أصبح لدينا تقسيمًا واضحًا الآن في جسد الكنيسة القبطي، لدينا طرفين، وكلاهما لا يفهم حقيقة وجوده في الجسد.

الطرف الأول

الشعب القبطي، لا يفهم -بعد أن سُلب وعيه تمامًا- أنه الكنيسة، أن الرب تجسد لأجله هو تحديدًا، وأن كل ما فعله الرب ليس له وجهة إلا هو حصرًا، صُلْب من أجله ومات لخلاصه وقام ليقيمه، لا يفهم أنه الآن يؤاخي الكلمة نفسه في بنوته للآب.

لا يفهم أنه منذ بدأت البنوة استلزم الترتيب تفرغ البعض ليكونوا في خدمة الجميع، وهو أمر مفهوم تمامًا، فالشعوب تفرغ من أفرادها من سيشكلون من يخدم لحماية أراضي الشعب وموارده، أو من يخدم مصالحه في مواجهة الشعوب الأخرى.

في الشعوب العريقة، الحدود قاطعة فاصلة بين الشعب والخدم، الشعب هو من يقرر وليس الخدم، الذين ينحصر دورهم في تنفيذ تكليفات الشعب، وهكذا كان شعبنا القبطي.

الطرف الثاني

خدم الشعب، ال، لا شك أن الحصفاء منهم يفهمون حقيقة دورهم، وأنهم مجرد خدم مفرزين لقيادة ترتيب الصلاة الذي اتفق عليه، في مقابل أن يمدهم المخدومون باحتياجاتهم الطبيعية، يفهمون أيضًا أنهم ليسوا أكثر قداسة من الشعب وتاريخنا مُمتلِئ بالمواقف التي تحكي، ولا أكثر حكمة، وحتى ولو تفرغوا فهم ليسوا أكثر علمًا من الشعب.

ربما ما يغيب عنهم هو أنهم خدم عابرين، ليس لهم امتدادًا في الكنيسة إلا من ندر منهم وخلال تعاليمه فقط وسيرته الحسنة، لكنهم لا يملكون الكنيسة وبالتأكيد لا يرأسونها، لأن رأسها حي وقائم فيها، ولا يتسلطون على شعبها فلم يفوضهم أحد بذلك.

علماني واحد عاصر البطريرك ثاؤفيلس -مثلًا- أتى للرب بأجيال وأجيال من الأبناء من صلبه ولا يزال، بل ربما كان منهم بطاركة وأساقفة، بينما انقطع ذكر ثاؤفيلس إلا من “السنديانة”.

هذا العلماني هو الكنيسة وليس ثاؤفيلس وأساقفته، هو من يقرر من يفرز للخدمة، ويقرر من لا يصلح لها.

لا يصح ترتيب طقسي أو صلاة بدون وجود الشعب، متلقي الخدمة، وربما هذا ما دعا قداسة ال لدعوة الشعب لحضور صلوات تجهيز الميرون، بعد أن حولها “طيب الذكر” شنودة الثالث إلى تابو غير مقترب إليه، في تصرف ينزع مشروعية الصلوات.

يقول الدكتور في بحثه القيم [1] :

وطبقا لما جاء في لا يرسم أسقف -والتعبير هنا عام يشمل البطريرك- إلا إذا تم اختياره بواسطة الشعب كله.

وتقول تعاليم الرسل: فليقم الأسقف باختيار الشعب كله، ويقام في يوم الأحد، وكل الناس متفقون على إقامته.

(دكتور وليم سليمان قلادة، ورقة بحثية بعنوان: “التراث الكنسي القبطي في اختيار الجالس على كرسي مار مرقس”)

يستطرد د. سليمان في بحثه الهام، ناقلًا عما قاله الفقيه الكنسي أبو البركات بن كبر [2] :

يقام الأسقف بعد اختيار الشعب، دون الأساقفة والمطارنة الذين ليس لهم رأي أو حديث في ذلك، بل لهم فقط تقدمته ووضع اليد عليه.

ليس للأساقفة إلا التكريز، وأما التعيين فإنه لأهل الإقليم.

(أبو البركات بن كبر، مصباح الظلمة وإيضاح الخدمة، مخطوط 375 لاهوت بالمتحف القبطي)

هذا ما مارسه شعبنا منذ دخول المسيحية إلينا، كان الشعب يجتمع ويستقر على اسم، يذهب وفد منهم لإحضاره مكرهًا وأحيانا مكبلًا بالقيود.

كان هذا دأب كنيستنا العظيمة طوال تاريخها في عصور كان كل أساقفتها قديسين حقيقين، ونساك عظام، لم يجرؤ أحدهم على الترشح أو حتى إبداء الرأي في المرشح.

فما بال بطاركتنا المحدثين في عصر كل أساقفتنا من غمازين ال، وماذا يريدون من كنيستنا؟!

أولهما، وبعد أن ملأ الدنيا صياحًا وتهليلًا عن حق الشعب في اختيار راعيه، نكص على عقبيه بعد أن تربع على الكرسي، نازعًا من الشعب حقه في الاختيار بدعوى أنه جاهل، وخوفًا من التأثر بـ”حاجات تانية يتكسف -قداسته- يقولها” [3] .

فالرتب الكنسية الكبيرة خاصة منصب البطريرك لا تترك لعامة الشعب، لأنهم لا يعرفون ما هي اختصاصات القائد الديني وما هي تعاليم الكتاب المقدس، ويمكن التأثير عليهم ببساطة بخطبة قوية… وحاجات تانية أتكسف أقولها.

(ال الثالث، عظة الأربعاء 4 نوفمبر 2009)

ولم يشرح لنا قداسته كيف انحدر الشعب هكذا في حبريته المقدسة وعلى يديه المباركتين!

ثانيهما، بطريركنا المعاصر، وفي تصريح صادم نظنه العكس تمامًا لما اعتقدنا أنه نهجه ومنهجه، يزف إلينا نبأ أن اختيار البطريرك هو شأن الأساقفة!

ونحن هنا نعلن له رفضنا التام لرؤيته هذه، ونسوق إلى قداسته رؤيتنا التي لن ندخر جهدًا لفرضها وهي: حق الشعب في اختيار راعيه، وواجبه في محاسبته.

 

هوامش ومصادر:
  1. د. وليم سليمان قلادة، ورقة بحثية بعنوان: “التراث الكنسي القبطي في اختيار الجالس على كرسي مار مرقس”. [🡁]
  2. أبو البركات بن كبر، مصباح الظلمة وإيضاح الخدمة، مخطوط 375 لاهوت بالمتحف القبطي[🡁]
  3. البابا شنودة الثالث، عظة الأربعاء 4 نوفمبر 2009. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

رجائي شنودة
[ + مقالات ]