المقال رقم 12 من 17 في سلسلة القديس بولس الرسول
في تتبعنا لطرح الكاتب ندرك أنه لا يتبنى منهج كتابة المناظرات، أو الكتابة الجدلية، الدفاعية، ولا تستغرقه الكتابة التأملية التي تغازل المشاعر، ولعلنا لاحظنا أنه يقترب من حالة ق. بولس في نشأتها وتشكلها الحياتي وتطورها الذهني والاختباري، ويضع يده على نقطة التحول المحورية، حين باغته الرب يسوع المسيح بظهوره له وهو في طريقه إلى دمشق، وهو تحول لا يلغي التكوين النفسي ولا يطمس القدرات الشخصية، إنما ينير الذهن ليدرك ويعي كل ما اختزنه عقله من معارف توراتية وناموسية وتعليمية بامتداد سني عمره المنقضي قبل هذا اللقاء، وفي استنارته هذه يكتشف أن الشخص المحوري في كل هذا، هو شخص الله المتجسد، وكان هذا الاكتشاف محور كرازته.

دعونا نعيد قراءة ذاك الحوار الذي دار بين الرب وبولس، كما سجله هو فس دفاعه عن نفسه أمام أغريباس الملك؛ فبعد أن يحكي ملابسات ظهور الرب يسوع له يورد الحوار الذي حفر في ذاكرته:

فَقُلْتُ أَنَا: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ: أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. وَلكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِمًا وَشَاهِدًا بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذًا إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا وَنَصِيبًا مَعَ الْمُقَدَّسِينَ.

(سفر أعمال الرسل 16:26ـ 18)

ويكمل القديس لوقا مشهد اللقاء، ويعلق كاشفًا منهج القديس بولس، التعليمي المحقق:

وَلِلْوَقْتِ جَعَلَ يَكْرِزُ فِي الْمَجَامِعِ بِالْمَسِيحِ «أَنْ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ». فَبُهِتَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا:«أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي أَهْلَكَ فِي أُورُشَلِيمَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهذَا الاسْمِ؟ وَقَدْ جَاءَ إِلَى هُنَا لِهذاَ لِيَسُوقَهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ!». وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَزْدَادُ قُوَّةً، وَيُحَيِّرُ الْيَهُودَ السَّاكِنِينَ فِي دِمَشْقَ مُحَقِّقًا «أَنَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ»

(سفر أعمال الرسل 20:9ـ22) 

من هذا نفهم أن المصدر الأساسي عند في تعليمه هو شخص المسيح بشكل مباشر “خادمًا وشاهدًا بما رأيت وبما سَأَظهَر لك به”، “مُحققًا أن هذا هو المسيح”.

وفي هذا يعيدنا الكاتب إلى ترتيب المصادر عند ق. بولس تاريخيًا تأسيسًا على:

دراسة العلماء المتتابعة على مدى مئات السنين أصبحت الآن أصول المصادر التي يستند إليها بولس الرسول في تعليمه أو الينابيع الصادرة منها واضحة لا تخرج عن منبعين:
أ ـ ال.
ب ـ تعليم المسيح.

(الأب ، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ويربط الكاتب بين المصدرين، عند القديس بولس ويصل إلى نتيجة محددة، أن:

“بولس الرسول يشرح العهد القديم على ضوء الرؤية التى اكتسبها بالروح من المسيح ولهذا جاءت مُحكمة متكاملة”.

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ويرى الكاتب أن:

“الاتفاقات الواضحة بين تعاليم بولس الرسول وما جاء في الأناجيل، وخاصة إنجيل يوحنا، وبقية الرسائل لبطرس ويعقوب ويوحنا وبقية تعاليم الرسل، إنما يُعزى للنقل الشفهي الذي كانت تعتمد عليه الكنيسة كل الاعتماد، منذ صعود الرب وحتى كتابة أول إنجيل في حِقْبَة زمنية لا تقل عن ثلاثين سنة ـ حيث كانت تعاليم الرسل تُحفظ وتُتلى شفاهًا كقانون تعليمي Catechism ـ لذلك لا يوجد أي نشاز أو أدنى نزاع في المسائل التعليمية وفي الممارسات الكنسية بين بولس الرسول وبقية الرسل، كذلك كل ما يتعلق باللاهوت بالنسبة لله، والمسيح، والخلاص والأسرار والأمور الأخروية”.

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

يعود الكاتب فيؤكد على أن:

ق. بولس قد استلم تعليمه وإنجيله من المسيح رأسًا “بإعلان”، ومعرفته الفائقة في أمور الخلاص مردها النعمة الفائقة التي وهبها له المسيح كنور فائق أضاء وعيه المسيحي، “ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي” (1كو10:15)

كانت التوراة في نسختها السبعينية بروحها التقوية هي محل تلمذة القديس بولس، وقد تم تَرْجَمَة التوراة فيها إلى اليونانية، “خصيصًا من أجل يهود الشتات الذين عاشوا بعيدًا عن وطنهم وعن لغتهم العبرية والآرامية، ومعها كل مواريثها القديمة من مفهومات واصطلاحات تقوية من التاريخ الروحي للآباء بكل ما يحمل من تراث تعليمي وتوجيهي ومواعيد ورجاء، فجاءت السبعينية لتوصل وتربط يهود الشتات بميراثهم وتراثهم من جديد”

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

واللافت أن تكون خدمة وكرازة ق. بولس للأمم، عبر يهود الشتات ومعهم.

كان للتوراة في ترجمتها السبعينية دورًا رئيسيًا في أن يكون:

الخط الأساسي الغائر في نفسية بولس وروحه وفكره هو الخط التقوى، لذلك سهل عليه بعد أن أدركه المسيح وأدرك هو المسيح أيضًا، أن يدرك وبسهولة أنه بالمسيح انتهى وفقد قوته الأساسية فى ربط اليهودي بالله، وخاصة عندما كمُلت في المسيح كل المواعيد التي في الناموس، … وأن المسيح هو نهاية خط التقوى المرسوم في التوراة … لذلك جاءت تقوى بولس الرسول في رسائله تعبِّر أعظم تعبير عن تقوى العهد القديم متوَّجة بقداسة المسيح وجلال تقواه.

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ويتوقف الكاتب مليًا مع اقتباسات القديس بولس العديدة من التوراة، التي تؤكد روح التقوى عنده، ويتتبع تلقائيته السريعة في الإيمان ثم الكرازة التي لا تبلغ في مدتها الزمنية أكثر من أسبوع حسب رواية القديس لوقا فس سفر الأعمال.

ولعل هذا، حسب الكاتب، هو السر وراء:

“التعاليم الأخلاقية المكثفة في رسائل بولس الرسول وتنظيمها وتقنينها، وسرد عيوب السلوك وإصلاحها، وتوعية الضمير، وأعمال النسك الروحي وإماتة الأعضاء التي على الأرض، وواجبات العبادة الصادقة، فهذه كلها انطباعات تقويَّة من واقع روح التوراة، التي كان يعيش عليها القديس بولس ويتحرك، التي سلط عليها نور المسيح الذي هو المثل والنموذج الأعلى للتوراة الروحية الحقيقية”.

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

وفيما يشبه الاستدراك يطالبنا الكاتب بـ:

التمييز بين تقدير بولس الرسول العالي للتوراة وبين مناداته بإلغاء الناموس، وهو الجزء من التوراة الذي أبطله المسيح بظهوره، بالفداء الذي أكمل به الناموس، فالناموس فى صرامته رسخ فى الذهن ضرورة الخلاص والفداء. فلما جاء المخلص والفادي انتهى دور الناموس وأُطلق سراح المحبوسين.

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ويؤكد الكاتب أن:

أول من استخدم الرمزية في التعليم هم الأنبياء بل ربما الله نفسه، ليقرب إلى ذهن الإنسان وحواسه استعلان شخصه وصفاته، فظهور الله كنار مشتعلة هو أقوى رمز أو تشبيه عن طبيعة الله، التي صيغت بالكلمة بعد ذلك “لأن إلهنا نار آكلة” (عبرانيين 29:12)

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ويورد الكاتب العديد من التشبيهات التي برع ق. بولس في استخدامها، لشرح ما أُغلق فهمه في التوراة، فخرج بها من حدود القصة الضيقة إلى معانٍ أعلى وأوسع، ومن حدود الحرف إلى الروح. مقتديًا بالرب يسوع، ويعلق الكاتب:

“هذا الأسلوب الإبداعي في إخراج الروح من الرمز هو بمثابة إعطاء كلمة التوراة المغلقة والضيقة أجنحة تطير بها في سماء الروح لتحط على الحقائق الأزلية”

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ويتتبع الكاتب دور القديس بولس في استنباط مبادئ وأفكار جديدة في المسيحية مستوحاة من التوراة لشرح وتعميق الإيمان المسيحي، وكيف أن ممارسات العهد القديم وطقوسه كانت “ظل الحقائق”، لينقلنا إلى الحقائق التي في المسيح يسوع، ويعقد مقارنات ممتدة بين ما كان في العهد القديم وما صار في المسيح يسوع وكنيسة العهد الجديد؛ الفصح القديم والفصح الجديد، المن النازل من السماء الذى لا ينقص ولا يزداد، وقد وظف حالة الكفاية من المن ليحث الكنائس الغنية أن تسخي في عطائها ـ بقدر وتقسيط معاُ ـ لفقراء أورشليم:

“فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَيْ يَكُونَ لِلآخَرِينَ رَاحَةٌ وَلَكُمْ ضِيقٌ، [أي لا يعطوا من أعوازهم فيصيروا في ضيق] بَلْ بِحَسَبِ الْمُسَاوَاةِ. [أصل روح ال] لِكَيْ تَكُونَ فِي هذَا الْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ [المالية] لإِعْوَازِهِمْ [الجسدية]، كَيْ تَصِيرَ فُضَالَتُهُمْ [الروحية بالدعاء] لإِعْوَازِكُمْ [الروحية]، حَتَّى تَحْصُلَ الْمُسَاوَاةُ. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«الَّذِي جَمَعَ كَثِيرًا لَمْ يُفْضِلْ، وَالَّذِي جَمَعَ قَلِيلاً لَمْ يُنْقِصْ». (كورنثوس الثانية 13:8ـ 15).

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ويرصد الكاتب مقارنة بولس الرسول بين نور التوراة على وجه موسى ونور المسيح الذي أشرق في قلوبنا بالإنجيل، وكيف أننا جميعنا ننظر مجد الرب بوجه مكشوف (بدون برقع كما كان الحال مع موسى).

ويعلق الكاتب:

هنا يمكن تجميع رؤية بولس الرسول فى القول بأن تَطَلُّعنا في إنجيل المسيح هو في حقيقته تطلع دائم في وجهه الإلهي الذي يضيء قلوبنا بحضرته، فيغيرنا إلى مجد، ومن مجد إلى مجد، شريطة أن يكون تطلعنا فى الكلمة قويًا لصيقًا كما في مرآة، بدون برقع الخطية، نعدِّل عليها صورتنا كل مرة لتكون “على صورة مجده”

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ويؤكد الكاتب مجددًا أن:

المسيح [عند بولس بيقين] هو التوراة الجديدة الحقيقية بصفته الحامل لطبيعة الله والمعلن عنها 

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول «حياته، لاهوته، أعماله»)

ينتقل الكاتب إلى المصدر الثاني الذي يستند إليه بولس الرسول في تعليمه وهو “تعاليم المسيح” وسنعرض له في مقال مقبل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: القديس بولس الرسول[الجزء السابق] 🠼 الفكر اللاهوتي للقديس بولس[الجزء التالي] 🠼 مصادر تعاليم بولس الرسول (٢)
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨