طرحنا في المقال السابق خلاصة أفكار أغسطينوس والإكويني في موضوع العنف،
ويمكن التعبير عنها في مقدمات ونتائج على النحو التالي:
بما أنّ؛ (١) كل إنسان أخطأ [في آدم]
وبما أنّ؛ (٢) كل خطيه تستوجب الموت.
إذًا؛ (٣) كل إنسان سيموت.
وإذًا؛ (٤) موت الإنسان ليس عنفُا أو تجنِّيًا من الله.
وكما ذكرنا، فهذه القراءة مُتَّسقه مع العهدين ولكنها غير مقبولة لكثيرين على الرغم من عدم تحديد الإشكالية بدقّة.
في هذا المقال سنحاول مناقشة بعض إشكاليات هذا المدخل في تبرير العنف.
هذه القراءة يمكن أن تبرر موت الإنسان بسبب الحوادث الطبيعية، أو ما يُسمَّى الشر الطبيعي. مثل أن يموت شخص في فيضان أو وباء أو زلزال. يمكن أن نقول إن الموت هو المصير الطبيعي للإنسان والطرف المؤذي هنا ميكانيكي لا واعي وهو الطبيعة، وبالتالي فهذا الطرف كدوران التروس ﻻ يميّز بين الناس وليست له أجندة ولا أيديولوجيا للقتل أو شرعنة العنف.
ولكن هذه الأطروحة لا تصلح لتبرير العنف الذي يتوسطه الإنسان، مثل أن يكون هناك أمر إلهي لإنسان بقتل إنسان آخر بناءًا على دينه أو سلوكه الاجتماعي أو الأخلاقي. وبطريقة أخرى، لو قمنا بتفكيك سلوك أيّ جماعة إرهابية فسنجد أنهم يتحركون من تفسير معين لأمر إلهي يغيّر الضابط الأخلاقي ويبيح لأفراده إجراء عمليات قتل مبني على معايير أو هويّات معينة. ولو كل شخص تحرك بما يراه أمر إلهي ويقتل مجموعة سيتحول العالم لساحة حرب حيث يقتل الجميع الجميع free for all war!
وبالتالي في رحلة البحث عن معيار موضوعي للعنف، ذهب كل من أوغسطينوس وتوما الأكويني في نفس مقدمات ونتائج شرَّعنة العنف تحت راية الأمر الإلهي. التركيبة البسيطة للاحتجاج وشبه واحده عند الكل سواء عند أوغسطينوس، أو الإكويني، أو المجاهد في أفغانستان، أو الإرهابي في سيناء، وتتلخص في أمر إلهي أسمى من الصواب والخطأ، قادر على تصويب الخطأ وتخطئة الصواب، وهذا الأمر هو المحدد للأخلاقي. وبالتالي تحول كل شخص إلى إلهه الذي يشرَّعن العنف تجاه الآخرين، والذين أيضا آلهتهم تسمح لهم بنفس العنف.
في البحث عن الموضوعية نصل للاستغراق في عنف أيديولوجي جماعي يؤدي لإبادتنا جميعًا. إذن ما الحل؟ حتى الآن، قمنا بانتقاد التأويل، ونقد القراءة الحرفية، ونقد المدخل الأخلاقي للعنف، ونقد تجاهل تفسير النصوص. أما لو سألت عن الحل، فسأجيب ببساطه لو كان الموضوع له حل بسيط لما كتبنا كل ما سبق! فالموضوع كبير ومعقد للغاية، وتشعب وخرج من تأويل النصوص ودخل في علم النفس والـNeuroscience وعلم الأخلاق وعلم الاجتماع.
الكل يحاول البحث عن معيار موضوعي يحدد به الصواب والخطأ دون أن يكون هذا المعيار قَبَلي [خاص بقبيله] أو فئوي أو محصور في أيديولوجيا أو في قومية. وحتى الآن ﻻ شيئ يُجمع عليه البشر في الاحتكام للأخلاق دون أن يكون غير قابل للتفكيك، وتظل سلطة الوازِع الديني هي الأكثر فاعلية. لكن كيف نعيش في عالم يؤمن فيه كل الأفراد بحرية ممارسة العنف تجاه بعضهم من دون ضابط يجمعهم جميعا وينظّم لكلٍ رأيه ورؤياه؟
قد يجادل البعض بأن مفهوم العنف له ضابط واضح: العنف المعتدي غير أخلاقي، بينما العنف الدفاعي أخلاقي. عنف الرَدع؟ ومع ذلك، تكمن المشكلة في أن العنف، سواء كان هجوميًا أو دفاعيًا، يمكن استخدامه بشكل تعسفي. فإذا منح الشخص لنفسه سلطة الحكم الأخلاقي على الآخرين -بناءًا على تأويل نصّ أيديولوجي من أي نوع- فلن يقتصر الردع على منع الأعمال العدوانية بل سيمتد إلى أي شيء مُنافي للأخلاق السليمة بتعريفه هو.
حتى مفهوم الرَّدع لا يقتصر على مجال الحرب فحسب، بل يتواجد أيضًا في أبسط التفاعلات الاجتماعية. مثال على ذلك: عندما ترفع صوتك على شخص آخر لمنعه من التصرف بشكل معين، فإنك تمارس شكلًا من أشكال الردع. لا يوجد حد فاصل واضح بين الردع الأخلاقي وغير الأخلاقي. يمكن أن يكون الردع مقبولًا في بعض المواقف، ولكنه غير مقبول في مواقف أخرى.
بطريقة أخرى، عندما يمارس البشر سيطرتهم على الآخرين، فإنهم يفتحون الباب أمام العنف الذي لا يمكن ضمانه أو السيطرة عليه. مثال على ذلك: عندما يسيء الزوج إلى زوجته، حتى ولو من باب الردع والقيادة للأسرة المسموحة دينيًا، فإنه يخلق بيئة من العنف يمكن أن تتفاقم بمرور الوقت وتؤدي إلى عواقب وخيمة. لا شيئ مضمون نهائيًا، وﻻ تقدّم السماء أيّ ضمانات فوق بشرية في هذه المسألة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟