعظم تحت المياه وتظهر كما يُريد ذلك المجتمع! ربما الآن تُدرك أن ليست كل الابتسامات حقيقية.

Love is all, it gives all, and it takes all

(Søren Kierkegaard)

الشق الثالث في التعرف على المجتمعات السُمية هو معيار النمو مقابل الإنجاز: بكلمات أقل تعقيدًا: الظاهر أولى وأهم من الباطن! هل تتذكر مثل الزارع الذي سقطت ثماره على الطريق وعلى الأرض الصخرية وعلى أرض شوكية وأخيرًا على أرض جيدة؟ تعرف تلك المجتمعات جيدًا مظهر الثمار وقت الحصاد وروعة خضرة الأرض ذات التربة العميقة حيث تضرب النباتات جذورها، ولكنها لا تمتلك ذلك العمق ولا تلك القدرة على طلب يد العون لتُصلح. فماذا تفعل؟ تُقرر الاستعانة بنباتات صناعية مفروشة فوق تربتها، مشهد مبهج وبديع سمته الكمال ظاهرًا لكنه فاسد إلى العمق ومع أقل امتحان حقيقي سيتداعى منهارًا! هذا قد يُعيدنا للنقطة السابقة التي تعتمد في المقام الأول على الظهور بالمظهر الصالح لكن المختلف في هذه النقطة هو سُمية التمحور حول الذات في المقام الأول: فأن تتبع القاعدة لتنال المكافأة أو ترضى عن ذاتك هو إعادة إنتاج لجذر مشكلة التمحور حول الذات والخوف من افتضاح الحقيقة بدلًا من تعريضها للنور ومعالجتها.

في تلك المجتمعات، لا يتم تقدير من أين بدأت وأي رحلة قطعت فالمهم أن تبدو مثلما نرجو: غير مدخن، صالح، لا تصيح، لا تسب، لا تغضب، لا ترتدي ذلك، لست أنانيًا، لست حاقدًا وغيرها. ولهذا قد تكون من سيء لأسوأ من الداخل لكن لا يهم نموك الشخصي، فالأفضل هو إنجاز معاييرنا! تُروى الثمار بالحب وليس بإطلاق الأحكام والمواعظ.

هاممني مكونش زيف لابس يقين!

في النهاية، ربما تكون قد استنتجت لماذا تعاطفت مع الأخ المنبوذ من فيلم الحفرة، فهو مثل الكثيرين حولنا، يشحذون الحب والقبول، ينعمون بالدفء الكاذب لأمن جماعاتهم، لا يجرؤون على معالجة مشاكلهم فهم لا يعرضونها للنور من الأصل، هم فقط مختبئون داخل قشور من الذات الزائفة التي لا مبادئ لها في ذاتها إنما تحاول إنتاج ما تتلقنه سلوكيًا فقط! فلا حب حقيقي، لا مودة حقيقية، لا عفة متأصلة، لا إيثار أصيل، لكن عظام أموات وكل نجاسة في محاولة فقط للحياة، حياة بائسة لا تُعبر عن ملء الكينونة وثقل مجد الخليقة الأولى.

هوامش ومصادر:
  1. أفكار مستلهمة من محاضرات: “مشكلة الخزي… الجذر السام لكثير من أمراضنا الروحية والنفسية” للمحاضر: أندرو أشرف. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟