ربما عليك الانتظار حتى تتمكن من الحكم جديًا على أمر ما، لكن لعل 10 سنوات كاملة مدّة كافية. بالطبع هي كافية، هناك من عاش ومات وسافر وعاد في 10 سنوات، إلا شيئا واحدًا: تلك البراءة القديمة والرغبة الصادقة في التغيير التي طحنتها قسوة الواقع، ولاكتها اضطراباتنا الداخلية بين فكيها.

في الحادي عشر من نوفمبر 2011، لاحت في الأفق بوادر الأمل في نوع ما من الوحدة والاتساق تحت سفح جبل المقطم بعنوان: “ليلة الرجوع إلى الله”. كان عجيبًا أن ترى اجتماعًا مسيحيًا اتفقت فيه الطوائف، التي لطالما اتفقت على إلا تتفق، مجتمعة، تُسبح وتُرنم، وتتشارك أجواء البهجة، ويسكن أعضاء كلًا منها دافئًا إلى جاره. ألم أقل لك أنه كان من أنبل الأحلام، حُلم لم يتكرر، حُلم كذلك الذي وعدتنا به قناتا شباب المستقبل “سبيستون” وأوبريت “الحلم العربي” مجتمعان! في تلك الليلة، اجتمعت التسابيح ورفرفت الأعلام عاليًا، كيف حدث ذلك وما أسبابه؟ كيف أراه اليوم؟ وكيف يتعامل القبط أنفسهم الآن في ظل تبعات ذلك اليوم؟

حين أفكر اليوم في هذا التجمع، أتذكر فصول “” التي صورت لنا الطوائف الأخرى – بالأخص الإنجيلية منها – كمتآمر ضخم ذو حوافر وقرون يرغب في اصطياد أتباعًا جدد! الصورة التي انتابني الشك فيها حين فتحت “قصر الدوبارة” أبوابها لمصابين “ميدان التحرير” و”محمد محمود”، متحولة إلى مستشفى ميداني في خضم مظاهرات يناير 2011.

كانت تلك السنة عجيبة بحق، فعلى الرغم من كوني في بادئ المرحلة الثانوية، إلا أنه كان ثمة تحرك، لم أفهمه سوى الآن، وهو الرغبة العارمة في الحرية، التصرف كبشر كاملي الأهلية، إعادة التفكير في المسلمات المتوارثة.. ظهر حينها مصطلح “ندين بدين الإنسانية”.. الإنسانية الكافية لإذابة الفوارق الطبقية والطائفية والمذهبية، والتمحور حول هدف أسمى وأجل. وعلى الرغم من رفرفة شعارات لا يهمني اسمك لا يهمني عنوانك في الأفق، كانت رواسب التعصب والاحتقان الطائفي والمذهبي تندد بتلك التجمعات -على استحياء- على عكس ما سنحلله اليوم، وتطالب الأتباع بعدم الانسياق وراء التيارات الغريبة.

لم يلق الأقباط لتلك الدعوات بالًا في 2011، بل نسبة كبيرة منهم تجاهلوها، ربما لأن الأجواء العامة للبلاد كانت تنذر بخطر محدق، وتتطلب الاحتماء بونس البشر، والدفء الروحاني الحقيقي غير الموجود داخل جدران الكنائس المحلية، والتي تتسم تجمعاتها بالمحاباة والأقنعة. لتلك الأسباب بعينها، ورغم التحذيرات المبطنة بنبرة الشفقة والاهتمام، لم يستطع أحدا إيقاف ليلة الرجوع إلى الله! الآن التمس العذر للمجتمع الكنسي، فقط اليوم أدرك أنه مجتمع مؤسسي، ولكي تكون مؤسسة لابدَّ أن تمتلك نظامًا هرميًا وعدد من الأتباع المنصاعين، لهذا غالبًا تهددك فكرة التفرد والحرية المطلقة والانشقاق عن القطيع.

بالعودة إلى العام الحالي 2021، نتساءل: أين ذهب هذا المواطن المصري القبطي وأين اختفى؟ هل رجع إلى الله بحق؟ هل أعلى قيم التسامح والإنسانية؟ هل يفخر بذكريات 2011؟

في واقعنا المنقسم، سترى الأقباط أيضًا منقسمون:

فهناك من يلعن ويسب 2011 بكل ذكرياتها وبالأخص النهضات الروحية التي حدثت فيها، ويصف الأمر حرفيًا ب”اتحاد الخبل الي مع العته القبطي”! وبالطبع هذا اتهام ضمنى لكل حضور تلك التجمعات بالعته والخبل والإصابة بالهلاوس السمعية والبصرية! اتهام فج مضمونه نرجسية بغيضة واستعلاء استحقاقي يقبع في أعماقه امتلاك الحق المطلق وتشييء الأخر واختزال كينونته. هذا الفريق لذيذ للغاية، فهم على كل الألوان تقريبًا: قامت ثورة: لنشجعها أو نلعنها، تيارات إسلامية تُرشح نفسها: نقاوم، تنحى رئيس: نفرح أو نحزن، المسكين: “ترند”، يجلب لنا الاحترام أو نتسق مع أنفسنا ونكرهه.. إنه حقًا فريق لذيذ: إن عشت على هواه مُجاملًا ستتلقى المديح وإن خرجت عنه ستتلقى اللعنات! لم يُحبذ هذا الفريق – لا أقصد التعميم- مجازفات الحرية واتخاذ القرار، تمامًا كما قال المفتش الأكبر للمسيح في رواية ، رجع هذا الفريق بنوع من الاستسلام لقطيعه الحاني، مختبئًا وَسَط جدران الكنائس، وغارقًا في تراتبية الخدمات، تاركًا من يضل لضلاله، ومن يأتي لصلاحه، فلا اعتراض إلا لأقل القليل، ولا يوجد شيء فاسد فكل الأجواء وردية، وتارة ندعم رأس الكنيسة وأخرى نهلل لقتلة الأبرار!

أما الفريق الأخر، والذي أكاد اكون في تلابيبه، فقد ظل حائرًا. والحق يمكننا غلق هذا المقال بتلك الكلمات: ظل حائرًا! نعم!! فريق شكلته عشرة سنوات من الصراع والتخبط والاصطدام بالصور المثالية. لم نغير الواقع لكن حملنا أجنة أحلامنا وواصلنا السير بها، رغبنا في طريق يجمعنا برفيقنا المتمرد على كل فساد وظلم، “المسيح”، أحببنا البر وأبغضنا الظلام والفساد، لذا لم نستطع العودة بالكامل إلى جدران كنائسنا المحلية ولا حلقنا بالكامل بعيدًا! أعضاء هذا الفريق تفرقوا بحثًا عن “الواحد”، فهناك من حاول البحث في الكنائس بكل طوائفها، وهناك من يبحث في المجتمع المدني، وآخرون على فوهة الشك واللا-يقين، جميعنا يطارد سراب الحرية والسلام. لكن يكفي المحارب صدق بحثه، ويكفي الأطفال مسيرة نموهم، يكفينا شرف كوننا أنفسنا. ربما في 2011 أردنا تحويل مسار العالم ورغبنا في وحدة مزعومة، لكن اليوم أتضح لمعظمنا أن كل تغيير يبدأ من الداخل ويمتد ليشمل دوائر أوسع وأشمل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

سارة قسط
[ + مقالات ]