حين نتتبع المذهب الفكري للسيد المسيح، يتبدى لنا أنه كان في صراع دائم، لا مع المؤسسات الدينية فحسب، بل مع الفرد المتدين الذي يحد الله بالعقل المحض. فقد كان يتعمد المسيح إجراء المعجزات في يوم السبت ثائرًا على الشرائع والمقدسات، واختار لنفسه زمرة من الأصدقاء من الزناة والعشارين. لم يكن يطفئ فتيلة مدخنة، ولم يكن يسمع أحد في الشوارع صوته، لكنه لم يتوان عن التنكيل برجال الدين، وتوبيخهم أشد توبيخ.
لكن “الدين أفيون الشعوب،” كما قال كارل ماركس؛ فعلى الرغم من ثورة المسيح الواضحة ضد الدين، نجد المسيحيون اليوم يربطون أنفسهم بالدين ارتباطًا محمومًا، يصعب فهمه. هل هذا بسبب أن المرء يشعر أنه أفضل من غيره حين يكون متدين؟ كما يتضح لنا من قصة الفريسي والعشار:
أَمّا الْفَرّيسِيّ فَوَقَفَ يُصَلّي فِي نَفْسِهِ هكَذَا: اَللّهُمّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النّاسِ الْخَاطِفِينَ الظّالِمِينَ الزّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشّارِ. أَصُومُ مَرَتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ
(لوقا 18)
للأسف الشديد، يتعامل البعض مع النصوص الكتابية كما يتعامل الطلبة مع كتاب الدراسات الاجتماعية. فهم يقرأون الكتاب لا للبحث عن معان عميقة، روحية بل لحفظ ما جاء به من أحداث، وتطبيق ما به من فروض. (ماذا حدث، وما المطلوب مني أن أفعل؟) وقل ما شئت عن الهول الذي يمكن أن يصيبهم حين تقول لهم إن بعض قصص العهد القديم ربما تكون رمزية.. رمزية، كيف؟ مستحيل؟ استغفر الله!! حتى إن قلت لهم إن معنى القصة، ومضمونها لن يتأثرا إذا كانت من نسج خيال الكاتب أم من الحقيقة، فهم لا يهتمون بالمعنى، هم يريدون حقائق جامدة، ومعجزات لكي يؤمنوا.
فعلى سبيل المثال، إذا افترضنا أن قصة يونان النبي لم تحث هكذا بل ذكرت على سبيل الرمز، هل سيتغير معنى القصة؟ لا، ستظل القصة تشير إلى محبة الله للخطاة، وستظل صورة يونان ترمز إلى ذلك الخادم الذي يهتم بنفسه، وصورته فقط لا خلاص الآخرين. فخوف يونان من اعتقاد البعض أنه نبي كاذب حين يتوعد الشعب بالهلاك، ثم يرحمهم الله، وغيرته من أن ينال الخطاة وغير المستحقين النجاة، نجدهما متجسدان في الكثيرين اليوم؛ فالقصة حقيقية، وإن لم تحدث فعليًا.
بل، دعني أقول، إن القصص الرمزية ربما تكون أعمق، وأكثر شمولًا من الواقع. يقول “هنري فيلدنغ” مادحًا القصص الخيالية:
“في التاريخ، لا يوجد شيء صادق سوى الأسماء والتواريخ، لكن في الأدب، كل شيء حقيقي ما عدا الأسماء والتواريخ”
(هنري فيلدنغ، روائي بريطاني)
لكن بالنسبة للمتدين، تقلل رمزية القصة من هول الموقف، فالبعض يؤمن حين يرى معجزات حقيقية فقط، مثل من تبعوا المسيح حين رأوا آياته لكنه “لم يأتمنهم على نفسه،” وغادرهم بعيدًا. فهول الموقف هو ما يهم:
وَلَمّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ، إِذْ رَأَوْا الآيَاتِ الّتِي صَنَعَ. لكِنّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ
(يوحنا 2)
وكم هو مثير للغرابة أن تجد تلك المسابقات الكتابية التي تمتحن المتسابقين في أتفه التفاصيل مثل من الذي قال عنه الكتاب أنه مات بشيبة صالحة، وشبعان أيامًا: إبراهيم، أم موسى، أم يوسف، أم يعقوب؟ كم استغرق بناء الفلك: 100 عام، أم 120، أم 140؟ فالاهتمام ينصب على جمع المعلومات السطحية، وترديدها، وليتها معلومات تفيد أو تغير من المرء في شيء! هل يريد الله أن نضيع وقتنا على هذه التفاهات؟!
تمسك أم تجرد؟
لا أجد أفضل من تلك الفقرة الرائعة التي كتبها توفيق الحكيم عن وجوب التجرد للسمو الروحي. فهو يتعجب من تمسك الناس الشديد بالطقوس والقوانين التي تشغلهم عن العثور على طريقهم إلى الوجود والكينونة؛ فبدلًا من الابتعاد عن المشتتات لكي يصبح المرء منفتحًا، حساسًا لأعمق المشاعر داخله، واستقبال همسات الله، تجدهم يكبلون أنفسهم بالدروشة!
لماذا أراد الناس أن يجعلوا «الله» في حاجة إلى السجاجيد الفارسية يفرش بها بيوته؟! و «السيدة» في حاجة إلى «النور» والنجف والشمع؛ كأنها لا تستطيع النوم في الظلام، ثم ذلك «القمقم» الفضي في الكنيسة، وتلك الإشارات والعلامات، لماذا كل هذا؟؟ حتى «الموسيقى العظيمة»، التي استطاعت أن ترفع الإنسان إلى بعض القمم، سرعان ما جعلوا لها ثياب سهرة؛ ترتدي من أجلها، وقواعد وتقاليد؛ لا بد من مراعاتها!… وتتقلب الأمور على مر الزمن، فينسی الناس الأصل والجوهر، ويذكرون الفرع والعرض… إن «الإخلاص» للدين والفن، يستوجب «التجرد»
(توفيق الحكيم، رواية: “عصفور من الشرق”)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟