كيف دخل مفهوم العدل الإلهي في لاهوت الغرب :
تمخض الصراع السياسي بين روما وبيزنطة باستقلال سياسي شجعه و باركه أساقفة روما للانفصال عن الشرق البيزنطي لتعود روما إلي مجدها القديم. ونجح هذا المسعي بمسح شارلمان إمبراطوراً علي الإمبراطورية الرومانية سنة ٧٦٨م. وحظي هذا المسعى بموافقة الكنيسة الرومانية التي كانت في حقيقة الأمر ذات صفة دينية و سياسية معاً، خِلافاً لتعليم المسيح الذي جاء ليفصل بين الله وقيصر، ويفصل بين الشريعة الإلهية والقانون الوضعي. وفي مقدمة الديانات التي جمعت الإثنين في كتاب واحد وأنشأت حكومة إلهية ثيؤقراطية كانت الديانة اليهودية نفسها، الأم التي ولدت المسيحية. هذا الوضع جعل عقوبة الشر تُوقَّع على المذنب سواء تاب أم لم يتب (مثل: الارتداد عن الإيمان. الاعتداء على الوالدين. الزني..). فجاء المسيح ليفصل بين الحُكم والعقوبة على الشر حسب الشريعة الموسوية، وبين علاج الخطية وغفرانها حسب شريعة الإنجيل. وبذلك تحول القصاص في المسيحية إلى جهة الاختصاص وهي المحكمة والقانون الوضعي. إن كافة القوانين الوضعية لا تعرف المغفرة بالمرَّة، ولا تعرف تجديد حياة المجرم، بل العقاب وحده. ولا تعيد المجرم إلي الوضع الذي كان عليه قبل الجريمة.
إن الإنسان في كل زمان ومكان عرف العدل بمعناه القانوني، أي رد حق المظلوم والقصاص من الظالم ومعاقبته. ولكن النقطة الجديرة بالبحث هي: هل عدل الله هو نفسه عدل المحاكم الأرضية؟. وهل يعاملنا الله حسب القانون الوضعي؟.
إن الانفصال السياسي للغرب عن الشرق البيزنطي حرص على إنشاء حكم سياسي بإسم المسيح والمسيحية بالعودة إلي تزاوج النظام القانوني – السياسي – الإجتماعي – الديني تحت سيادة الأساقفة والأمراء وهو ما يُعرف سياسياً بعصر الإقطاع. وفي هذه البيئة (العصر الوسيط) ُولِد اللاهوت المدرسي الذي كان من واجباته إعادة تفسير العقيدة المسيحية بشكل سياسي يخدم سيطرة الحاكم والكنيسة.
إن منطق وتعليم اللاهوت المدرسي للعصر الوسيط قام على الأركان التالية: الخطية هي إعتداء على الله / لا يمكن غفران هذا الإعتداء إلاَّ بترضية / قدَّم المسيح هذه الترضية وبذلك نال الإستحقاقات بسبب العذاب الذي تحمَّله على الصليب (مثل الترضية التي يدفعها المجرم عن جريمته بالسجن و التعذيب) / تملك الكنيسة حق توزيع استحقاقات المسيح في الأسرار، وسلطان الحل والربط، وصكوك الغفران.. إلخ.
ثم جاءت حركة الإصلاح واختزلت كل هذا في قضية واحدة: أن المسيح دفع كل شئ وقدَّم الترضية الشاملة، والثمن كله، ودفع كل هذا بالعذاب والألم. وإعتَبرت أن الخلاص كله حدثٌ قد تمَّ وانتهي يوم الجمعة العظيمة علي الصليب.
أما اللاهوت الشرقي الأرثوذكسي فقد استمر دون نظريات لاهوتية جديدة تفسر الإيمان – مثل نظرية الفداء والكفارة والبديل العقابي التي جاء بها اللاهوت المدرسي الكاثوليكي ثم تلقفته حركة الإصلاح البروتستانتي – مكتفياً بما تسلَّمه من تعليم الآباء الذي يؤمن بالصليب ليس كذكري عقلية حدثت وانتهت، بل ذكرى حية ممتدة يشترك فيها المؤمنون في موت المسيح وقيامته (حياة الشركة مع المسيح)، وهو الدور الذي يقوم به الروح القدس في المؤمنين من خلال الأسرار، ليعيد تكوين الإنسان حسب صورة المسيح.
لقد غلب الربُ الموتَ في الآخرين مثل لعازر، وابن الأرملة قبل يوم الجمعة الكبير. ثم غلب الربُ الموتَ علانيةً في كيانه (أي كيان المسيح) و هو معلق علي الصليب في يوم الجمعة لكي ينقل إلينا الغلبة والانتصار. لقد سبقت غلبةُ الرب علي الموت يوم الجمعة لتستمر بعد يوم الجمعة وفوق الزمن. فالموت الذي ُغلِبَ في آخرين كان ولابد أن يُغلَب إلي الأبد في المسيح، وهو ما تعلنه القيامة المجيدة. وهكذا كل ما حدث سابقاً علي يوم الجمعة صار معلَناً للإنسانية كلها على الجلجثة ومن القبر بالموت والقيامة، ولكي يمتد في الحاضر والمستقبل في أسرار الكنيسة المقدسة بعمل الروح القدس. لقد مات الرب علي الصليب لكي يبيد الموت، هذا ما يعلنه العهد الجديد حسب الإيمان الأرثوذكسي و ُيعبِّر عنه بكلمات مثل الفداء والكفارة والخلاص. وهي في المفهوم الشرقي الأرثوذكسي ليست مصطلحات نظرية بحسب القانون الوضعي الذي من صنع الإنسان والتي تمَّ تطبيقها على المسيح ليسهل فهمها للناس ولتبرر للحاكمين سلطانهم في الغرب المسيحي. بل هي حياة ممتدة في الحاضر والمستقبل. إن ”الكفارة“ في المفهوم الشرقي الأرثوذكسي هي تطهير وغسل من الخطايا بدم المسيح وبالروح القدس. لذلك فالكفارة هي ”سكني الروح القدس فينا“ لأن الروح القدس يطهرنا. و”الفدية“ في المفهوم الشرقي الأرثوذكسي هي ”الإفخارستيا“ القوة التي تحرر الإنسان. [ الفدية والكفارة في لاهوت الشرق والغرب المسيحي في مقالات قادمة ] . أما حركة الإصلاح فقد فصلت الماضي (أي الصليب وموت الرب) عن الحاضر والمستقبل (أي القيامة وسكنى الروح القدس بالأسرار) نتيجة الفكرة القانونية التي جاءت بها لتشرح موت السيد المسيح له المجد علي الصليب. وذلك لتأثرها بالحضارات والفكر السياسي، والتي انتهت بها إلى القول: إذا كان الخلاص كله قد تمَّ يوم الجمعة الكبيرة، فما سبب وجود جسد الرب ودمه علي المذبح الآن؟. إن لاهوت حركة الإصلاح يَحصر تقديم الفدية للآب وحده و ينكر تقديم دم المسيح للمؤمنين (الإفخارستيا). ويَحصر الخلاص في علاقة الآب بالابن ويغفل دور الروح القدس (في الأسرار). ويعتبر أن الخلاص حدثٌ، قد تمَّ و انتهي يوم الجمعة العظيمة وبالتالي ينكر علاقة موت الرب وقيامته وسكنى الروح القدس بالأسرار. و يمكننا القول إن العصر الوسيط هو عصر ظهور نظرية عقيدة الفداء والكفارة بأقلام الكاثوليك والتي تحولت إلي سلاح في يد قادة حركة الإصلاح للقضاء على ذبيحة القداس والكهنوت نفسه في أوروبا ومهدت لتكوين كنائس أوروبية مستقلة عن روما.
والسبح لله. ( يُتبع)
بقلم: رءوف إدوارد
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟