كما في السياسة كذلك في القيادات الدينية، تتحدد المواقف حسب خريطة الولاءات، ومنها تتشكل خريطة الموالاة والمعارضة.
على غير تمهيد وفى هجوم تكتيكي مباغت، خرجت علينا بعض القيادات الكنسية القبطية الأرثوذكسية ببيان يرفضون فيه بعض أسماء المحاضرين في لقاء نقاشي دوري، سوف يعقد في مناسبة الاحتفاء بذكرى جلوس البابا البطريرك الأنبا تواضروس.
وأصحاب الهجوم يزعمون أن هدفهم حماية الإيمان، فيما هم يسعون لنشر السجس في الشارع القبطي لينالوا من بقاء قداسة البابا في موقعه.
وهم مجموعة تجمع نوعين؛ منهم من لم يحالفهم الحظ في الوصول للكرسي البابوي، ومنهم من يؤمن بأن البابا شنودة أخر البطاركة الكبار وكان على من يخلفه أن يكون صورة مستنسخة منه.
وكلاهما يضمر رفضا للأنبا تواضروس ولكلٍ دوافعه!
لأنه جلس حيث كانوا يمنون أنفسهم به عند الفريق الأول وكانوا يتهيؤون له، ولأنه قفز على ما استقر في عهد سابق، وبحكم خلفياته العلمية والجيلية انتهج نهج مأسسة الكنيسة وسعى للانتقال من الفرد للمؤسسة، ورد الاعتبار لمبدأ مجمعية الكنيسة. ولم تعد القرارات تصدر بالتمرير كما كان قبلا بيد سكرتير مجمع الفترة السابقة رجل البابا الحديدي.
ولما كانت المعرفة الأكاديمية هي أساس أيّة نهضة مرتجاة، فقد استن البابا تواضروس سُنّة جديدة في مناسبة الاحتفال بذكرى تجليسه وهى عقد سيمينار (مؤتمر بحثي نقاشي) لآباء المجمع، يحاضر فيها متخصصون من الأكاديميين اللاهوتيين والتاريخيين.
بدلًا من كونها مهرجانًا تقريظيًا وممالأة لشخص البابا.
تأتى الاعتراضات، بحسب ما نشره بعض هؤلاء المعترضين، مبنية على زعم أن بعض المتكلمين في سيمينار هذا العام يطرحون تعاليم مخالفة لما تقول به الكنيسة، بدرجة تصل إلى الهرطقة.
وهو ما ينفيه تسجيلات لحلقات تليفزيونية كان المحاور فيها من رتب للحملات الأخيرة، وكان المستضاف فيها الأستاذ الدكتور چوزيف موريس فلتس أستاذ اللاهوت في المعاهد القبطية، وهو الاسم الأول المعترض عليه، فيما كان محل تقدير عند مقدم البرنامج لكونه لاهوتي أرثوذكسي رصين له إسهاماته العميقة، في إثراء الفكر القبطي والمكتبة القبطية. وهو أحد أعلام الترجمة لكتب آباء الكنيسة الكبار في القرن الرابع وما بعده، عن لغتها الأصلية، اليونانية، واشهر أعماله هذه كتاب تجسد الكلمة
للقديس البابا أثناسيوس الرسولي، العمدة في كتب الكريستولوچى.
ولم ينتبه أصحاب تجريدة تشويه السيمينار أن المتكلم الثاني الذي يرفضونه، د. سينوت دلوار شنودة، يغلب على أنتاجه الفكري الكنسي البعد التاريخي، فأين الهرطقة في تحليل الوقائع والأحداث التاريخية؟
ومن يقترب من المستقر في دوائر القيادات الكنسية بجد أنهم يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق حصريًا في التعليم، وانهم لا يتعلمون من بشر، فهم مسوقون ومتعلمون من الروح القدس مباشرة، فكيف يسمحون لمن هم دونهم من العلمانيين أن يجلسوا في موقع المعلم لهم؟
الصدام الأخير هو محك اختبار للكنيسة، إما أن تكمل مسيرتها للخروج إلى النهار، أو ترتد إلى مراحل الانقطاع المعرفي وتنكفئ على ذاتها فى كهف تغلق منافذه بفعل أصولييها بحسب رؤيتهم المكذوبة لأنفسهم.
قوة وحيوية الكنيسة في أبنائها وهم من قدموا، على مدار التاريخ، أرواحهم بطيب خاطر بل وبفرح حفاظًا على أمهم أم الشهداء، وبقاء الكنيسة مرتهن بقدرتهم على الحفاظ على إيمانهم وهم لهذا فاعلون، بدعم وحماية الروح القدس لها بوعود حاسمة، تؤكدها خبرة الكنيسة عبر عمرها المديد وإلى آخر الدهور.
لكن الكنيسة بحسب التتبع التاريخي تعبر بقمم وقيعان فيما يتعلق بالرعاية، وقد نبه رب المجد الرعاة لهذا، وحذر من الرعاة الأردياء، الذين يركنون إلى طول آناته، لذلك ختم كلامه بأن صاحب الحقل سينزع الرعاية منهم ويعطيها لأخرين.
وأزمات حقبة الأب البابا البطريرك الأنبا تواضروس لم تصنعها الرعية، بل طيف من رعاة زماننا، بشكل متواتر وملح ومتنوع عسى أن يخلقوا حالة غضب شعبي ينتهى إلى عزله، في تكرار لما حدث في منتصف القرن المنصرم، في مقاربة لم تنتبه للمتغيرات الجيلية، ولانتفاء وجود مبررات تدعم سعيهم، وإنما أغراض ذاتية بعضها يراود أصحابها القفز على الموقع بديلًا، وبعضها صدمه أن البابا البطريرك ليس صورة مستنسخة لأحد، بل له رؤيته المبنية على خلفيته العلمية المرتبة، في تطور طبيعي يتناسب مع التطور في طبيعة واحتياجات الرعية.
وهو أمر تشهده الكنيسة مع كل بطريرك في جيله، في متلازمة مصرية واضحة، وقد شاهدناها في ثنائية البابا والحاكم،
* أ. يوساب والملك فاروق والرئيس محمد نجيب،
* أ. كيرلس والرئيس جمال عبد الناصر،
* أ. شنودة والرئيسين السادات ومبارك،
* أ. باخوميوس ومرحلتي الحكم الانتقاليتين،
* أ. تواضروس والرئيس السيسي (حفظهما الله).
نتمنى أن تنتهى زوبعة السيمينار المفتعلة وتسترد الكنيسة سلامها، وتعود لجدول أعمالها:
* تستكمل سعيها في الانتقال من الفرد للمؤسسة، عبر تقنين وضعية وعمل مكوناتها (السلطات والمسئوليات والواجبات).
* تضبط منظومة الرهبنة الديرية تأسيسًا على نذورها ومسئولياتها ودورها المتقدم في الفضاء القبطي والكنسي.
* تدرس تأسيس منظومة الرهبنة الخادمة العاملة وسط الناس لخدمة الكنيسة والمجتمع في مجالات التعليم والصحة والثقافة والخدمات الاجتماعية، أسوة بكنائس تقليدية شقيقة.
* تدرس ترتيب مرحلة انتقالية بين وجود الراهب في الدير وبين توليه مسئولية الأسقفية والخدمة في المجتمع خارجه، ونموذجنا القريب -نسبيًا- تجربة مدرسة الرهبان بحلوان. نفحصها ونقف على أسباب إغلاقها، رغم أنها قدمت للكنيسة نموذجات خادمة مؤثرة وفاعلة، جمعت بين العلم اللاهوتي والكنسي والخدمة المثمرة الواعية.
* تضع لائحة المجمع المقدس تحت الدراسة في ضوء تجربة تطبيقها في حبرية البابا شنودة والبابا تواضروس، وهى تفتقر لتحديد المراكز القانونية فيها، المهام والمسئوليات والالتزامات والعلاقات البينية، وآليات العمل داخل المجمع، وضبط العضوية اكتسابًا وانتهاءً، ومناقشة قضية تقاعد الأسقف في ضوء الصلاحيات الذهنية والعمرية، حماية للشخص والخدمة والكنيسة. مع توفير مقومات حياة لائقة لما بعد التقاعد -في أحد الأديرة أو في بناية في حرم الكاتدرائية- تحفظ له رتبته وكرامته وحياته برعاية لائقة. وجدير بالبحث معرفة تجارب الكنائس التقليدية التي سبقتنا في هذا الأمر. وهذا يتطلب تصويب ما استقر في العرف السائد بان الأسقف تزوج الإيبارشية، والذي يستند إلى قول أحادي غير متكرر، فعريس الإيبارشيات مجتمعة (الكنيسة) هو الرب يسوع المسيح بحسب الكتاب والتقليد الصحيح.
* يبقى أن الكنيسة بحاجة إلى توثيق (دستور إيمان) يعكف على إعداده نخبة من الأكاديميين الكنسيين الثقات، يضم كل العقائد الإيمانية التي تعتمدها الكنيسة، تأسيسًا على الكتاب المقدس وقوانين المجامع المسكونية والتقليد (المحقق)، بصياغات دقيقة ومعاصرة، وكذلك دستور طقسي، يراجع وينقى الطقوس الكنسية في دراسة فاحصة، تنقيه مما تسلل إليها في فترات الضعف.
ومن المؤكد أن هذين العملين، دستور الإيمان، والدستور الطقسي، مضنيان، يحتاجان إلى قلب جسور وتكاتف أمين يؤمن باستحقاق كنيستنا التي كانت يومًا ابرز معلمي المسكونة، أن تسترد عافيتها وتعمق وعيها اللاهوتي والروحي.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨