كنت في المرحلة الثانوية -في منتصف ستينيات القرن المنصرم- طالبًا في مدرسة الأقباط الكبرى الثانوية، هكذا كان اسمها، وتقع في حرم الكنيسة المرقسية -البطرخانة وقتها- وكان باب المدرسة المخصص للمدرسين والعاملين يطل على الساحة الفاصلة بينها وبين القصر البابوي في مواجهة باب القصر.

والقصر هنا مسمى مفارق للواقع، فالمبنى كان مكون من طابقين، الأرضي مكون من حجرتين إحداهما صالون لاستقبال الضيوف بطول المبنى والثانية مخصصة لاجتماعات اللجان والشئون الإدارية، وبينهما بهو يفضى إلى سلم للدور العلوي، السكن الخاص بالبابا البطريرك، والمبنى مازال قائمًا يشغل الدور العلوي نيافة ال، الأسقف العام، وكان طراز المبنى منتشرًا بأحياء الظاهر وحدائق القبة والأحياء المشابهة التي كان يقطنها الطبقة المتوسطة.

كان يحرس باب المدرسة “عم مرقس” وكان رجلًا مسنًا طيبًا تدرك من ملامحه أنه من صعيد مصر، ويتأكد لك ذلك من طيبته وحنوه على التلاميذ، وعندما كنت ومعي بعض التلاميذ نتأخر عن موعد طابور الصباح غالبًا بسبب تأخر القداس اليومي الذي يصليه قداسة البابا وقتها -في الكنيسة الصغيرة الفاصلة بين المدرسة وبين الكنيسة المرقسية الكبرى- وكان عم مرقس يسمح لنا بالدخول منه لنلحق بآخر الطابور أو نجرى على الفصول في حرص ألا يشاهدنا الناظر. الذي يستقبلنا بعصاه الطويلة على أجسادنا النحيلة (وقتها).

بعد انتهاء اليوم الدراسي كنا نسأل عم مرقس هل البابا موجود بالصالون؟ فإن قال نعم، نتجمع ونجري نحو الصالون ونصطف في الطابور الممتد أمام قداسة البابا، من عامة الشعب البسطاء من طالبي صلاة قداسته، وكل يحمل مشكلته ويثق أنها ستجد حلًا بفعل صلوات “أبونا البطرك”. ولم يكن الرجل يضيق بطول الطابور الواقف أمامه، يستمع في صبر لكل واحد، ويطيب خاطره بكلمات معزية، وأحيانًا كان الطابور ينقسم إلى طابورين متوازيين، احدهما للرجال والآخر للنساء.

أذكر يومًا وأنا واقف في طابور البابا، أن سجدت أمامه واعتدلت لأُقبّل يده وأحني رأسي ليصلي لي، فإذ به يسألني ما الذي فعلته الآن؟ قلت له سجدت لقداستك، فقال لي ومن الذي قال لك أن تفعل هذا؟ قلت رأيت الرجل الذي أمامي يفعل هذا ففهمت أنها طقوس واجبة على من يسلم على قداستك، فقال بهدوئه المعهود وبصوت لا يسمعه من يقف خلفي، يعني بتقلد زي القرد؟! ارتبكت ولم أُجب، استكمل كلامه، شوف يا ابني، لا تفعل إلا ما تفهمه، ومرة أخرى لا تفعل هذا، هززت رأسي موافقًا وأحنيتها ليصلي لي، وخرجت منتشيا ومعى أول درس بابوي.

والحكايات مع هذا القديس ممتدة.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨