المقال رقم 4 من 17 في سلسلة القديس بولس الرسول

لم يشتبك القديس بولس مع المسيحية ـ مقاوماً ثم مؤمناً ـ من فراغ، بل وفق خطة إلهية محكمة كانت تعده لدوره المحوري الذي قام به، واستطاع أن يُنَظِّر لكل ما قاله وعلم به رب المجد، ليصير ما قدمه عبر رسائله ورحلاته بل ومعاناته دستوراً للمسيحية، وقد اقترب الكاتب بشكل موثق من حياة القديس بولس قبل أن يظهر في المشهد المسيحي، طفولته وشبابه، التكوين والنشأة، وفيها نلمس كيف تم إعداده ليكون إناء مختاراً للرب.

وحين يدافع القديس بولس عن نفسه، يقدم تقرير عن أصالة يهوديته:

من جهة الختان مختون في اليوم الثامن، من جنس إسرائيل، من سبط بنيامين، عبراني من العبرانيين. من جهة فريسي

(رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 3 : 5)

ويرصد الكاتب الدراسات التاريخية عن ال فيجد أن اسم “شاول” تعنى “المشتهىَ ـ شوقي” أو “المطلوب في الصلاة”، وقد يكون إشارة إلى أن والديه كانا يشتهيان أن يرزقا بابن، وعلى هذا يكون بولس هو الابن البكر لوالديه، ولما كان أبوه فريسياً ملتزماً بأن يكون البكر نذيراً للرب، فقد حرص على أن يرسله لدراسة الناموس وال وهو بعد صبياً، فتفتحت مداركه مبكراً على النبوات التي كان محورها المسيا المنتظر، وعندما تلقى الإنجيل من الرب مباشرة في سنوات اعتكافه بصحراء العربية أدرك انطباق النبوات التي درسها بتدقيق على شخص يسوع المسيح.

وينقل الكاتب عن ـ ويؤيده العلماء المحدثون ـ أنه كان يحمل اسمين؛ الأول عبراني “شاول”، والثانى رومانى “بولس” منذ ولادته، فيما يرى القديس وس أنه أخذ اسم “بولس” فى بداية عمله كمبشر، ويؤيده في هذا القديس والذي يقول أيضاً أن ق. بولس ولد سنة 2 ميلادية. وقد حمل الجنسية الرومانية بالمولد ربما لأن أبيه أو أحد أجداده قدم خدمة جليلة للدولة أو للإمبراطور.

وهنا ندرك كيف أعده الله لخدمته الجليلة بجمعه بين الدراسة المعمقة كفريسي للنبوات وبين حرية الانتقال والحماية التي تسبغها عليه جنسيته الرومانية، وبين إتقانه للعبرانية لكونه فريسي وكذلك اليونانية لكونه مواطناً رومانياً له وضعه الاجتماعي المتميز.

ويكشف الكاتب سر ومغزى تأكيد بولس انتمائه إلى سبط بنيامين؛ أنه السبط الذي خرج منه أول ملك على إسرائيل واسمه “شاول”والذي على اسمه تسمى بولس، وهو السبط الذي دعم بن سليمان ليسترد المملكة، وهو السبط الذي واجه مع سبط الكنعانيين وانتصرا بقيادة دبورة قاضية إسرائيل، وهو السبط إلى استرد معظم ارضه بعد العودة من السبي، وبنيامين رأس السبط هو الوحيد من أولاد يعقوب الذي ولد في أرض الميعاد بالقرب من أفراتة بيت لحم، وبنيامين هو الأصغر بين أخوته كذلك بولس يقر “أنه الأصغر بين الرسل”. وفيما اختارت لابنها اسم “بن أونى” أي “إبن عنائي” ثم حوله أبوه يعقوب، بعد وفاتها عقب ولادته، إلى “إبن يميني = بنيامين”، هكذا كان بولس “ابن عناء” ومقاوم للمسيح، ثم تحول إلى إناء مختاراً يحمل اسم المسيح إلى ملوك وأمم.

ثم يعرج الكاتب إلى تعليم بولس منذ طفولته وصباه والذي بدأ بالتمرن على قراءة الأسفار، ثم على كتب شرح الناموس، ثم في مطلع شبابه يتتلمذ على الناموس حتى يتقن تفاصيله، ويدرك بعدما تقابل مع المسيح أن هذه الكتب المقدسة تقوده لمعرفة المسيح وهو ما أشار إليه في حديثه إلى تيموثاوس الذي مر بنفس خبرة بولس في النشأة، “وإنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تُحكِّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع” (2تى 15:3).

ينتقل بولس في بواكير شبابه إلى أورشليم ليستكمل دراسة الناموس والتوراة بتدقيق على يد “” اشهر معلمي إسرائيل، ثم يشير الكاتب إلى التزام والد بولس بتعليم ال الذي يوجهه لتعليم ابنه صنعة تعينه وقت الأزمات أو العوز لظروف خارجة عن سيطرته، فعلمه أبوه صنعة الخيام حتى احترفها.

ويستعرض الكاتب نمو بولس الصبي ثم الشاب وصراعه وخوفه من الخطية بين ضغوط مرحلة البلوغ وأحكام الناموس المتشددة، حتى يدرك النعمة أو تدركه النعمة في المسيح، المسيح الذي قتل له الخطية ورفع عنه لعنة الناموس، إذ اصبح وكأن الناموس لا وجود له عندما أُبُطلت الخطية، فدخل بولس أسيراً لنعمة الحياة في المسيح يسوع، بعد أن كان أسيراً لناموس الخطية والموت.

يرصد الكاتب الحالة الدينية السائدة وقت نشأة ق. بولس والتي شكلتها ارتباكات سيطرة الحاكم الروماني على خريطة الكهنوت اليهودي وتدخله فيها، وازدياد تمسك اليهود بالعبادة (الشكلية) الأمر الذي انعكس على ارتفاع شأن الكتبة والفريسيين وعلماء الناموس، وانتشار فتاويهم التي تحكم الشارع اليهودي. ويكشف في هذا السياق عن قيمة وأثر غمالائيل باعتباره اشهر حكماء إسرائيل والذي عندما يصفه سفر الأعمال يقول عنه “رجل فريسي اسمه غمالائيل معلِّم للناموس مكرَّم عند جميع الشعب” (أع 5 : 34).

وقد استقى بولس الرسول من هذا المعلم ـ بحسب الكاتب ـ ثلاث خصال:
1. الصراحة مع الصدق مع أمانة الحكم على الأمور.
2. الاستعداد للدراسة باللغة اليونانية والاستشهاد بالكُتّاب اليونانيين.
3. اليقظة والغيرة على الناموس اليهودي.

كان تأثير غمالائيل على بولس كبيراً ولهذا يقول ق. بولس “وكنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثيرين من أترابى في جنسي، إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي” (غل 14:1).

تتجمع خيوط عديدة لتشكل ذهنية ق. بولس، في وضعه الاجتماعي والديني والثقافي وتنصهر كلها في بوتقة اللقاء الحاسم مع المسيح في طريق دمشق، لتخرج لنا أعظم من قدم المسيح للعالم (الأمم).

يعود الكاتب في فصل تال ليتتبع مسار علاقة بولس بالكنيسة والتي بدأت بتعقبه لها كجماعة معادية يجب محاصرتها والقضاء عليها،
وهو ما سنتناوله في لقاء قادم “شاول الفريسى مضطهد الكنيسة”.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: القديس بولس الرسول[الجزء السابق] 🠼 فك رموز العهد القديم[الجزء التالي] 🠼 شاول الفريسي وحال الكنيسة
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨