المقال رقم 2 من 17 في سلسلة القديس بولس الرسول
أحسب أن الاقتراب من الكتاب والكاتب أمر محفوف بالمحاذير التي شكلتها الحالة القبطية المعاشة، فيما يتعلق بالكاتب، وشكلتها الحالة الفكرية حولنا والمتوارثة فيما يتعلق بموضوع الكتاب وهو يقدم قراءة معمقة لشخصية القديس ، الذي يقف في بؤرة مرمى نيران من يهاجمون المسيحية.ربما كانت هذه المحاذير نفسها هي الدافع للاقتراب من هذا الكتاب، ليس رداً على أحد من الفريقين ولا الاشتباك معهم فنيران دوائرهم ليست بحاجة إلى مزيد من الحطب، وإنما محاولة لاسترداد حقنا في التعامل الموضوعي مع كلاهما لحساب ضبط بوصلة الموضوعية، في التعامل مع الكتاب والكاتب، وتوثيق محاور إيماننا.

يستهل الكاتب طرحه بتمهيد يلقى نظرة عامة على حياة القديس بولس الرسول؛ حسب ما سجله كاتب سفر “أعمال الرسل” الذي أفسح لهذا الغرض غالبية سفره، ويرى الكاتب أن هذا يرجع لكون القديس لوقا ـ صاحب سفر الأعمال ـ “شاهد عِيان وزميل خدمة وأسفار” وكان “يتتبع أخباره أولاً بأول ويسجلها في ذاكرته ومذكراته، وكان يستقي أخباره دائماً من الذين عاينوها وخدموها، ويوقعها على أزمنة الملوك والحكام وسجلات الشخصيات المعاصرة، بمعنى أنه كان يوثق التاريخ بشهادات ثابتة فوق شهادته هو”.

المصدر الثاني الذي أعتمده الكاتب في هذا الكتاب هو رسائله، يتتبع من خلالها حياة القديس بولس فيدرك “أنه قد أوقف هو الآخر كل مواهبه وملكاته على إرساليته التي استغرق في خدمتها استغراقاً، وابتلع كل ما بقى له من عمر بعد أن تعرف إلى المسيح وآمن به”.

ويلتقط الكاتب أول خيط في خطة وتوجه القديس بولس من قوله “لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل لأبشر”، والمؤسس على قول حنانيا الذي التقى بولس عقب ظهور المسيح له في رؤيا وأمره بلقاء بولس

«اذْهَبْ! لأَنَّ هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي»

(سفر أعمال الرسل 9: 15، 16) 

وحين يلتقيه يبلغه برسالة المسيح له “ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت”.

وقد التزم ق. بولس بهذه المهمة التي حسبها “نعمة” من المسيح؛

“الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِمًا لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ. لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى”

(رسالة بولس إلى أفسس 3 :7، 8)

حتى إلى درجة أن يحسب عدم التزامه بالتبشير جالباً للويل.

“فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ”

(رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 9: 16) 

لذا كان الترحال بلا توقف هو منهج ق. بولس “ثلاثون عاماً قضاها بولس الرسول في الترحال، يضرب بعصاته فوق الطرق الوعرة، تحت رحمة اللصوص والسيول، ويمخر البحار بسفن الشراع التي مادام تكسرت به ليقضى لياليه في العمق، لم يلتقط فيها أنفاسه إلا في السجون تحت المقطرة والقيود”.

كانت المتاعب والآلام والشدائد عنوان إرساليته، في تَرْجَمَة حياتية لكلمات الرب يسوع وهو يحدث حنانيا عنه

“لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي»

(سفر أعمال الرسل 9: 16)

وتحتشد رسائل القديس بولس بالحديث عن الألم، فيفرح به ويفتخر بل ويشتهيه ويحسبه شركة في آلام المسيح، ليس من باب التلذذ بالألم في ذاته، بل كان نزيف ضميره المجروح من جرّاءِ ما عذب به المسيحيين الذين وقعوا تحت سطوة فريسيته قبل أن يداهمه الرب في مشواره الأخير إلى دمشق.

ويكشف الكاتب سر اعتزاز ق. بولس بآلامه، وهو الصليب، فصليب المسيح برأي الكاتب:

“كان يسطع في قمة إدراكاته ووعيه “لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا.” (1 كو 2:2). حتى قلب له معنى الألم والمعاناة والاضطهادات والمؤذيات، حتى الموت نفسه صار عنده مسرة وشهوة يشتهيها”

(، القديس بولس الرسول “حياته”، “لاهوته”، “أعماله”)

ما لفت نظري في سطور تقديم الكاتب لكتابه انتباهه لهدف القديس بولس المخبئ بين سطور رسائله وكرازته، في فقرة أراها مفتاح ليس الكتاب فقط ولا حياة القديس بولس وحسب، بل هي مفتاح عمل الكنيسة ومبتغاها، دعونا نقرأها معاً غير مجزأة:

“كان القديس بولس يُطوِّع لهب اللاهوت المتأجج في روحه لخدمة الخلاص وإنارة طريق الحياة أمام المؤمنين، فنراه ـ في لاهوته ـ يتألق بالروح إلى آية أو آيتين، يعود بعدها ليستغرق في التطبيق الأخلاقي، فيتحول اللاهوت إلى فضائل، يحثُ ويُعنِّف، يُرغِّب ويحذِّر، لأن عينه كانت مسلَّطة دائماً على تهذيب النفوس التي أؤتمن على خلاصها، فكلما دخل إلى العمق اللاهوتي من أوسع أبوابه، تحسبه قادماً لا محالة إلى بحث خطير، فإذ به يعود ويجرفه الحماس نحو تصحيح الأفكار وتعديل المبادئ عند الكنائس التي كانت ترتد عن الإيمان المستقيم. وهذا بحد ذاته يكشف عن الخط الفكري والروحي الأكثر تملكاً على نفسية هذا القديس، فهو معلِّم أخذ فيه روح التهذيب كل مأخذ، واستحوذ عليه روح الخلاص وتحرير عقول وقلوب وأرواح الناس. وإن لزم اللاهوت فهو لحساب النفوس المتعبة والثقيلة الأحمال، ليعيد إليها أصالتها وحريتها في الله تحت نير المسيح الهين وحِملِه الخفيف”.

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول “حياته”، “لاهوته”، “أعماله”)

وما استوقفني هو أنه لا معنى لأي تعليم لاهوتي لا يترجم في حياة الكنيسة، الجماعة والشخوص، إلى منظومة أخلاقية معاشة كل يوم كل اليوم، معلنة المسيح حياً فينا، وإلا تحولت إلى صراعات وآبار مياه مشققة لا تضبط ماء.

ويستطرد الكاتب في ضبط إيقاع كرازة ق. بولس:

“ولكننا حينما نجمع شوارد لاهوتياته في رسائله معاً، فإننا نكون أمام أضخم مُعجم لاهوتي ظهر في حياة الكنيسة كلها… إن لاهوت القديس بولس قدم إيماناً مسيحياً نقياً من الخرافات والشوائب، بعيداً عن التأملات المستغرقة فيما وراء الطبيعة، وتركز في فتح وعى الإنسان المسيحي لمعرفة ذاته، وكشف حقيقة العالم الذي تحكمه حكمة الله المخفية منذ الدهور، وأعطى أعظم وأجل صورة عن الله التي استُعلِنت بكاملها في المسيح… وأرجع معرفتنا لذواتنا لمصدرها الحقيقي وهي معرفة الله حتى أعماق الله بالروح، لأننا معروفون لله، وقد اعتبر بولس الرسول هذه المعرفة أنها نعمة موهوبة “لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ (فلسفة اليونان)، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ” (1كو2: 11و12)

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول “حياته”، “لاهوته”، “أعماله”)

ويشرح الكاتب العلاقة بين معرفة الإنسان لذاته وانفتاحها على معرفة الله عند ق. بولس الذي يربطهما:

“بالخضوع والطاعة لله للبلوغ بالإيمان والمحبة إلى واقع وجودي حي فعَّال، فيتحصن الإنسان ضد الانجراف وراء أوهام العالم وخرافات التعاليم غير المؤسسة على

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول “حياته”، “لاهوته”، “أعماله”)

ثم يضع الكاتب يده ممسكاً بأيدينا على أهم ما قدمه لنا القديس بولس، ويرد في الوقت نفسه على من يروجون لفرية أنه أعلن قبوله الإيمان بالمسيح ليفجر المسيحية من الداخل، ويشكل مسيحية لم يأت بها المسيح، فيقول الكاتب:

“إن أجلَّ خدمة صنعها القديس بولس لكنيسة المسيح، التي تذكرها له بالدموع، أنه عتقها من . ولكن لا يزال يؤلمنا حقيقة أن لاهوت بولس الرسول لا يزال يحتاج لمن يفهمه ويشرحه!! وبولس الرسول لاهوتي على مستوى رسائل، ورسائله هي بشارة حارة تستمد حرارتها من إيمان ويقين كاتبها، يدعِّمها اللاهوت بين السطور كجواهر مرصعة”

(الأب متى المسكين، القديس بولس الرسول “حياته”، “لاهوته”، “أعماله”)

مازال أمامنا الكثير الذي كشفه الكاتب في عقل وروح وضمير القديس بولس وهو ما نحيله لمقال مقبل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: القديس بولس الرسول[الجزء السابق] 🠼 كتاب “بولس الرسول” للأب متى المسكين[الجزء التالي] 🠼 فك رموز العهد القديم
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨