- [١] مقدمة في الجندر
- [٢] المساواتيون والتتميون
- [٣] دراسة للنص اليهودي ما بين العهدين
- ☑ [٤] المسيح المساواتي: أنا اﻷوّل والأخير
- [٥] بولس التتمي: صانع التراتبيات المأقوتة
مباشرة وقولا واحدا، كل تعاليم المسيح كما دونها الإنجيليون تقول بأن يسوع لم يشرّع أي تسلسل هرمي في العلاقات المسيحية، بل منع ذلك:
“رؤساء الأمم يسودونها، وعظماءها يتسلطون عليها، فلا يكن هذا فيكم”
(متى 20: 25) (مرقس 10: 42) (لوقا 22: 25)
هذه الورقة مبنية بشكل كبير على كل الأوراق السابقة… لقد عرفنا سابقا العناصر الرئيسية لموقف المجتمع اليهودي من المرأة في زمن المسيح، ولقد كان من الصعب تخطي الأعراف المجتمعية السائدة في عزل النساء، وكان من المستحيل تقريبا تحدي شريعة الله في اعتزال المرأة الحائض والنازفة الدم، والتي تعتبر نجسة وكل ما تمسه نجسا (اللاويين 15: 19-27)،
ورغم ذلك نجد قصة ترد في (مرقس 5: 23-34) تظهر تحدي يسوع لكل الأعراف الثقافية اليهودية في ذلك الوقت، حيث قرر أن يشفي امرأة ظلت تنزف لمدة 12 سنة، وهو ما كان محرّماً وفقاً للشريعة اليهودية، حيث يتم استبعاد النساء الحائضات أو اللاتي أنجبن من المجتمع. وهذا هو بعينه سبب النبذ الاجتماعي لمدة 12 سنة الذي تعرضت له المرأة المروي عنها.
قصة أخرى تتحدى ما كان يؤمن المجتمع اليهودي أنه شريعة الله، نقلها لنا (لوقا 13: 10-17) وهي تتحدث عن شفاء امرأة معاقة 18 سنة، في يوم سبت. مما سبب للمسيح انتقادًا علانية من رئيس المجمع لأن هذا اليوم محرّم على اليهود العمل فيه، لكن المسيح تصدى له ووصفه بالمرائي الذي يحل الثور والحمار يوم السبت كي يسقيه، ويريد منه أن يترك امرأة (ابنة إبراهيم) مقيدة بالمرض… وجدير بالذكر أن الانتساب لإبراهيم كان من دواعي افتخار الإيمان اليهودي ولم يرد ذكره على امرأة قبلا… نرى في (يوحنا 8: 31-47) أن يسوع استنكر انتساب اليهود الغير مؤمنين إلى إبراهيم، وقال أنهم أولاد أبيهم، الشيطان… أي أنه هنا يحرر المرأة لا من المرض وحسب، بل من دونية نقصان الإيمان عبر لقب “ابنة إبراهيم” بشكل مساواتي مع إيمان الرجال، والذي استنكره على رجال آخرين أقل إيمانا.
فريق المريمات:
معنى اسم “مريم” في لغته الأصلية هو: عصيان / ثورة / تمرد… وقد انتشر تسمية اليهود لبناتهم بهذا الاسم في زمن الاحتلال الروماني لفلسطين تيمنا به… تخبرنا الأناجيل عن مريمات عدة، لكن يتفرد (مرقس 16: 1) بذكر أسماء المريمات الثلاثة ويذكر اسم إحداهن: “سالومة”… يتعامل عموم المسيحيين على أن مرقس أسماها “مريم” وكفى… بينما المؤرخ Geoffrey Blainey يرى أن المريمات كانت فريقا نسائيًا من تلميذات للمسيح وتم تسميتهن بالمريمات بمعنى الثائرات أو المتمردات وليس بالضرورة أن يكون اسمهن الحقيقي “مريم”.
ارتكز “بلايني” على شهادات الإنجيل حول قيام يسوع بتلقين تعاليمه للمرأة، كما هو الحال مع المرأة السامرية قرب البئر، ومريم من بيت عنيا، وكذلك علاج يسوع للمرضى النساء علناً وامتداح الأرملة الفقيرة التي تبرعت بالفلسين إلى خزينة الهيكل، وكذلك خطوته الجريئة نحو مساعدة المرأة المتهمة بالزنا، بالإضافة إلى وجود مريم المجدلية إلى جانب يسوع في أثناء صلبه… ويخلص “بلايني” للنتيجة التالية:
“كانت مكانة المرأة متدنية في فلسطين، لذلك فلم يوافق الكثيرون على نظرة يسوع الرحيمة تجاههن، وبدعة المساواة التي جاء بها، فاصطدمت تعاليمه دائماً بأولئك الذين آمنوا بحرفية النصوص”
(Blainey, Geoffrey, “Book of Relics: A Kind of Secular Family Bible”, 2013, p38)
وفقًا لبلايني، شكلت النساء على الأرجح أغلب المعتنقين للمسيحية في القرن الأول بعد المسيح… تفرد (لوقا 8: 1-3) بذكر أسماء لرفيقات يسوع خلال سفره بين المدن مختتما: “وأخريات كن يخدمنه من أموالهن“، وفي مكان آخر نقرأ عن الذين تبعوا يسوع ثم تحولوا عنه نتيجة تعاليمه الصعبة (يوحنا 6: 66) ويضيف مرقس على مشهد الصلب “اللواتي أيضا تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل. وأخر كثيرات اللواتي صعدن معه إلى أورشليم” (مرقس 15: 41) نفس هؤلاء النساء الثائرات على مجتمعهن تواجدن عند القبض عليه وقت أن هرب التلاميذ الرجال، ووجدن بعد موته، ومكثن مع التلاميذ الرجال من هذه الفترة وحتى اليوم الخمسين، ومنهن من حل عليهن الروح القدس قي يوم الخمسين. (1أع1: 12-14، 2: 1-4، 14-47)
في كل المواقف، جاء يسوع ليخرج عن المألوف في المجتمع اليهودي، ويخصص لنفسه تلميذات إناث حظين برعايته ورفقته جنبا إلى جنب مع التلاميذ الذكور، كما أمر النساء اللاتي يتبعنه أن يتوقفن عن البكاء والنحيب وهو في طريقه ليُصلب (لوقا 23: 26-31) كما أن ذكر مريم المجدلية في الأناجيل كأول شخص يرى يسوع بعد قيامته، وتكليفها بإبلاغ الجميع هو دليل على مكانة إيجابية عالية تمتعت بها المرأة، في زمن كانت شهادة المرأة لا تعتبر صالحة. (مرقس 16: 9) (لوقا 24: 11)
تقليص الفجوة الجندرية:
ينقل لنا (لوقا 10: 38-42) موقفًا واضحًا في التباين الجندري بين الأختين “مريم” و”مرثا”، إذ إن الأخت الكبرى “مرثا” تعبّر عن الدور الاجتماعي التقليدي للمرأة في الأعمال المنزلية، وارتأت أن أفضل ما تقوم به لتكريم المسيح هو تنفيذ ما تعلمت أنه دور المرأة في تجهيز المنزل وخدمة الرجال، مؤمنة أن ذلك هو غاية الوجود للمرأة الفاضلة، بينما مريم كانت ثائرة على هذا الدور الاجتماعي المنزلي، وكانت تقضي الوقت في التلمذة والتعلم وممارسة أدوار اجتماعية كانت حكرا على الرجال… فماذا كان موقف المسيح من كلاهما؟
دأب المسيح على تعليم الثائرة “مريم” أصول الشريعة، وهذا امتياز يحظى به الرجال فقط في اليهودية. أي أننا أمام كسر جديد للتقاليد والعادات المتوارثة لا عن تعليم المرأة فحسب، بل عن قدراتها العقلية اللاعاطفية، فالشريعة تعني التقاضي وفض المنازعات بالعدل دون تعاطف مع أيا من الأطراف وإلا عد ذلك انحيازًا. وكلها مهارات يعترض الذكور -حتى الآن- أنها تتسق مع طبيعة المرأة. لم يكن ذلك يروق للأخت الكبرى “مرثا” واعتبرت أن أختها الطائشة “مريم” مقصرة في مهامها ودورها الاجتماعي كامرأة. والأنكى، أنها لم تخبر أختها الصغرى بذلك مباشرة، بل اتبعت عادات النساء في الشكوى للرجال، معتبرة أن سلطة المسيح عليها ستكون مقنعة أكثر، فتوقفت وقالت: «أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ قل لها أن تعينني!» ولكن يسوع رد عليها قائلًا: «مرثا مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأمور كثيرة ولكن الحاجة هي إلى واحد، ومريم قد اختارت النصيب الصالح الذي لن يؤخذ منها» (لوقا 10: 40-42)
وتبقى كلمة أخيرة قبل أن أمضي،
الحديث عن المسيح المساواتي لا نستطيع أن نعطيه حقه، ليس فقط في مسألة المساواة الجندرية بين الجنسين، بل يتخطاه لما هو أبعد بكثير، لكن الصراع بين المساواتيون والتتميون سيجعل دور المسيح هامشيا في هذه المسألة، وأحيانا سيتم استخدام المسيح ضد المساواة بين الجنسين، وبأيدي القيادات المسيحية المقدسة ذاتها… فمثلا قصة مريم ومرثا والتي تبدو واضحة في تقليص الفجوة الجندرية، سيستخدمها القديس “جيروم” لتحقير المرأة والوصول لنتيجة تراتبية مفادها: “المرأة عندما تكون صالحة، تكون رجلاً” معلنا بداية عصرا من النساء المستذكرات…
إنني في هذه الورقة، أرسم خطا فاصلا بين كافة تعاليم الأنبياء، وتعاليم المسيح ذاته…
ثم أعود لأضع خطا آخرًا، يفصل بين تعاليم المسيح، وما تلاه من تعاليم الرسل والآباء والقديسين…
لا…
بل أنني أرسم دائرة، تفصل بين تعاليم المسيح، وبين الديانة المسيحية ذاتها!!
ربما كان يسوع كما صوره لنا الإنجيليون هو أول مساواتي في تاريخ الأديان، ظهر في قلب أكثر البقاع والأزمنة بؤسا، ربما،، لكن الأكيد عندي أنه كان المساواتي الأخير في صفحات الكتاب المقدس، أو المجامع المقدسة بعدها، والتي دمرت المكتسبات الاجتماعية التي صاغها المسيح، وتدنى بها الانحطاط لمناقشات لاهوتية عن هل للمرأة روح؟ أم نفس بلا روح كما الحيوان!
وللحديث بقية،
هذا المقال جزء من سلسلة: عن المرأة في المسيحية
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟