المقال رقم 6 من 8 في سلسلة التمايز في شرح العقيدة المسيحية

جسد المسيح السري في المفهوم الأرثوذكسي

• المسيحي هو من ينتسب إلي المسيح و يؤمن أن المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد وأنه هو ابن الله الأزلي الذي أرسله الآب إلي العالم وحلَ بلاهوته في أحشاء العذراء القديسة مريم واتَخذ منها جسداً بواسطة الروح القدس . ثم صُلب بإرادته وصعد بجسد القيامة المُمَجَد ليجلس به عن يمين الآب ، وأنه أكمل ذلك كله لنا ومِن أجلنا وفينا نحن البشر ومن أجل خلاصنا .

• و لأن جسد المسيح كان فريداً وليس من زرع بشر أي بدون تدخل رجل ، بل من زرع الله أي بتدخل الروح القدس ، لذلك إعتُبر جسد المسيح – كما كان جسد الأول – أصلاً جديداً في ذاته لكل بشر مولود منه  ” لأَنَنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ “ (أفسس٣٠:٥) .

• وعلى مثال آدم الأول الذي أخذنا منه جسدنا الأول الذي نسميه الجسد العتيق ، وأخذنا فيه الطبيعة الساقطة بسبب عصيانه الله وبالتالي الموت ، كذلك المسيح – آدم الثاني – صار كل ما أكمله المسيح في جسده – الذي أخذه ِمن العذراء – محسوباً لنا لأنه أكمله من أجلنا وفي جسدنا . فقد صرنا شركاء في تجسده و موته و قيامته و ميراثه في السماء ”… إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ، فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ … إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ : الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُ قَدْ صَارَ جَدِيدًا “.(٢كورنثوس١٧:٥). فتجسُد المسيح وحلول الروح القدس علي جسد المسيح في نهر الأردن إنتهاءً بالقيامة والصعود كان تأسيساً للإنسان الجديد فيه ، عِوضاً عن الإنسان العتيق نسل آدم الأول الذي أخذناه بالميلاد من الأب والأم . والمسيح يعطينا الشركة في هذه الطبيعة الجديدة – جسده المقدس – علي مرحلتين ، الأولي هي مانسميها الولادة الروحية من جسد المسيح الروحي في لأَنَهُ كَمَا أَنَ الْجَسَدَ ( جسد الإنسان ) هُوَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً هِيَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَذلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا.13 لأَنَنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ.( جسد المسيح السري ) “( ١كو ١٢). لذلك َيرجع الروح القدس بَعد أن فارق الإنسان ب الأول أبيه ، ويعود ليسكن في الإنسان مرةً أخري بعد أن تَجدد في جسد المسيح أصله الجديد ، وذلك يتم للمؤمن في سر مسحة زيت الميرون المقدس للطفل المُعَمَد ، فيصبح جسده هيكلاً جديداً للروح القدس. هذا هو معنى وحقيقة شركة المؤمنين في جسد المسيح ” هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ “ ( رومية 5:12). وهذا هو معنى وحقيقة أن الكنيسة هي جسد المسيح السري ” وَأَخْضَعَ (الآب) كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ (الإبن)، وَإِيَاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُل “ ( أفسس ١٨:١) . أما المرحلة الثانية فهي في اليوم الأخير حين تقوم أجساد المؤمنين بالمسيح على شبه جسد المسيح المُمَجَد وقت أن قام بعد الصليب ” الَذِي سَيُغَيِرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ “ (فيليبي 21:3).

• وقد استغرب أحدهم قائلاً هل معنى هذا أن الكنيسة هي التي ُولِدَت في بيت لحم وهي التي  ُصلِبَت على الصليب وليس المسيح، إذا كنتم تقولون إن الكنيسة هي جسد المسيح السري!! . مِن الواضح ممّا سبق أنه بعد قيامة الرب يسوع وصعوده إلي الآب في المجد ، صرنا لا نعرف المسيح كظاهرة بيولوجية بل المسيح الروحي ” فَإِنَّ الْمَسِيحَ ….أَيْضًا تَأَلَمَ مَرَةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ…. يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُوحِ “(١بط ١٨:٣). لذلك قلنا أعلاه إن ولادتنا من جسد المسيح في المعمودية هي روحية ونسميها سر لأن الرب المتجسد يسوع المسيح هو الآن مستتر في مجد الله ” إِذًا نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَدًا حَسَبَ الْجَسَدِ ( سواء نحن أم المسيح لأن حياتنا الحقيقية مستترة في المسيح الروحي ). وَإِنْ كُنَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ “ (٢كورنثوس١٦:٥). لذلك يعلن لنا الكتاب المقدس أن شركتنا في جسد المسيح الحي الآن هي على مستوى الروح و مستترة في الله بالسر” وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ “ ( كولوسي ٣) ، إلي أن تُستَعلَن في القيامة في اليوم الأخير على مستوى المنظور الأخروي . ومنذ الآن فإن المسيح يُحَوُل طبيعتنا الروحية نحن إلي حياته هو في الأسرار المقدسة كما سبق وشرحنا بعاليه .

• وبنفس مفهوم الإيمان هذا ، نتكلم عن سر التناول من جسد الرب ودمه (سر ال) أنه لا يندرج تحت المستوى البيولوجي حسب الجسد ولكن سِرِياً بحسب الروح . فالروح القدس الذي كوَن جسد المسيح في أحشاء العذراء القديسة مريم ، هو ذاته بالتقديس ينقل الخبز والخمر- تقدمة الكنيسة في الإفخارستيا – ليوحِدها بالخبز السماوي ، المسيح ، المن العقلي ، لتصبح تقدمة واحدة. ثم يَضُمُنا الروح القدس إلي ذات الجسد. ففي القداس يحل الروح القدس على القرابين والمصلين.

• فلننتبه يا أخوة إلي ما نتناوله في الإفخارستيا: ” هوذا كائنٌ معنا علي هذه المائدة الآن عمانوئيل إلهنا “. فإن المسيح منذ الآن يُحَوُل طبيعتنا الروحية نحن إلي حياته هو بتناولنا من”خبز الحياة “ الإفخارستيا ، وليس العكس بأن يتحول هو إلى جسدنا . فكان إعتراض التفكير العقلي المادي لأحدهم أنه إذا كانت الكنيسة هي جسد المسيح فإن الكنيسة تأكل نفسها في الإفخارستيا. وهو لا يختلف عن فهم الشيخ الشعراوي عن المسيحيين ( أنهم يُحَضِرون جسد إلههم ثم يأكلونه) . إن إيماننا الأرثوذكسي وبحسب الإنجيل يعلمنا أننا – الكنيسة – بالتناول نتثبت في أصلنا المسيح الذي هو أصل الكنيسة بحسب قوله – له كل المجد – ”…أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ … اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ…“ ( يوحنا ١٥) فهو الأصل ونحن نتطعم فيه .

• إن تجسُد الله الكلمة وحلوله في أحشاء العذراء هو مقدمة لحلوله فينا . فاللاهوت لم يَحِل بالتجسد الإلهي لكي يبقي حلولاً قاصراً على الرب يسوع وحده. فعندما يسكن ويحلّ اللاهوت فينا – في المسيح – نُعطَي ” “ لله الآب في المسيح والقيامة من الأموات وشركة الحياة الأبدية. إن علم لاهوت العصر الوسيط في أوربا – والذي أخذ عنه بعض الأقباط – يقول بأن بمجرد سكني أو حلول اللاهوت في الإنسان يتحول إلى إله . و لا يعلمون أن اتحاد اللاهوت والناسوت في المسيح هو اتحاداً اقنومياً أما الإنسان فاللاهوت يَحِل فيه كنعمة على قدر استيعاب الطبيعة الإنسانية . وأن هناك فارق بين الإتحاد الأقنومي في المسيح وحلول النعمة الإلهية في الإنسان . فإن أفعال المسيح الإلهيه تمَت إنسانياً أي مِن خلال ناسوته . فالمعجزات التي صنعها الكلمة المتجسد هي عمل إلهي صادر من اللوغوس بوسيلة انسانية من خلال الناسوت المتحد بلاهوته . أما في حالتنا فأفعالنا الإنسانية تأخذ معونة مِن النعمة الإلهية . إن بشريتنا قد تمتلئ منه ، لكنه يبقى متفوقاً كرأس وينبوع ويظل الإبن خالق والبشر خليقته . هو واهب الحياة أما نحن فنأخذ نعمة الحياة والقيامة منه ولا نقدر أن نوهبها أو نعطيها إالا مِن خلاله ، فهو الذي يعطي لأنه هو المصدر . هو وحده الواحد مع الآب والروح القدس في الجوهر أما نحن فنتشبه بتلك الوحدة على قدر ما تعطينا النعمة ، ولكن يظل الفرق بين الأصل والصورة بين الطبيعة و النعمة الممنوحة . [ معروفٌ في تقليدنا اللاهوتي الأرثوذكسي أن العلاقة الطبيعية التي كانت قائمة بين العذراء وابنها الإله المتجسِد لم تُضيف على شخصية العذراء حالة إشتراك في الإلهية حتى بالرغم من حلول الروح القدس عليها أولاً ، الذي أعدَها فقط لحَمل الإله ، ولكن لم يهبها إمتياز الشركة في طبيعة الله (2بط 1: 4)، التي ظلَت تنقصها وتنتظرها بالصلاة إلى أن نالتها مع الرسل يوم الخمسين بمعمودية الروح القدس ونار (أع 2: 4،3) حسب وعد الآب، ثم بالشركة في الجسد والدم ”وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُسُلِ، وَالشَرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَلَوَاتِ“(أع 2: 42). وحينئذ فقط كَمُلت قامة العذراء مريم إلى قامة ملء المسيح إلى إنسان كامل في المسيح يسوع ] .

• ثم يعترضون بتعليم لا يَمُت للمسيحية بِصلة قائلين بأن الله لا يسكن ولا يحل فينا ولا يمكن أن نشترك فيه لأننا خطاة . فاخترعوا ما أسموه ”حلول الثبات“. لذلك تجد الأفعال اليونانية والقبطية الخاصة بالسكنى والحلول في العهد الجديد والتي تفيد كينونة الرب يسوع ( أي وجوده الذي نحن نثبت فيه ) قد تحولت إلي فعل آخر في الترجمة البيروتية يختص بالثبات: ” من يأكل جسدي و يشرب دمي  يكون فيَ وأنا أكون فيه “ { ترجمة يونانية/ قبطية}. ” من يأكل جسدي و يشرب دمي  يثبت  فيَ  وأنا أثبت فيه “ ( يو ٥٦:٦) { ترجمة بيروتية }. ” وليست لكم كلمته كائنة فيكم “ { ترجمة يونانية/ قبطية}. ” وليست لكم كلمته ثابتة فيكم “ ( يوحنا ٣٨:٥). { ترجمة بيروتية }. ولما أُسقط في يدهم لجأوا إلى إختراع آخر هو” “. أي أن الأقنوم الإلهي لإبن الله أو الروح القدس لايحل فينا بل فقط مواهبه. وإليك أيضاً أيها القارئ بعض الآيات ( رو ٩:٨و١١) : ” وَأَمَا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُوحِ، إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ  لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذلِكَ لَيْسَ لَهُ“ . ” وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَاكِنِ فِيكُمْ “. حيث تشير الآيات إلي أن دليل سكني الروح القدس فينا هو قيامتنا . و نعرف أن قيامة المسيح من الأموات وبالتالي قيامتنا (فيه) ، أنها ليست نتيجة عمل مواهبي بل نتيجة سكني وحلول أقنوم مَن هو الحياة ذاتها .

هذا الإيمان يؤكد كينونتنا في الرب وأن ” المسيح لا يمكن أن يُعطِي للمؤمنين أكثر ممّا أَعطَي ، لأن كل مَن هو في المسيح فهو مملوءٌ من فيض ألوهيته “ (منسوب إلي ق.أمبروسيوس ). ( يتبع)

و السُبح لله .

بقلم : رءوف إدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التمايز في شرح العقيدة المسيحية[الجزء السابق] 🠼 التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٥)[الجزء التالي] 🠼 التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٧)
التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٦) 1
[ + مقالات ]