التعليم عن الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق هو تعليم أرثوذكسي سليم موجود في صُلب الكتاب المقدس والتقليد الرسولي والآبائي، حيث نذكر تجلي إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بنوره الإلهي غير المخلوق على جبل تابور أمام تلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنا وإيليا وموسى.
تجلي السيد المسيح على جبل تابور
يقول الكتاب:
وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: 'يَارَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ(إنجيل متى 17: 1-4)
وهكذا ستتجلى أجسادنا بهذا النور العجيب مثل تجلى جسد المسيح أمام تلاميذه في المجد والملكوت.
اختبار بطرس الرسول للنور الإلهي
ولقد اختبر ق. بطرس الرسول النور الإلهي غير المخلوق وشهد عن ذلك قائلاً:
لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى :'هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ‘. وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ(رسالة بطرس الثانية 1: 16-18)
اختبار بولس الرسول للنور الإلهي
كما اختبر ق. بولس الرسول هذا النور الإلهي غير المخلوق وشهد عنه قائلاً:
فَحَدَثَ لِي وَأَنَا ذَاهِبٌ وَمُتَقَرِّبٌ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّهُ نَحْوَ نِصْفِ النَّهَارِ، بَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلِي مِنَ السَّمَاءِ نُورٌ عَظِيمٌ(أعمال الرسل 22: 6)
اختبار القديس استفانوس للنور الإلهي
كما اختبر ق. اسطفانوس أول شهداء المسيحية مجد هذا النور الإلهي غير المخلوق وشهد عنه قائلاً:
وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، فَرَأَى مَجْدَ اللهِ، وَيَسُوعَ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ(أعمال الرسل 7: 55)
اختبار يوحنا الرسول للنور الإلهي
واختبره أيضًا ق. يوحنا الرسول وشهد عنه قائلًا:
وَهذَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْهُ وَنُخْبِرُكُمْ بِهِ: إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ. إِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي الظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ الْحَقَّ.(رسالة يوحنا الأولى 1: 5-6)
اختبار القديس كيرلس السكندري للنور الإلهي
لقد تحدث ق. كيرلس السكندري الذي اختبر الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق وقال عن هذا الاختبار:
”فنحن دُعِينا من الظلمة إلى نوره العجيب. وإذا كان هذا حقًا، فالمخلوق ليس حقًا هو النور، بل الابن وحده بالحقيقة وبالضبط هو النور، أما المخلوقات فهي تصير نورًا باشتراكها فيه، ولذلك فهي ليست من ذات طبيعته“. [56]
(كيرلس السكندري (قديس)، تفسير إنجيل يوحنا ج1، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون)
اختبار القديس اغريغوريوس اللاهوتي للنور الإلهي
ثم يتحدث ق. اغريغوريوس اللاهوتي عن اتحادنا بالنور الإلهي غير المخلوق كالتالي:
”لنصبح نحن نورًا، كما سمع التلاميذ من النور الأعظم قوله لهم: أنتم نور العالم، بل ولنصر كأنوار في العالم، نضيء بين الأمم كما قال بولس الرسول في (رسالة بولس إلى فيلبي2: 15) نحن قوة حية للآخرين. فلنتخذ شيئًا من الألوهة ولنقتبس نورًا من النور الأول. لنسر نحو إشعاع هذا النور قبل أن تحجب بيننا وبينه الظلال“. [57]
(اغريغوريوس اللاهوتي (قديس)، مختارات من القديس اغريغوريوس اللاهوتي النزينزي، تَرْجَمَة: الأسقف استفانوس حداد)
ويتحدث ق. اغريغوريوس اللاهوتي أيضًا عن اتحادنا بالنور الإلهي غير المخلوق التالي:
”ولكي تتقدموا أنتم كأنوار كاملة أمام النور الكبير، وأن تدخلوا إلى موكب النور النابع من النور الكبير متخذين من النور الأبهى والأنقى، نور الثالوث الذي قبلتموه صبحًا من أصباح الألوهة الواحدة لشخص ربنا يسوع المسيح“. [58]
(اغريغوريوس اللاهوتي (قديس)، مختارات من القديس اغريغوريوس اللاهوتي النزينزي، تَرْجَمَة: الأسقف استفانوس حداد)
ويتحدث ق. اغريغوريوس اللاهوتي عن الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق قائلًا:
”إنه ينزل من الأعالي حيث مقره لكي ما تدخل إليه -إلى حد ما- الطبيعة المخلوقة“. [59]
(Homily 45: 11. PG 36: 637 B)
اختبار القديس باسيليوس الكبير للنور الإلهي
كما يتحدث ق. باسيليوس الكبير عن اختبار النور الإلهي غير المخلوق لفهم وإدراك الإلهيات، وإنه دون الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق لا يمكن أن تفكر النفس بصورة سليمة كالتالي:
”لأنه تمامًا كما هو النور المحسوس بالنسبة للعين، هكذا الله الكلمة بالنسبة إلى النفس، لأن الكتاب المقدس يقول: كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم (إنجيل يوحنا1: 9). وبناءً على ذلك، فإن النفس التي ليس فيها نور، لا تستطيع أن تفكر بشكل صحيح […] وأن يقتربوا من هذه الولادة من خلال إشراقة النور الإلهي“. [60]
(باسيليوس الكبير (قديس)، ضد أفنوميوس، تَرْجَمَة: د. سعيد حكيم)
ثم يتحدث ق. باسيليوس الكبير في موضع آخر عن اتحادنا وتلامسنا مع بهاء الألوهة والاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق كالتالي:
”هؤلاء يوصيهم أن يقتربوا من الرب، ويتلامسوا مع بهاء ألوهيته، حتى أنهم بهذا الاقتراب، بعدما يستنيرون بنور الحقيقة، يقبلوا داخلهم هذا النور بواسطة النعمة، وكما هو الحال بالنسبة إلى النور المحسوس، فهو لا يشرق على الجميع بطريقة واحدة، بل يشرق فقط على الذين لهم أعين، وهم في حالة يقظة“. [61]
(باسيليوس الكبير (قديس)، تفسير سفر المزامير ج1، تَرْجَمَة: د. سعيد حكيم)
اختبار القديس اغريغوريوس النيسي للنور الإلهي
يتحدث ق. اغريغوريوس النيسي عن اتحادنا بالنور الإلهي غير المخلوق كالتالي:
”إن نور الحق يسطع علينا نحن الذين نواصل السير في هذا المساء الهادئ في الحياة، وينير أعين أرواحنا بأشعته. هذا الحق الذي تجلى لموسى بنور غامض لا يُوصَف ولا يُنطَق به هو الله“. [62]
(اغريغوريوس النيسي (قديس)، حياة موسى، تَرْجَمَة: مجدي فهيم حنا)
ثم يتحدث ق. اغريغوريوس النيسي عن اختبار القديس اسطفانوس للنور الإلهي غير المخلوق، الذي هو مثال لاتحادنا بالنور الإلهي غير المخلوق كالتالي:
”كيف رأى استفانوس مجد الله؟ مَن الذي فتح له أبواب السماء؟ تُرى هل هذه النعم محصلة قوة إنسانية؟ هل ملاك أصعد طبيعتنا التي كانت تنظر إلى أسفل إلى ذلك السمو؟ لم يحدث أي شيء من كل هذا. فكل ما له علاقة بهذه القصة، لم يذكر شيئًا مثل هذا، بمعنى أن استفانوس لم ير ما رأه لأنه كان قويًا للغاية، أو لأنه نال معونة كاملة من الملائكة. فماذا قال النص الإنجيلي؟ قال: وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس، فرأى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين الله (أعمال الرسل7: 55). لأنه من غير الممكن، كما يقول داود النبي، أن يرى أحد النور، إن لم يكن قائمًا داخل النور: بنورك نرى نورًا (مزمور 36: 9). لأنه من المستحيل رؤية النور خارج النور. أي كيف يمكن للمرء أن يرى الشمس، وهو موجود بعيدًا عن أشعتها؟ لأن نور الابن الوحيد الجنس هو داخل نور الآب، أي داخل الروح القدس المنبثق من الآب، لذا بعدما امتلأ [أي استفانوس] أولاً من الروح القدس استنار، حينئذ أدرك مجد الآب والابن“. [63]
(اغريغوريوس النيسي (قديس)، اسطفانوس أول شهداء المسيحية، تَرْجَمَة: د. سعيد حكيم)
اختبار القديس ديونيسيوس الأريوباغي للنور الإلهي
يتحدث ق. ديونيسيوس الأريوباغي عن خبرة اتحادنا بالنور الإلهي غير المخلوق كالتالي:
”من جهتي، فهذا ما أصلي به، أما أنت أيها العزيز تيموثاوس، انشغل بشدة بالرؤى السرية، اترك الأنشطة الحسية والذهنية، كل ما يخص الحواس والعقل، كل الموجودات وغير الموجودات (نحيه جانبًا)، وترفع غير مستندًا على معرفة حتى تتحد قدر المستطاع بمَّن هو أعلى من كل جوهر ومن كل معرفة. عندما تصل إلى الدهش، حيث تتحرر بالكلية من ذاتك، من كل الأشياء، عندما تنزع عنك كل شيء، وتعفي نفسك من كل شيء، سوف ترتفع إلى الشعاع الفائق الجوهر للظلمة الإلهية“. [64]
(ديونيسيوس الأريوباغي (المستعار)، اللاهوت الباطني، تَرْجَمَة: د. جورج فرج)
نستكمل موضوع الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق، هذا النور الذي يتسامى على الإطلاق لا على الحواس فقط، بل وعلى العقل نفسه، نور يلاقيه الذهن البشري ويتطابق معه، عندما يخرج الذهن البشري من ذاته ليصير أفضل مما هو عليه، عندما يتجاوز ذاته (أي الذهن البشري) ويتحد بالله. سأتحدث عن الوصول إلى حالة الدهش والانخطاف الروحي في تعليم آباء الكنيسة، هذا الدهش والانخطاف الذي يحدث عندما تصلي النفس صلاة عقلية حارة، وتنال مواهب الروح القدس، وتحقق هذه الصلاة بصورة سرية اتحاد النفس بينبوع هذه المواهب. وننوه بإمكانية نَيْل مواهب الروح هذه حتى في أوقات عمل الجسد، فالصلاة ليست انسلاخًا (أي ترك) عن الجسد.
اختبار مار اسحق السرياني للنور الإلهي
يتحدث مار اسحق السرياني عن خبرة معاينة النور الإلهي غير المخلوق، وكيف ندرك هذا النور الإلهي العجيب بعيون نفوسنا الروحية كالتالي:
”إن لنفسنا حدقتين، ولكن النظر الخاص بكل منهما يختلف استعماله عن الآخر. فبإحدى هاتين الحدقتين نعاين أسرار الطبيعة، أعني قوة الله وحكمته وعنايته بنا، وندركها بفضل الجلال الذي يقودنا به. ونعاين بالحدقة الأخرى مجد طبيعته المقدسة حين يرتضي الله إدخالنا إلى الأسرار الروحية“. [65]
(St. Isaac of Syria, Homily 72)
ثم يتحدث مار اسحق السرياني عن إشراق نور الثالوث القدوس مثل الشمس في نفس الإنسان النقي من الداخل، واستنشاقه للروح القدس كلي القداسة، وتساكنه الطبائع الروحية المقدسة (أي الملائكة) كالتالي:
”الرجل النقي النفس هي داخله. والشمس التي تشرق داخله هي نور الثالوث القدوس. الهواء الذي يستنشقه سكان تلك البلدة هو الروح القدس المعزي وكلي القداسة. والذين يسكنون معه هم الطبائع المقدسة الروحانية. المسيح هو نور الآب، هو حياتهم، وفرحهم، وسعادتهم. مثل هذا الإنسان يبتهج كل ساعة بالرؤى الإلهية داخل نفسه، ويسحره جمالها الخاص الذي هو بالحق أبهى مئة ضعف من لمعان الشمس نفسها. هذه هي أورشليم وملكوت الله المختفي داخلنا، كما يقول الرب. هذا العالم هو سحابة مجد الله التي لا يدخلها إلا أنقياء القلب ليروا وجه سيدهم وليستنير عقلهم بشعاع نوره“. [66]
(اسحق السرياني (مار)، الميامر النسكية، تَرْجَمَة: نيافة الأنبا سارافيم)
كما يتحدث مار اسحق السرياني عن كيفية الوصول إلى الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق من خلال الصلاة التي نصليها كالتالي:
”وإذ يتخذ الروح القدس مادة من صلاة الإنسان التي يصليها، يتحرك داخله، وتفقد بذلك صلاة الإنسان حركتها في أثناء الصلاة، ويرتبك ذهنه، ويُبتلَع في الدهش والانذهال، وينسى حتى الرغبة فيما كان يتوسل بشأنه. تغطس حركات العقل في سكر عميق، ولا تعد في هذا العالم في مثل هذا الوقت، لا يوجد تمييز بين النفس والجسد، كما لا يوجد تَذْكار لأي شيء، تمامًا كما قال العظيم اغريغوريوس اللاهوتي: الصلاة هي نقاوة الذهن، وهي تنتهي فقط بواسطة نور الثالوث القدوس من خلال الدهش والانذهال. هل رأيت كيف تنتهي الصلاة من خلال الدهش بالمفاهيم التي ولدتها الصلاة في العقل، كما قلت في بداية هذا الميمر وفي مواضع أخرى عديدة؟ ويكتب أيضًا نفس هذا القديس اغريغوريوس: نقاوة العقل هي التحليق السامي والمرتفع للقدرات الذهنية، وهي تشبه منظر السماء، وهي التي يشرق عليها ومن خلالها نور الثالوث القدوس وقت الصلاة“. [67]
(اسحق السرياني (مار)، الميامر النسكية، تَرْجَمَة: نيافة الأنبا سارافيم)
اختبار القديس يوحنا الدلياتي للنور الإلهي
يتحدث ق. يوحنا سابا الدلياتي عن كيفية الاتحاد بالنور الأقنومي غير المخلوق وأثره في الذهن البشري والنفس البشرية كالتالي:
”لهذا يدعو الروح الذهن النشيط إلى الدخول، بعد أن تعبت حركات قواته الناظرة من الشخوص، لترى ذاك الذي في الكل والكل فيه. وإذا أقام الصلاة، يرى إشراق أقنومه، ويضيء النفس حسن طبعها، وترى ذاتها على ما هي، والنور الإلهي الذي يشرق فيها، الذي يُبدِّلها إلى مثاله، ويرتفع مثال طبعها من أمام رؤيتها، وترى هي ذاتها مثالاً لله، بواسطة اتحادها بالنور الذي لا مثيل له، وهو نور الثالوث القدوس الذي يشرق في أقنومها، فتغطس في أمواج حسنها، وتندهش مدةً طويلةً. وأحيانًا تنتقل من منظر إلى منظر، وتتبدل تبدلات عجيبة لا تُحصَى في وقت قليل“. [68]
(يوحنا الدلياتي (الشيخ الروحاني)، مجموعة الميامر الروحية، تَرْجَمَة: الأب سليم دكاش اليسوعي)
اختبار القديس يوحنا ذهبي الفم للنور الإلهي
يتحدث ق. يوحنا ذهبي الفم عن معاينتنا للنور الإلهي غير المخلوق، وخبرة إشعياء النبي لهذا النور الإلهي في رؤياه كالتالي:
”وهذا نادى ذاك وقال: قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود. مجده ملء كل الأرض (سفر إشعياء 6: 2، 3). بالحقيقة هو قدوس لأنه جعل طبيعتنا مستحقة هذه الأسرار الكثيرة والعظيمة، وصيرنا شركاء هذه الأمور التي لا تُوصَف، لقد استوى عليَّ الفزع والرعدة (المقدسة) في أثناء إنشاد هذه التسبحة، وما يدعو للعجب أن هذا يحدث لي أنا الطين المصنوع من تراب في اللحظة التي فيها حتى القوات السمائية تأخذها الدهشة العظيمة والدائمة؟ لذلك يديرون وجوههم ويغطونها بأجنحتهم كمثل ساتر، لأنهم لا يستطيعون تحمل اللمعان المُنبعِث من هناك. وبالرغم من أن المشهد (الرؤيا) -كما يُقال- كان يمثل تنازلاً للطبيعة الإلهية. فلماذا إذًا لا يحتملون؟ فهل تسألني أنا ذلك؟! سل أولئك الذين يريدون أن يفحصوا الطبيعة غير الموصوفة وغير المقترب منها، أولئك الذين يتجرؤون على ما لا يمكن التجرؤ منه […] بينما تجاسر الإنسان أن يتكلم أو بالحري أن يُفكِّر بعقله في أنه يقدر أن يتطلع بدقة وبوضوح إلى تلك الطبيعة الإلهية البسيطة“. [69]
(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، رؤيا إشعياء، تَرْجَمَة: د. جورج فرج)
ويقول ق. يوحنا ذهبي الفم في نفس السياق:
”لأنه يقول: باثنين يُغطي وجهه (سفر إشعياء 6: 2). كأنهما ستارتان يغطيان وجهه، لأنهم لا يتحملون اللمعان المنبعث من ذلك المجد. وباثنين يغطي رجله (سفر إشعياء 6: 2) تحت تأثير نفس الانبهار، لأننا أنفسنا عندما يُسلِّط علينا جسم باهر، فإننا ننكمش ونخفي كل مكان في جسدنا. ولماذا أتحدث فقط عن الجسد، مادام أن النفس ذاتها، عندما يحدث لها ذلك الأمر في تجلياتها السامية، تجذب كل طاقاتها، ثم تجمع ذاتها ضاغطةً إياها بعمق في الجسد كما لو كان هذا الجسد ملبسًا لها؟ وحين يسمع أحد الاندهاش والانبهار لا يظن أننا نتحدث عن صراع مقزز للنفس، لأنه مع هذا الاندهاش توجد نشوة ممتزجة به لا تُحتمل من عظمتها. وباثنين يطيرون (سفر إشعياء 6: 2)، وهذا يدل على أنهم دائمًا يشتهون الأمور العلوية [السمائية] ولا ينظرون إلى أسفل أبدًا“. [70]
(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، رؤيا إشعياء، تَرْجَمَة: د. جورج فرج)
ويضيف ق. يوحنا ذهبي الفم في حديثه عن الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق وحالة الاندهاش والانخطاف الروحي كالتالي:
”لأن الأجساد البراقة، وإن كانت منيرة بشكل عظيم، حينئذ فإنها عادةً ما تثير ذهولنا لما نشاهدها للمرة الأولى بعيوننا، ولكن إن واصلنا التطلع فيها أكثر فبالتعود سوف ينتهي اندهاشنا، لأن عيوننا قد اعتادت تلك الأجساد. لذلك فعندما نرى أيقونة ملوكية، وقد تم تكريسها حديثًا [تجهيزها] وهي تزهو بألوانها، فهي تُثير إعجابنا، ولكن بعد يوم ويومين يزول إعجابنا هذا. ولكن لماذا أتحدث عن أيقونة ملوكية، مادام أن الأمر ذاته يحدث لنا مع أشعة الشمس، مع أنه لا يوجد جسم أكثر لمعانًا منها؟ وهكذا فأي جسد بسبب الاعتياد على النظر إليه يذهب الإعجاب به. غير أن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بمجد الله، بل على العكس تمامًا، لأنه كما واصلت تلك القوات [السمائية] في النظر إلى ذلك المجد كلما انبهرت بالأكثر وازداد تعجبها، لذلك فبالرغم من أنهم يرون ذاك المجد منذ خلقتهم حتى الآن، فلا يتوقفون عن الصراخ بانبهار، لأن ما نعاني منه، ويحدث لنا في برهة قصيرة من الزمن، عندما يأتي علينا ضياء ساطع، يحدث لتلك القوات القائمة قدامه باستمرار وبلا انقطاع، وبالرغم من ذلك يُظهِرون لذةً ما وتعجبًا. لأنهم لا يصرخون فقط، بل يفعلون ذلك فيما بينهم، وهذه علامة على اندهاشهم الدائم، وهذا نفسه ما يحدث لنا عندما نسمع رعدًا أو زلزالاً يهز الأرض، لا نقفز ونصرخ فقط، بل نُسرِع بالهرب الواحد تلو الآخر إلى بيته، وهذا هو ما يفعله السيرافيم، لذلك كل واحد يصرخ نحو الآخر قائلاً: قدوس، قدوس، قدوس“. [71]
(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، رؤيا إشعياء، تَرْجَمَة: د. جورج فرج)
وهكذا بعد جولة روحية عميقة وممتعة بين تعاليم آباء الكنيسة عن حالة الاندهاش والانخطاف الروحي التي تحدث لنا في الصلاة، وكيف تصل الصلاة الذهنية بنا إلى الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق وغير المحسوس والفائق الوصف، نصلي دائمًا من كل قلوبنا أن نصل إلى هذه الحالة الروحية الجميلة والطوباوية لنتمتع بلمحات من ملكوت الله ونحن سالكون في هذه الحياة الحاضرة المليئة بالمصاعب والضيقات. بالتالي نستنتج أن تعليم الاتحاد بالنور الإلهي غير المخلوق هو تعليم كتابي، ورسولي، وآبائي أرثوذكسي سليم اختبره التلاميذ، والرسل، وآباء الكنيسة على مر العصور.
[56] كيرلس السكندري (قديس)، تفسير إنجيل يوحنا ج1، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، ص 105.
[57] اغريغوريوس اللاهوتي (قديس)، مختارات من القديس اغريغوريوس اللاهوتي النزينزي، تَرْجَمَة: الأسقف استفانوس حداد، (لبنان: منشورات النور، 1994)، عظة المعمودية والمعمدون، عظة 41، ص 160.
[58] المرجع السابق، عظة 39 الظهور الإلهي في المسيح أو عظة عيد الأنوار، ص 175.
[59] Homily 45: 11. PG 36: 637 B
[60] باسيليوس الكبير (قديس)، ضد أفنوميوس، تَرْجَمَة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020)، ص 148، 149.
[61] باسيليوس الكبير (قديس)، تفسير سفر المزامير ج1، تَرْجَمَة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020)، العظة السابعة على مزمور34، ص 227، 228.
[62] اغريغوريوس النيسي (قديس)، حياة موسى، تَرْجَمَة: مجدي فهيم حنا، (الإسكندرية: كنيسة مار جرجس سبورتنج، 2021)، 2: 19، ص 50.
[63] اغريغوريوس النيسي (قديس)، استفانوس أول شهداء المسيحية، تَرْجَمَة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، العظة الأولى، ص 36، 37.
[64] ديونيسيوس الأريوباغي (المستعار)، اللاهوت الباطني، تَرْجَمَة: د. جورج فرج، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020)، ص 104، 105.
[65] St. Isaac of Syria, Homily 72
[66] اسحق السرياني (مار)، الميامر النسكية، تَرْجَمَة: نيافة الأنبا سارافيم، (وداي النطرون: دير العذراء البراموس، 2017)، ميمر 15، ص223.
[67] المرجع السابق، ميمر 23، ص 278، 279.
[68] يوحنا الدلياتي (الشيخ الروحاني)، مجموعة الميامر الروحية، تَرْجَمَة: الأب سليم دكاش اليسوعي، (لبنان: دار المشرق، 2002)، ميمر 6: 13، ص 44.
[69] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، رؤيا إشعياء، تَرْجَمَة: د. جورج فرج، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016)، عظة 2: 2، ص 105، 106.
[70] المرجع السابق، عظة 6، ص 178، 179.
[71] المرجع السابق، عظة 6، ص 180، 181.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد أبوليناريوس"، للقديس غريغوريوس النيسي
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- الكنيسة، ولعبة الأغلبية على الأقليات تشتهر كنيسة الإسكندرية "القبطية الأرثوذكسية، بلقب "أم الشهداء"، وهو لقب لم يطلق من فراغ بل نظرا لعدد من قدمتهم الكنيسة من شهداء لم يتنازلوا عن إيمانهم طوال تاريخها، وأخرهم شهدائها في ليبيا المقتولين على يد تنظيم داعش الإرهابي في فبراير 2015م، ويشير تاريخ الكنيسة إلى تعرضها لموجات من الاضطهاد طوال الحِقْبَة الرومانية وما بعدها، ولعل......