إن العظمة الحقيقية للإنسان تكمن لا في كونه تاج الخليقة، ولا في كونه ممتازًا على الحيوانات والجماد، ولا في كونه “الكون المصغر”. لأنه كما يقول القديس غريغوريوس النيسي أن كل هذا ليس بأمر ذي شأن، لأن الأرض تعبر والسماء تتغير وكل ما هنا زائل بما عليه. إن الخليقة لن تقدر أن تخلَّص الإنسان أو تهبه الحياة الأبدية.
ولكن عظمة الإنسان وكرامته هما إلهيان حقًا، وكيانه نابع من خلقته لكي يكون مشتركًا في الحياة الإلهية، وهذا ما عبَّر عنه الكتاب المقدس أنه خُلق على صورة الله ومثاله:
من جهة طبيعتي التي على الأرض، فأنا مشدود للحياة هنا إلى أسفل، أما من جهة كوني مخلوقًا إلهيًا، فأنا أحمل في صدري الشهوة للحياة الأبدية.(القديس غريغوريوس النزينزي) [1]
فالإنسان كائن إلهي، وليس مجرد طبيعة عمياء منساقة بغرائزها للتراب، وذلك بسبب صورة الله التي خُلق عليها والمثال (أو الشبه) الإلهي الذي دُعي أن يبلغه في النهاية نخلق الإنسان على صورتنا کشبهنا
(تكوين ١ : ٢٦-٢٧).
وقد أجمع الآباء القديسون على أن “الصورة” و”الشبه” يمثلان الموهبة الأولى المعطاة للإنسان (الصورة)، والكمال الفائق للطبيعة أو الاكتمال المدعو الإنسان لبلوغه في النهاية (الشبه):
الصورة نالها الإنسان فور خلقته، بينما الشبه كان مقدرًا أن يتخذه الإنسان من خلال عملية تدرج في الكمال.
“الصورة” تتضمن المواهب الطبيعية وعلى الأخص العقل وحرية الإرادة، وهذه لا يمكن أن تُفقد [بسبب الخطية]. و”الشبه” فائق للطبيعة وهو اقتناء الكلمة وشركة الروح؛ وهذا فقده آدم واسترجعه المسيح.
هل هناك فرق بين “على صورته” وبين “على شبهه”… لأنهم يقولون إننا نلنا “الصورة” في وقت الخلقة، أما “الشبه” فقد حُفظ لنا في الدهر الآتي. وهذا هو السبب للمكتوبحين يُظهر المسيح… سنصير مثله(١يو ۳ : ۲). وأيضًالنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا(تك ١ : ٢٦). و بعد خلقة الإنسان قالوعمل الله الإنسان، على صورته صنعه(تك ۱ : ۲۷) دون أن يشير إلى “شبهنا” ليُظهِر أننا لم ننل بعد الشبه، إذ قد حُفظ ذلك لنا في حياة الغبطة المستقبلة.(القديس كيرلس الكبير) [4]
في هذا الشرح يقصد الآباء لا التفريق بين “الصورة” و”الشبه” كأنهما شيئان مختلفان [5]، ولكن على أساس أن “الصورة” هي الجانب المستقر غير المتغير في الإنسان، بينما الشبه هو العامل المتحرك (الديناميكي) الذي يتضمن ما سيصير عليه الإنسان، هو التحقيق المتدرج لبلوغ كمال الصورة التي أودعها الله فينا (وكأن الصورة نوعٌ من الرسم التخطيطي الأولى).
فالشبه هو الصورة وهي تكتمل في تحقيقها، فهما متطابقان في جوهرهما في فكر الله، أما بالنسبة للإنسان فسيتطابقان نهائيًا في السماء بعد القيامة العامة كما كانا في البدء. فالإنسان الآن في طور الاكتمال ليكون في النهاية على شبه الصورة التي فيه منذ خلقته.
سنكون مثل المسيح في عدم الفساد… لكننا منذ الآن لسنا غرباءً عن شبهه، إذ قد تصوَّر فينا بالروح القدس.
وبهذا يطمئنا الوحي جدًا أن ما أُعطيناه من موهبة الخلقة على صورة الله وشبهه تتضمن منذ البدء دعوتنا إلى الشركة مع الله، ووعد الله لنا بتكميل وتحقيق ذلك أيضًا في الدهر الآتي. وهذا يتوقف على جهادنا في هذا الدهر مع مؤازرة النعمة.
كما يعبَّر عن ذلك القديس باسيليوس في قولين متتابعين:
– الإنسان هو خليقة الله العاقلة، وقد جُبل على صورته.
[8]
– خُلق الإنسان كائنًا حيًا، وأُمر أن يصير إلهًا.
[9]
فمنذ البدء وإلى أعماق الدهور الآتية نحن مدعوون، بناءً على أمر الله، أن نكون شركاء حياته الإلهية بالنعمة وعلى قدر ما يعطينا وعلى قدر ما نحتمله نحن.
وهكذا فإن خلقة الإنسان على صورة الله وشبهه تتضمن أساسًا الشركة مع الله منذ البدء.
والقديس أثناسيوس يشير إلى الصورة والشبه هكذا:
خلق الله البشر وجعلهم يشاركونه صورة ربنا يسوع المسيح، وخلقهم على صورته ومثاله، لكي بهذه النعمة يعرفون الصورة، أي كلمة الآب، ومن خلاله يصيرون قادرين على أن يتعرفوا على الآب، حتى إذا ما عرفوا خالقهم يعيشون الحياة الطوبانية حقًا… حتى بطول الزمن يمكن أن ينالوا “عدم الفساد” في السماء.(القديس أثناسيوس الرسولي) [10]
صورة الأقانيم الإلهية وانعكاسها في كيان الإنسان:
ولكن أول حقيقة صوَّرها لنا الآباء في تأملهم في خلقة الإنسان على صورة الله هو انعكاس صورة الأقانيم الإلهية وفعلها داخل الإنسان كما في مرآة:
فمن جهة كلمة الله:
كلمة الله هو صورة الله. والإنسان الحق هو صورة الكلمة. العقل الذي في الإنسان هو بحسب صورة الله ومثاله. من أجل ذلك صار الإنسان ناطقًا.(إكليمنضس السكندري) [11]
صورة الله هو كلمة الله. والعقل الإنساني هو الصورة التي بحسب صورة الله.(إكليمنضس السكندري) [12]
النفس تشكلت بحسب صورة الله وخُلقت على شبهه، كما قال الكتاب المقدس على فم الله:نصنع الإنسان كشبهنا. لذلك، فحينما تطرح النفس عنها كل دنس الخطية التي تغطيها، وتُبقي فقط على ما هو طاهر بحسب هذه الصورة، وحينما تستنير هكذا، تبصر -كما في مرآة- الكلمة الذي هو صورة الآب؛ ومن خلاله تعرف الآب الذي صورته هو المخلَّص.(القديس أثناسيوس الرسولي) [13]
ومن جهة الروح القدس:
فللروح دور رئيسي في نقش صورة الله فينا، التي يسميها الآباء جمال الله فينا
، جمال الطبيعة الإلهية المتلألئ في نفوسنا
، بتقديس الروح نعود إلى جمال طبيعتنا الأصلي، الذي هو صورة الله
.
أليس هو الروح الذي ينقش صورة الله فينا، وهو الختم الذي يصنع فينا البر والجمال الفائق للعالم؟ قد يقولون: بلى، ولكن ليس باعتباره إلهًا، بل كموصل لنعمة إلهية فقط، فليس هو بنفسه الموسوم فينا، بل “نعمة” من خلاله. إذن، فإن كان الأمر كذلك، فكان ينبغي أن يُدعى الإنسان لا صورة الله، بل صورة النعمة!(القديس كيرلس الكبير) [14]
إن القديس كيرلس لا يتساهل مع الذين يدَّعون بأن هذه النعمة هي شيء منفصل وبالتالي أدنى من الروح. ذلك لأن الذين ينكرون لاهوت الروح القدس سيصلون حتمًا إلى هذه النتيجة أنه ليس روح الله نفسه الموسوم فينا، بل هي فقط نعمة من خلاله. ولكن شكرًا لله لأن الله نفسه هو الذي طبع فينا صورته وجماله “الفائق للعالم” بروحه الخاص، وهذا أعظم ضمان لحقيقة حضور صورته فينا.
حقًا، لقد شوَّه الإنسان جماله الإلهي، ولكن ها هو روح الله يسترجعه مرة أخرى بعمل ربنا يسوع المسيح الذي أكمله بالتجسد.
من المستحيل لنا أن نسترجع جمالنا الأصلي منذ أن سقطنا منه بسبب معصية الإنسان الأول، لولا تكميلنا تلك الشركة والاتحاد مع الله غير المعبَّر عنهما، ولكن الاتحاد مع الله غير ممكن لأي إنسان تحقيقه إلا من خلال الاشتراك في الروح القدس الذي يغرس فينا قليلًا قليلًا تقديسه الخاص، والذي يعيد تشكيل الطبيعة التي خضعت للفساد، يعيد صياغتها على حسب حياته الخاصة، وهكذا يسترد لله وللمشابهة لله ما سبق أن تجرَّد من المجد. لأن صورة الآب الكاملة هو الإبن، والشبه الطبيعي للابن هو الروح. والروح بالتالي إذ يعيد تشكيل نفوس الناس لنفسه، ينقش فيهم مشابهة الله ويختم فيهم إعادة حضور جوهره الفائق.(القديس كيرلس الكبير) [15]
إن الآباء القديسين طالما تأملوا في ذلك الجمال الإلهي الفائق للعالم الذي انطبع في الإنسان منذ خلقته في البدء. هذا الجمال الذي شوَّهه الإنسان (ولكن لم يفقد صورته) بالخطية والمعصية، فتحول فيه إلى “قبح” الطبيعة، لكن هذا الجمال استُرجع ثانية بتجسد وفداء المسيح (صورة الله الطبيعية الكاملة). إنه جمال الثالوث فينا… جمال بر الابن صورة الله، وجمال تقديس الروح صورة الابن!
إن الرؤية المسيحية للإنسان ترى بوضوح حقيقة الصورة الإلهية فينا قائمة منذ لحظة الخليقة بموجب المشورة الإلهية: “نخلق [بصيغة الجماعة – أي مشورة الثالوث الواحد الجوهر] الإنسان على صورتنا كشبهنا”
(تك ١ : ٢٧،٢٦).
لماذا لم يرد ذكر “صورة الله” على مدى العهد القديم؟
أمر مثير للتساؤل حقًا، أن نرى هذه الحقيقة غائبة من صفحات العهد القديم كله، بعد رواية سفر التكوين الإصحاح الأول، بالرغم من أن الوحي الإلهي عاد فأكدها حتى بعد جريمة قايين، إذ قال لأن الله على صورته عمل الإنسان
(تك ٩ : ٦). الله وحده الآن يشهد ويذكَّر أن الإنسان مخلوق علي صورته، حتي بعد الخطية! ولكن ما أتعس الإنسان، إنسان العهد القديم الذي ما كان قادرًا علي أن يري في نفسه ذلك الجمال الفائق للعالم بعد أن غرق في ظلمة الخطية و الفساد و الموت.
ولكن عذرًا… فما صورة الله في الإنسان بصفة خارجية أو فضيلة مضافة على خلقة الإنسان، هي ليست “حالة” وُضع فيها الإنسان بواسطة خالقه، ولكنها هي جوهر خلقة الإنسان نفسه. إنها كيانه البشري كله.
لذلك فما كان يمكن أن يعي الإنسان هذه الصورة الإلهية التي في إلا بظهور ابن الله في الجسد رسم جوهر الآب
(عب ١ : ٤). ذلك لأن الإنسان خُلق من خلال عمل الابن به كان كل شيء
(يو ١ : ٣) فيه خُلق كل شيء
(كو ١ : ١٦)، خالق الجميع بيسوع المسيح
(أف ٣ : ٩)، مخلوقين في المسيح
(أف ٢ : ١٠):
خلق الله الإنسان علي صورته الخاصة معطيًا إياهم نصيبًا في قوة كلمته الخاصة. حتى إذ يكون لهم بعض ظلال “الكلمة” ويصيرون عاقلين يصبحون في حال البقاء في الكلمة.
جعلهم يشاركون صورته ربنا يسوع المسيح، فخلقهم علي صورته ومثاله… لكي من خلاله يصيرون قادرين أن يتعرفوا علي الآب.(القديس أثناسيوس الرسولي) [16]
هذه العلاقة الجوهرية بين صورة الله في الإنسان وبين صورة الله الطبيعية التي هي إبن الله، والتي استُعلنت لنا بالتجسد، كانت موضع هذيذ القديسين واندهاشهم، حتي أن العلَّامة ترتليانوس رأي أن:
الطين الذي شكَّل الله منه جسد آدم اكتسى بصورة المسيح المزمع أن يأتي في الجسد بعد آلاف السنين.)العلامة ترتليانوس الإفريقي) [17]
لذلك فقد صارت فعالية صورة الله فينا -نحن الذين نحيا الآن في عصر النعمة- تعتمد علي “حياتنا في المسيح“. الحياة “في المسيح” هي صُلب الإنجيل وبشارة الخلاص.
وهنا الآن يصح أن نعود مرة أخري إلي علاقة الإنسان بالخليقة باعتباره “تاج الخليقة” و”الكون المصغَّر” الذي فيه تتمركز الخليقة وتتجلى بافتدائه وتجليه في المسيح. الآن نستطيع أن نردد هذا الامتياز ونعطيه حق قدره دون غياب وعينا بأصلنا الإلهي الذي وهبنا مركزنا هذا في الخليقة كوننا صورة الله، و بالتالي دون التغاضي عن خطورة مسئوليتنا عن الخليقة، المترتبة علي ذلك الامتياز.
فالخليقة تتبع أثر الإنسان، إن افتُدي افتُديت:
لأن انتظار [18] الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله. إذ أُخضعت الخليقة للباطل. ليس طوعًا بل من أجل الذي أخضعها، علي الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضًا ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. لأننا نعلم أن كل الخليقة تئن و تتمخض معًا إلى الآن.(رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ٨ : ١٩-٢٢)
إِذن فالإنسان مسئول عن الخليقة والعالم بسبب صورة الله التي فيه. والخليقة معتمدة تمامًا علي الإنسان صورة الله في تمجيده وتسبيحه لله نيابة عنها في انتظار يوم الافتداء الكامل العظيم:
باركي الرب يا جميع أعمال الرب. سبحيه وزيديه علوَّاً إلي الآباد.
باركي الرب أيتها السموات
يا جميع المياه…
أيتها الشمس والقمر…
أيتها الأمطار و الأندية…
أيتها السحب و الرياح…
… إلخ(الهوس الثالث، تسبحة نصف الليل اليومية)
فالإنسان كصورة الله يمارس تسبيحه وتمجيد بلسانه و بيديه كما بقلبه و فكره و باطنه باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني يبارك اسمه القدوس
(مز ١٠٣) نيابة عن الخليقة كلها. الإنسان كله بكل عناصر تكوينه: الجسد والنفس والروح، مدعو أن يمارس امتيازه كصورة الله.
الصورة الإلهية في الإنسان ليست مختبئة داخل باطن نفسه فقط، بل هي منطبعة علي كيانه الإنساني كله. الإنسان كله. ليس جزءً منه فقط، ليس نفسه أو عقله فقط، بل كل الإنسان مخلوق علي صورة الله:
علي الطبيعة الإنسانية الكاملة بشقيها: النفس -وأقول أيضًا الجسد، غرس الله- كمثل ختم طبيعته الخاص؛ الروح القدس، أي نسمة الحياة التي من خلالها شكَّل الإنسان حسنًا، فاكتملت خلقته بحسب صورة خالقه من أجل كل فضيلة، وذلك بقوة الروح الحارس الساكن فيه.
الصورة الإلهية، والكيان الشخصي للإنسان في الله:
إن انطباع الصورة الإلهية على الإنسان ككل، ستنير رؤيتنا -وليت رؤية العالم كله- بحقيقة قدر الإنسان في نظر الله.
فالآباء يؤكدون جميعًا، أن كوننا على صورة الله فهذا يعني أننا نحوز كيانًا شخصيًا لكل منا، كيانًا حرًا مسئولًا، فمضمون الصورة الإلهية في الإنسان يعني خلقة الإنسان كائنًا حرًا، مسئولًا عن مشيئته:
آدم كان حر الاختيار، واستؤمن على أن يملك زمام إرادته، وهذا جزء من الصورة، ذلك لأن الله يسود على مشيئته الخاصة أيضًا.(القديس كيرلس الكبير) [21]
حيث سلطان السيادة، فهناك صورة الله.(القديس باسيليوس الكبير) [22]
نصنع الإنسان على صورتنا كشبهناأي لكي يكون سيد كل ما هو منظور، وكذا الشهوات المتولدة فيه، أي لكي يَتسلَّط ولا يُتسلَّط عليه.
لاحظ أن برهان صورة الله في الإنسان هو سيادته. ولكن سيادته تعني أول ما تعني سيادته لا على الطبيعة والخليقة غير الناطقة وغير العاقلة فقط (ما أعجب الإنسان اليوم الذي وهو يتباهى بسلطانه على الطبيعة ينكر الله) بل سيادته على شهواته ونزواته أولًا يتسلط ولا يُتسلط عليه
.
وقد نتساءل: وما هو قصد الله من خلقة الإنسان حرًا مسئولًا عن إرادته؟
– قطعًا لأن الله دعاه إلى دعوة عليا. دعاه إلى مصير وحياة فائقتين، أي إلى الشركة في طبيعته الإلهية، إلى “الثيئوسيز” أو “التأله” أي مشابهة الله بالنعمة، أي إلى الحركة الحرة غير المقيَّدة نحو الحق والحياة، كما رأينا في قول القديس باسيليوس و القديس أثناسيوس.
هذه الدعوة العليا، أراد الله أن تكون الاستجابة لها استجابة حرة، وأن تكون هي استجابة المحبة. فالشركة والاتحاد مع الله لا يمكن أن تكون بدون المحبة، وإلا فهي أشبه باتحاد تروس عجلتين حديديتين معًا، إِنه اتحاد آلي أصم. أما اتحاد المحبة فهو يستلزم الحرية، أي قدرة الاختيار وقدرة الرفض أيضًا. وهذا هو ناموس خلقة الإنسان منذ البدء:
لقد شرَّع الله الحرية الذاتية للإنسان.(القديس غريغوريوس النزينزي) [24]
لقد شرَّف الله الإنسان بالحرية.(القديس غريغوريوس النزينزي) [25]
الله يحترم الناموس القديم للحرية الإنسانية.(القديس إِيرينيئوس) [26]
الله لا يجذب أبدًا أي إنسان قسرًا إلى نفسه.(القديس يوحنا ذهبي الفم) [27]
ماذا كان خير النفس الأسمى؟ الاتصال بالله والاقتران به بالمحبة…
ولماذا كانت النفس قادرة على الشر ؟
بسبب نزعة حرية الإرادة، تلك الموهبة المعطاة للكائنات العاقلة. إن النفس وهي خالية من أي إِكراه، وقد توشحت من قِبَل الخالق بحياة الحرية إِذ خلقها الله على صورته، امتلكت القدرة على استيعاب الخير… وكان لها السلطان أيضًا في الانصراف عن الخير.(القديس باسيليوس الكبير) [28]
هذه المحبة ليست عمياء -كما يقولون- ذلك لأن “الحب” الذي يقولون عنه أنه “أعمى” ليس هو الحب بل هو “الشهوة”، فالشهوة عمياء حقًا، لأنها تستعبد الإنسان لقوة الغريزة ووطأتها.
والحب لا يكون إلا بين “شخص” و “شخص”، أما الشهوة فهي تنجذب للشهوة في الآخر دون اعتبار “لشخصه”، فالغريزة لا الحب هي التي تجر الإنسان وتمسك بخناقه -فتجعله أعمى- لكي يشتهي ما في الآخر أو ما للآخر.
أما “الحب” فهو شخصي، وهو قائم على حرية كيان الإنسان من كل دافع ووطأة. فهذه الحرية قد وُهبنا إياها من الله لتكون ختم شركتنا معه… إِنها عطية الخالق للإنسان يوم ميلاده للحياة. إِن الله يتعامل معنا كأشخاص.
وصورة الله في الإنسان هي محتوى هذا الحب ووعاء هذه الحرية، هي كما يحددها القديس غريغوريوس النيسي:
حقيقة التحرر من كل حتمية الطبيعة، وعدم الخضوع لإلحاحها، بل القدرة على تقرير المشيئة بحرية.(القديس غريغوريوس النيسي) [29]
ولكن لماذا لم نُهيَّأ لنكون غير قادرين على الخطية، فلا تصير لنا القدرة على الخطية حتى لو رغبنا في ذلك؟ الإجابة هي نفس السبب الذي من أجله لا تعتبر أنت عبيدك على ولاء لك إذا جعلتهم تحت الغصب والإكراه، بل إذا مارسوا واجباتهم إراديًا.
الله لا يُبارَك بالعبادة القهرية، بل بالعبادة النابعة من الفضيلة، والفضيلة تنبع من اتخاذ القرار وليس من الاضطرار، والقرار يعني حرية الإرادة.(القديس باسيليوس الكبير) [30]
الله يدعونا، لكنه ينتظر منا أن نأتي إِليه بمحض مشيئتنا واختيارنا. لكننا حينما نأتي إليه يؤمَّن لنا كل معونة. النعمة لا تسبق إِرادتنا حتى لا تجرح حرية قرارنا الذي نختاره. ولكننا حينما نختار، فالنعمة تعطينا معونة جمَّة.(القديس يوحنا ذهبي الفم) [31]
أما غاية الحرية، فكما يقول القديسون، أنها لكي يختار الإنسان طاعة الله كما قال الرسول بولس مخلوقين لأعمال صالحة
(أف ٢ : ١٠). ويسمي القديسون هذه النزعة في الإنسان بأنها “شهية العمل الصالح” فالإنسان خُلق حرًا وفيه “شهية” العمل الصالح أو القداسة. فالحرية معطاة أصلًا للإنسان ليبلغ بها غاية خلقته أي مشابهة الله.
لقد شرَّف الله الإنسان بالحرية حتى يصير له الخير بمحض اختياره.(القديس غريغوريوس النزينزي) [32]
طبيعة الإنسان غُرس فيها الشهية والرغبة لكل نوع من الصلاح، والإرادة الممارسة البر والخير، وهذا هو معنى خلقة الإنسان على صورة الله ومثاله، وهكذا فهذا الكائن الحي بالطبيعة صالح وبار.
ولكن من حيث أنه لابد له أن يكون ليس فقط عقلانيًا ومهيئًا لكل بر، بل أيضًا مشاركًا للروح القدس حتى يحوز السمات المميزة للطبيعة الإلهية فيه؛ نفخ فيه نسمة الحياة.(القديس كيرلس الكبير) [33]
صورة الله في الإنسانبقلم الأب متى المسكين، نُشر أوّل ما نُشر في مجلة مرقس، عدد مارس ١٩٨٠، الصفحات من ٣٠ إلى ٣٨
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله