اليوم: الجمعة..
الوقت: بعد غروب الشمس بقليل..
المكان: شارع كلوت بك المتفرع من ميدان رمسيس المزدحم، المؤدي للكاتدرائية المرقسية القديمة بالأزبكية..

الباعة الجائلون يفترشون الأرصفة على الجانبين، والمسيحيون يسيرون بجانبك كمنومين مغناطيسياً يعرفون هدفهم جيداً، يمكنني تمييز ملامحهم جيداً.. لم أستعجب كثافة اﻷعداد، فصديقي الذي أصر على أن نخوض تلك التجربة سوياً نبهني مسبقاً بالزحام المتوقع. دقائق ووصلت لهدفي، وبالرغم أني تعمدت الوصول مبكراً بوقت كاف قبل موعد بدء الاجتماع، حرصاً على مكان مناسب في الصفوف الأولى يؤهلني للمشاهدة من كثب، لكن يبدوا أن تلك الفكرة قد راودت الجميع، بالكاد تمكنّا أنا وصديقي من الحصول على مكان متواضع في الصف الأخير تقريباً.

رحلة الدجل والشعوذة <br />من "مكاري يونان" إلى "سعيد عبده" 1جلست وصديقي متجاورين قبل حضور القس “” بنحو نصف ساعة كاملة، قضيتها في تأمل وجوه الحاضرين وتحليلها كما يحلو لي دائماً، تلاحظ وجود عدد من الأخوات المسلمات في الصفوف الأولى، تعرفت إليهن من الحجاب الذي يغطي رؤوسهن. تفوهت ببعض العبارات الساخرة لصديقي قبل أن ألحظ أن جاري على المقعد المجاور قد بدأ يزمجر كأسد، غاضباً من سخريتي اللاذعة، قبل أن يلكزني صديقي في صدري وعلى وجهه ترتسم عبارة “في عرض ربنا أقفل بقك شوية بدل ما هانتطحن ضرب”

حاولت جاهداً أن ألتزام الصمت قبل أن يحضر القمص المبجل في زيه الكهنوتي وسط هتاف الحضور والاحتفاء المبالغ فيه، توسط مقعده أمام الهيكل قبل أن يبدأ في ترديد بعض الترانيم المسيحية الشعبية الرديئة بصوته المتحشرج البشع، أعقبها بعظة أو خُطْبة لم أفهم منها شيئاً، فالكاهن المبجل لا يقول شيئاً مفيداً، هو فقط يؤدي عرضاً مسرحياً بدا لي وكأنه تدرب عليه عدة مرات مسبقاً. تذكرت لوهلة صور الفوهلر وهو يتدرب على فن الإلقاء بغرض التأثير على الحضور، وقارنتها بأسلوب القمص “مكاري يونان” المسرحي، وهو يتعمد أطالة بعض الجمل والعبارات والكلمات بأسلوب بائس مضحك للغاية. تأملت وجوه الحضور فوجدتهم منبهرين منصتين وكأن على رؤوسهم الطير استعدادا لفقرة الساحر المعتادة التي بدأت في غضون دقائق.

تقدم بعضاً من السيدات والبنات يستندن إلى أيادي ذوييهم ناحية القمص يونان، ثم بدأن الحديث بأسلوب كوميدي يشبه أفلام المقاولات في زمن النكسة، يتصنعن الصعوبة في الكلام للإيحاء أنهن ممسوسات من الشياطين، قبل أن يبدأ القس مكاري في مخاطبة الذي يسكنهن، ويلقي عليهن بعضاً من صلواته قبل أن يرشهم بالمياه المباركة ثلاث مرات، فتقوم الشابة أو السيدة متعافية دفعة واحدة وتتحدث بشكل طبيعي جداً. شتان الفارق بين ما هي عليه الأن وبين ما كانت عليه من ثانية واحدة.

رحلة الدجل والشعوذة <br />من "مكاري يونان" إلى "سعيد عبده" 3يسألها القس عن اسمها فتجيبه باسم إسلامي قح. أسم لا يحمل أي شبهة في كونه أسم مشترك بين المسيحيات والمسلمات، في كل مرة الاسم يكون إسلامياً خالصاً. فاطمة أو خديجة أو أم محمد، حتى بالرغم من كونها محجبة، لكن الاسم الإسلامي القح أدعى في التأكيد على هويتها الدينية، قبل أن تندفع الزغاريد من حناجر وأفواه الحضور عالية، مهللين بخروج الشيطان من جسد الممسوسة، التي تأخذ الميكروفون من القس المبارك وتحكي قصتها البائسة ولا تنسى أن تختمها بعبارات الشكر والأمتنان للقس الخارق للطبيعة.

عرض مسرحي بائس متكرر منذ عقود، والمتابعين يحرصون على مشاهدته، وعلى وجوهم نفس تعبيرات الانبهار وكأنهم يشاهدون للمرة الأولى في كل مرة، ولا بأس أن ينوع القس مكاري من قدراته الإعجازية، فمرة يخرج الشياطين والمرة التالية يشفي من مرض السكر المزمن، وهكذا، حرصاً على تنوع العرض المسرحي، ومنعاً للملل من جَمهور لا يمل أبداً.

انفلتت مني ضحكة ساخرة وتهكمت على العرض البائس دون أن أنتبه، قبل أن ترتفع أصوات المحيطين بي يلعنون عدم إيماني ويتهموني بأنني لست مسيحياً قبل أن يتفوه أحدهم بلهجة آمرة “طلعوه بره” فتمتد بعض الأيادي محاولة إرغامي عنوة على الخروج، حاولت المقاومة لكن صديقي نصحني بالمثول حتى لا يتطور الأمر لما هو أسوأ من ذلك، فأذعنت وأعلنت استسلامي وهممت بالخروج وسط نظرات السخط والضيق والغضب من المحيطين.

في الخارج وجدت وحدة تليفزيونية تابعة لقناة مسيحية أمريكية تبث من كاليفورنيا تدعى قناة الكرمة، وقفت لثوان أراقب مسؤول المونتاج والشاشات العديدة التي يتحكم فيها في مهارة، قبل أن ألاحظ هذا الشريط الأحمر الدقيق الذي يدعو المشاهدين للتبرع بسخاء لدعم القناة والخدمة، افلت مني مجددا ابتسامة ساخرة، لم يلحظها أحد، قبل أن ألمم نفسي وأرحل.

البداية في أسيوط

رحلة الدجل والشعوذة <br />من "مكاري يونان" إلى "سعيد عبده" 5تبدأ قصة الأب المثير للجدل في أسيوط، عندما سيم قساً بيد المطران الراحل أنبا ميخائيل عام 1976، وخدم في أسيوط نحو عام تقريباً قبل أن يوقفه الأنبا ميخائيل بسبب أسلوبه المسرحي الاستعراضي البعيد كل البعد عن عمق المسيحية، وبحسب موقع الأنبا تكلا، فأن سبب الطرد المباشر كان أسلوبه الغير لائق خلال عظة أحد الشعانين بحضور الأنبا ميخائيل، وبسبب بعض الملاحظات العقائدية في عظاته. فشد القس “يونان” رحاله إلى القاهرة بحثاً عن فرصة أفضل للظهور والنجومية والشهرة، فرصة تناسب مواهبه التمثيلية وقدراته، لكنه أصطدم مع الوحش الكاسر: الأنبا بيشوي، بعدما حوله ال للمجلس الإكليريكي لمحاكمته، بسبب ميوله البروتستانية، لكن يبدو أن الشعبوية التي صنعها “مكاري يونان”، والجمهور العريض الذي ألتف حوله، كان أقوى من قرارات البطريرك والأنبا بيشوي مجتمعين.

رحلة الدجل والشعوذة <br />من "مكاري يونان" إلى "سعيد عبده" 7قيل وقتها أنه قد فرض إرادته على البطرك القوي، الأنبا شنودة، واستولى على الكاتدرائية المرقسية القديمة، منافساً الأنبا شنودة في العظة الأسبوعية. وحرصاً على عدم تضارب المصالح، فضل “مكاري يونان” أن يعقد عظته يوم الجمعة تاركاً الأربعاء للأنبا شنودة. ويبدو أن ما قيل كان صحيحاً، فلم يقو الأنبا شنودة على وقف عظة القس “مكاري”، وأستمر في تقديم عظاته وعروضه المسرحية الأسبوعية حتى يومنا هذا، متعمداً جذب الانتباه بين الحين والأخر عندما يشعر بخفوت الأضواء. ففي يوليو 2015 خلال عظته الأسبوعية بالأزبكية، دعا سيدة خلال عظته لتروى شهادتها عما قالت إنه ظهور للسيد المسيح على شاشة قناة “الكرمة” الفضائية المسيحية. أدعت حينئذ أنها التقطت صورة للقس “مكاري يونان” خلال العظة وقد ظهر بجانبه المسيح بكاميرا هاتفها المحمول، قبل أن يلتقط القس هاتفها ويعرض الصورة المزعومة للحضور، الذي ضج بالتصفيق الحار. صورة رخيصة معدلة بالفوتوشوب للقس “مكاري” وبجانبه صورة مرسومة لوجه المسيح، وعلق “مكاري يونان” على حديثها باكياً بعبارة “المسيح حاضر وسطينا”. حيلة رخيصة لزيادة نسب المشاهدة على القناة ومن ثم زيادة التبرعات.

خلال كل تلك السنوات حاول العشرات، بل المئات، من الكتاب والمثقفين، تفنيد عرض مكاري يونان المسرحي بحجة التنوير والرجوع عن طريقة المسيحية الشعبوية والدجل والشعوذة، لكن لا حياة لمن تنادي، فالخرافة والجهل أقوى من أي تنوير.

 

رجل الله: سعيد عبده

أستمر يونان لأكثر من أربع عقود أو يزيد ملهماً العديدين ليسيروا على دربه، حتى ألتقط طرف الخيط منذ عدة أعوام شاب موهوب في التمثيل يدعى “سعيد عبده”، ويلقب نفسه بالقس المبشر رجل الله. قصير، مترهل الجسد، يمتلك كرشا عريضا، ولا يرتدي ملابس كهنوتية مثل “مكاري يونان”. وبحسب موقعه الشخصي يعرف نفسه على أن لديه “مسحة” من الروح القدس للشفاء من الأمراض المستعصية مثل التهاب الكبد والسرطان والعقم ومشاكل القلب، وإخراج الشياطين وتعليم الألاف. ينتشر “عبده” في الإسكندرية عن طريق كنسيته التي سماها “نور المسيح للأمم”، ولا ينسى خلال موقعه الشخصي البدائي أن يطالب الزوار بالتبرع السخي لأن “رجل الله سعيد عبده يستغرق وقتًا للصلاة من أجل اسمك وعائلتك”

فيديوهات “سعيد عبده” تفوق فيديوهات “مكاري يونان” إثارة للجدل بمراحل. يبدأ “عبده” اجتماعه بالصلاة الارتجالية التي يؤكد أنها تخرج من عمق القلب لتصل إلى مسامع الله، ويفصل بين كل صلاة وأخرى مجموعة من الترانيم التي تعتمد على نوع من الموسيقى يتسم بالحماسة التي تُلهب المستمعين لتجبرهم على مشاركة الجسد للإيقاع باهتزازات انفعالية في صورة أشبه بـجلسات الزار. ويستكمل سعيد اجتماعه بفقرة البركة التي يدعى أنها حلول للروح القدس، فيضع يده على رؤوس الحاضرين في اجتماعه، أو على الهواء، فيبدأ الحاضرون في التدافع حتى يسقط جميعهم على الأرض، مع صراخ شديد كعلامة على حلول البركة. ويؤدى عشرات المشاركين الذين يداومون على حضور الاجتماع، حركات غير مفهومة تشبه ما يفعله المصابون بمرض الصرع.

رحلة الدجل والشعوذة <br />من "مكاري يونان" إلى "سعيد عبده" 9يختتم “سعيد” اجتماعه الأسبوعي، بفقرة إخراج الشياطين المسرحية، يهمهم فيها “سعيد عبده” ببعض الكلمات والجمل القتالية قبل أن يوجه لكمة في الهواء في وجه الممسوس بالتزامن مع صوت لكمة قوي “بووم” من فم “سعيد عبده” كموسيقى تصويرية للحدث، فيسقط الممسوس على الأرض دون أن يلمسه “سعيد”، بينما يُطلق الممسوس أصواتًا غريبة غير مفهومة، وينتفض بقوة بينما أيدي الخدام والخادمات الأفارقة المعاونين للأخ سعيد يحيطون بالممسوس إحاطة السوار بالمعصم، حتى تحين اللحظة المناسبة التي يطلق فيها سعيد عبده “بوكس الروح القدس” من قبضته المدمرة على غرار “مازنجر”، مع صوت “بوووووم” قوية في الميكروفون، فتكون تلك الإشارة للمعاونين حتى يتركوا الضحية فيسقط أرضاً في حركة مدروسة ويتنفض لعدة ثوان قبل أن يقوم معافى تماماً ليتحدث بشكل طبيعية شاكراً الله ورجله “سعيد عبده” على نعمة الشفاء من الشياطين.

ولا تقتصر خدمات سعيد عبده على إخراج الشياطين فقط، ففي فيديو أخر يأمر عبده الفقرة القطنية أن تنشفي بأسم “يســــــووووووووووع” – كما يتعمد أن يطيل في الأسم – فتستجيب القطنية في الحال وتنشفي وتقوم المريضة التي لم تكن تقوى على السير بمفردها منذ ثوان، وتسير بطريقة طبيعية، ولا بأس أن تقوم ببعض التمارين الصباحية مثل تمرين الأنحناء بظهرها للأسفل حتى تلمس بأصابع يدها مشط قدميها كدليل على شفاء الفقرة القطنية اللحظي كأمر رجل الله “سعيد عبده”، وتضج القاعة بالأحتفال والصراخ الهستيري فرحاً وتهليلاً.

رحلة الدجل والشعوذة <br />من "مكاري يونان" إلى "سعيد عبده" 11دفعني أسلوب “عبده” المسرحي للتعرف عليه أكثر وأكثر، وأسال شهيتي وفضولي للتعرف على تلك العقليات التي تتبع شخصاً مثله. أتتني الفرصة عندما أرسل لي أحد الأصدقاء رابط “جروب الحصاد الأخير” على تطبيق “تيليجرام”، التابع للأخ “سعيد عبده”، ولم أضع وقتاً، فالجروب يحوي أكثر من ألفي متابع نشط، ولا يحوي الجروب على أي دعوة للصلاة أو التوبه أو ما شابه، وانما يدور حول نظريات المؤامرات والماسونية وعلامة الوحش والرقاقة الذكية التي يدسها بيل جيتس بكل خباثة في أجسام المسيحين عبر لقاح كورونا لتمييزهم بعلامة الوحش 666 بحسب سفر الرؤيا، والاف التحذيرات من تلقي اللقاح الذي يعتبره الأخ “سعيد”، وزوجته خطية يجب التوبة عنها، وعشرات الفيديوهات الساذجة التي تؤكد أحتواء اللقاح بأنواعه الدولية المختلفة على خطة لتغيير الجينوم الألهي المرتبط بشبكة الجيل الخامس من التليفونات المحمولة، ولم أفهم العلاقة بينهم، حاول بعض اعضاء الجروب المشبوه توعية الأعضاء فقابله الأدمن بالطرد خارج الجروب والحظر التام.

رحلة الدجل والشعوذة <br />من "مكاري يونان" إلى "سعيد عبده" 13أسلوب “عبده” الفني يقترب من اسلوب الكنيسة الية، لكن القس رفعت فكري نائب رئيس “سنودس النيل الإنجيلى” أكد أن “عبده” لا ينتمي للكنيسة الأنجيلية من قريب أو من بعيد، لأن على علم بقساوستها وشيوخها من الإسكندرية إلى أسوان، مؤكدًا أن عبده لا منصب له بالكنيسة الإنجيلية المشيخية على الإطلاق، فليس قسًا ولا راعيًا ولا شيخًا، وأكد القس رفعت فكري أن الطقوس التى يؤديها “عبده” لا علاقة لها بالكنيسة الإنجيلية، موضحًا أن “عبده” غير موهوب فى إخراج الشياطين أو شفاء الأمراض، وإنما يعتمد على إثارة عواطف التابعين له، من خلال الموسيقى المُستخدمة وحركات التمايل والاهتزاز العنيف الذى يشبه الصرع، الأمر الذى يعتمد عليه بعض البسطاء فى إخراج الطاقات السلبية والإحباطات التى يمرون بها فى حياتهم اليومية.

ما بين “مكاري يونان” و”سعيد عبده” أطنان من رواسب الجهل والسطحية ترعرعت في وادينا الطيب لعقود، ولا يبدو أن هناك من يقدر على مواجهتهم أبداً بعدما صار هؤلاء مصدراً سخياً لتدفق مئات الأف من التبرعات السخية، وقنوات فضائية تتبنى خطابهم المشعوذ.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤