- كتاب “بولس الرسول” للأب متى المسكين
- اقتراب محفوف بالتربص
- فك رموز العهد القديم
- تشكيل شاول لقبوله الإيمان
- شاول الفريسي وحال الكنيسة
- شاول يضطهد الكنيسة
- حادث دمشق
- مسيحية بولس الرسول (١)
- مسيحية بولس الرسول (٢)
- صفات القديس بولس
- الفكر اللاهوتي للقديس بولس
- مصادر تعاليم بولس الرسول (١)
- مصادر تعاليم بولس الرسول (٢)
- لاهوت بولس الرسول: تمهيد ومدخل
- ☑ حكمة تعلو فوق كل شيء
- سبق وجود المسيح
- ربوبيّة المسيح
كان السؤال الذي قفز على لسان شاول ـ بولس ـ الفريسي المتمرس والمتحفز، أو لعله بسبب، هول المباغتة حين قطع الرب يسوع المسيح عليه الطريق؛ من أنت يا سيد؟! وصار هذا السؤال خبز يومه، يحمل إجابته معه أينما ذهب، وكلما أمسك بقلمه وأوراقه ليكتب لتلاميذه ولكنائسه التي أسسها. وبعد أن أصبح المسيح عنده الكل في الكل، "لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا".
لم يكن هذا غريبًا على ق. بولس، ويفسر الكاتب هذا:
“أن حياة المسيح وصفاته وكلماته كانت عند بولس الرسول وحدة واحدة يأخذ منها لنفسه أولًا ثم يعطى الآخرين. وهذا تمامًا هو ما كانت عليه صنعته في الفريسية تجاه التوراة والناموس. فالمسيح ملأ كل فراغ الناموس [التوراة] في قلب بولس الرسول عندما اكتشف نهاية الناموس وعدم نفعه؛ الأمر الذي كشفه المسيح للتلاميذ منذ بَدْء خدمته، عندما قدم عظته على الجبل، في مقابل عظة موسى بالناموس على الجبل أيضًا، بل واعتنى المسيح بقوة وتأكيد أن يبيِّن أن هذه جاءت لتحل محل تلك بقوله بتكرار مقصود: “قيل للقدماء … أما أنا فأقول لكم”. فإن كان القديم قد قيل بفم موسى عن تلقين من فم الله، إذًا فبكل مقياس يقف المسيح هنا كمشرع يتكلم بفم الله مباشرة ليضع نهاية للقديم ليحل محله الجديد. الأول كان للجسد والأرض وطن، والثاني للروح والسماء كوطن”.
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
ويستطرد الكاتب:
“وكما كانت التوراة ـ الناموس في التَّرْجَمَةً السبعينية ـ تعني لليهودي كل ما استعلنه الله لمعرفة طبيعته الشخصية وأفكاره وأغراضه وعما يريده للإنسان أن يكون عليه أن يعمله؛ هكذا عرَّف القديس بولس المسيح، الذي استعلن طبيعة الله وأفكاره ومشيئته من نحو تجديد خلقة الإنسان وميراثه السمائي، بأنه هو “التوراة الجديدة”. ومن هذا ندرك كيف رأى بولس الرسول في المسيح وأقواله وأعماله كل ما كان يراه الفريسيون في التوراة القديمة”.
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
ولعل هذا يفسر لنا كيف فهم القديس بولس قول الرب يسوع المسيح أنه ما جاء لينقض الناموس بل ليكمله.
شخص المسيح عند ق. بولس هو حكمة الله؛ وصورة الله غير المنظور وبكر كل خليقة، وفيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض، وهو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل، وفيه سُرَّ أن يحل كل الملء، وقد فصَّل هذا في رسالته لكنيسة كولوسي، ويعقد الكاتب مقابلة بين وصف القديس بولس هنا وبين ما جاء في سفر الأمثال في تعريف الحكمة، وينتهي إلى:
“أنه من أغنى المفهومات الإلهامية عند الربيين اليهود اعتبار ما جاء في سفر الأمثال ـ عن الحكمة ـ هو عن التوراة، فلما دخل بولس الإيمان المسيحي ابتدأ الروح القدس يفتح ذهنه ليفهم المكتوب ويطبق ما درسه في التوراة على المسيح وبالأخص هنا سفر الحكمة”.
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
ثم يقف الكاتب كثيرًا وبعمق عند قول سفر الأمثال هنا “الرب قناني أول طريقه”، باعتبار أن المتكلم هنا هو الحكمة، وينقل عن معلم الناموس “رابي هوشايا” تعليقه على هذا الكلام:
“كنت أداة الصنعة عند الواحد القدوس… فالواحد القدوس كان ناظرًا إلى الناموس عندما خلق العالم، لأن الناموس يقول: “في البَدْء” [= بريشت Breshith خلق الله (تكوين 1:1)]، ولا يوجد بَدْء إلا الناموس. وعليك أن تعود إلى قول سفر الأمثال 22:8 لتقرأ: “الرب قناني [= صنعني] أول طريقه” [= رشيت Reshith]“
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
ويعلق الكاتب:
“أن بولس الرسول حينما أدرك سر التوراة الحقيقية “برشيت” و “الحكمة” في المسيح، استقر بالضرورة على أن المسيح هو حكمة الله (1كو24:1)، وهو ما سبق وقال به المسيح:
-إنجيل القديس لوقا 49:11: حيث الحكمة هي المتكلمة:
“لِذلِكَ أَيْضًا قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ
إنجيل القديس متى 34:23: حيث المسيح نفسه هو المتكلم:
“لِذلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَة”.
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
ويعلق الكاتب:
“لذلك رؤية بولس الرسول أن المسيح هو حكمة الله هى رؤية حقيقية إلهية مستعلنة على خلفية اجتهاد ومعرفة وإلهام، ولكن لها أصل وترديد من فم المسيح نفسه”.
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
ويجول الكاتب في أسفار العهد القديم ويجمع كالفراشة من أزهارها ما يؤكد المعنى أن التوراة هي الحكمة وينتهي إلى أن:
“اليهود قد أدركوا أن الحكمة التي أبدع بها الله الكون لإخراج بديع صنائعه في السموات والأرض الناطقة بحكمته ولاهوته ـ كما يراها بولس الرسول في رومية 19:1و20 ـ استودعها في النهاية كتابه، أي التوراة، ليستعلن بالتوراة المقروءة والمفهومة ما تستعلنه السماء والأرض وكل ما فيها من حكمة الله. بهذا أدرك اليهود أن الناموس الذي استودعه الله في أيديهم واستأمنهم على سر حكمته فيه إنما هو تجسيد فكري لحكمته الفائقة، التي بها خلق السموات والأرض”.
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
ويعود الكاتب إلى ما قاله بولس الرسول بعد أن اُستُعلن له المسيح فأدرك فيه التوراة الحقيقية، حكمة الله وقوة الله، ويتأكد للقارئ التطابق الشديد كلاهما ـ التوراة والمسيح ـ بما سجله القديس بولس في رسالته إلى كولوسي في إصحاحها الأول، كذلك في السطور الأولى في رسالته لأفسس.
استأذن القارئ في ملاحظة مرتبطة بهذا الطرح، أنه غني عن البيان أنه لا يمكن الحديث عن وجود الله خلوًا من حكمته، والحديث عن البَدْء هنا لا علاقة له بالزمن، كما عرفه الإنسان، لأن الزمن جاء بعد خلق السماء والأرض ودورتها حول الشمس وحول نفسها، فكان الليل والنهار وتوقيتات الزمن. البَدْء هنا يقع في نطاق الأزل. وقد عبرت الكنيسة عن هذا في قانون إيمانها عن الابن أنه “مولود غير مخلوق”، وقد نحت أحد اللاهوتيين تعبير “الإلادة” ليعبر أنها عملية دائمة وليست لحظة أو حدث في الزمن.
• وشخص المسيح عند بولس الرسول يعلو فوق كل شيء:
يتتبع الكاتب ما سجله القديس بولس في رسائله، وفيه يكشف لنا “أن بولس الرسول لا يسمح لفكر مهما كان أن يضع المسيح في مستوى مخلوق مهما علا وسما.
إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا.
(رسالة بولس إلى أفسس 20:1و22)
وليس في هذا تفخيم شخصي بل:
“لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ، أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ”.
(رسالة بولس إلى كولوسى 19:1و20)
ويؤكد هذا المعنى مجددًا:
“لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.
(رسالة بولس إلى فيلبي 9:2ـ11)
ويعلق الكاتب موضحًا:
“هذه هي صورة يسوع المسيح عند بولس الرسول يطلقها شهادة مدوية على الأرض لتبلغ عنان السماء ولا يمكن أن يزايد في هذا أحد على بولس قط، ولا مجال لإضافة حرف واحد على مصنف هذه التعبيرات اللاهوتية التي أحاط بها المسيح ليجلو الحق فيه قدر ما رأى وعلم وشاهد وشهد”.
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
وينبهنا الكاتب إلى أن:
“بولس الرسول حينما قال بألوهية المسيح لم يفرط قط في وحدانية الله، فهو صاحب الشهادة الأولى في الكنيسة: “لَنَا إِلهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ” (كورنثوس الأولى 6:8)، وهذه الشهادة التي شهد بها بولس الرسول لا تزال تشهد بها الكنيسة في كل أنحاء العالم إذ صارت قانونًا للإيمان الذي مطلعه [بالحقيقة نؤمن بإله واحد الله الآب … نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد…”.
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
حتى لا يلتبس الأمر على القارئ يشرح الكاتب:
“القول بالربوبية للمسيح أي [المسيح رب] عند بولس الرسول هو التقييم اللاهوتي عن سبق الوجود للمسيح قبل التجسد. والرب بالمفهوم العبري القديم هو اسم [يهوه] مترجمًا إلى [رب = أدوناي] للتخلص من رهبة ومخافة النطق باسم “يهوه”، وهذا يؤدي إلى فك رمز شخصية المسيا عينها ـ كرب ـ فهو الشخص الحامل لاسم يهوه المعبَّر عنه والحامل لصورة الله وكل صفاته وأعماله، الذي بالتجسد صار ـ لله غير المنظور ـ المنظور الذي يستطيع أن يتطلع إليه الإنسان ولا يموت: “اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ” (يوحنا9:14).
(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)
ما زلنا نتتبع شخص المسيح عند القديس بولس، وعند الكنيسة، في رحلة ممتدة في رسائله المدققة والممتعة في مقالات مقبلة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨