المقال رقم 11 من 12 في سلسلة أرثوذكسية تأله اﻹنسان
كيف ينال المسيحي  بالنعمة؟ سنحاول الإجابة عن ذلك من خلال الكتاب المقدس وكتابات الآباء.
الكتاب المقدس

لقد قال السيد المسيح ل:

أَجَابَ يَسُوعُ: 'الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ‘

(إنجيل يوحنا 3: 5)

هنا شرط دخول الملكوت والحياة الأبدية (أي التأله بالنعمة) هو الولادة من الماء والروح أي بالمعمودية ننال الحياة الأبدية والتأله بالنعمة.

وقال السيد المسيح أيضًا لتلاميذه واليهود:

مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ

(إنجيل يوحنا 6: 54)

ويتحدث السيد المسيح هنا أيضًا عن أن شرط الحياة الأبدية هو التناول من جسده ودمه الأقدسين لنوال الحياة الأبدية (أي التأله بالنعمة).

نستخلص مما سبق أن نَيْل الخلود والحياة الأبدية وهي حياة الله وصفة خاصة بالله يعطيها الإنسان كعطية من خلال الأسرار الكنسية كالمعمودية، والميرون، وال. والتأله بالنعمة هو شركة الطبيعة الإلهية، وشركة الحياة الأبدية، وشركة في صفات إلهية بالأساس كالقداسة، والبر، والصلاح، والأبدية، والحكمة، والقوة. وهذه كلها صفات إلهية يشترك فيها الإنسان مع الله كعطية، وهبة، ومنحة، من الله للإنسان، وهذا هو مفهوم ”التأله بالنعمة“ الذي تحدث عنه آباء الذي يتحقق من خلال الأسرار كما سنرى.

القديس أغناطيوس الأنطاكي

يصف ق. أغناطيوس الأنطاكي (الثيؤفوروس) الإفخارستيا بأنها:

”دواء الخلود وترياق عدم الموت“ [133]

(أغناطيوس الأنطاكي، الآباء الرسوليون، تَرْجَمَة: مجموعة من المترجمين)

فنحن بالتناول من جسد الرب ودمه ننال الخلود وعدم الموت أي ننال التأله بالنعمة من خلال الإفخارستيا.

القديس إيرينيؤس أسقف ليون

ويتحدث ق. إيرينيؤس أيضًا عن التأله من خلال سر الإفخارستيا كالتالي:

”كيف يمكنهم أن يؤكدوا أن الجسد غير قادر أن يقبل عطية الله، التي هي الحياة الأبدية، ذلك الجسد الذي يتغذى من جسد الرب ودمه، وصار عضوًا فيه“. [134]

(إيرينيؤس ، ضد الهرطقات ج2، تَرْجَمَة: د. )

بالتالي يؤكد ق. إيرينيؤس هنا على أن الحياة الأبدية هي عطية إلهية ننالها من خلال التغذي من الإفخارستيا، والحياة الأبدية هي مرادف لمفهوم التأله بالنعمة كما ذكرنا من قبل.

القديس أثناسيوس الرسولي

ويؤكد ق. على أننا ننال التأله بالنعمة من خلال الاتحاد السري بجسد الكلمة ذاته في الإفخارستيا، بالتالي تُعتبر الأسرار الكنسية ضرورية في نَيْل نعمة التأله والحياة الأبدية كالتالي:

”ونحن إنما نتأله لا باشتراكنا السري من جسد إنسان ما، ولكن بتناولنا من جسد الكلمة ذاته“. [135]

(Athanasius, Letter to Maximus the Philosopher, NPNF Ser. II, Vol. IV, Ch. 2, p. 578-579)

ال

كما يؤكد ق. كيرلس الأورشليمي أيضًا على نَيْل شركة الطبيعة الإلهية (التأله بالنعمة) وباتحاد جسد ودم المسيح بأعضائنا من خلال الإفخارستيا ونصير نحمل المسيح داخلنا وفي أعضائنا كالتالي:

”وإذ أنت تشترك في جسد المسيح ودمه، تصبح جسدًا واحدًا، ودمًا واحدًا مع المسيح، وهكذا نصبح نحن [حاملي المسيح] بما أن جسده ودمه ينتشران في أعضائنا. وبهذه الكيفية نصبح على حد تعبير الطوباوي بطرس ' (2بط1: 4). [136]

(، القديس كيرلس الأورشليمي “حياته -مقالاته لطالبي العماد- الأسرار”)

القديس باسيليوس الكبير

وهكذا يُسمي ق. الكبير الإفخارستيا بـ ”طعام الحياة الأبدية“ الذي به ننال الحياة الأبدية (أي التأله بالنعمة) كالتالي:

”لذلك نحتاج من الْآنَ فصاعدًا لأن نتغذى بطعام الحياة الأبدية، كما علَّمنا ذلك الابن الوحيد الإله الحي […] وفي مرة أخرى، يكرر كلمة 'الحق‘ ليؤكد ما يقوله، ويعطي الثقة التامة لسامعيه، فيقول: 'فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَق وَدَمِي مَشْرَبٌ حَق. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ‘ (يو6: 53-56). [137]

(باسيليوس الكبير ، المعمودية، تَرْجَمَة: )

القديس اغريغوريوس اللاهوتي

ويؤكد ق. اغريغوريوس اللاهوتي على أننا بالمعمودية ننتقل إلى حالة (التأله) من خلال تطهير الروح القدس لنا في أعماقنا الداخلية، وإعادة خلقتنا لنصير من الحالة التي كنا عليها قبل المعمودية إلى حالة (التأله)، ونلبس الإنسان الجديد، ونترك الإنسان العتيق في جرن المعمودية كالتالي:

”بما أننا طبيعة مزدوجة أي من نفس وجسد، وبما أن الطبيعة الأولى غير منظورة [النفس] والثانية منظورة [الجسد]، فعملية التطهير هي مزدوجة أيضًا أي بالماء والروح. وهكذا نتطهّر بصورة منظورة جسديًا وبصورة غير منظورة روحيًا، بالماء شكلاً ورسمًا، وبالروح حقيقةً، لأنه يقدر أن يُطهِّر الأعماق. هذا الروح يأتينا منحة إلى خلقتنا الأولى، ويردنا من العتاقة إلى الجِدّة، ومن الحالة التي نحن عليها الآن إلى حالة التأله، ويصهرنا بدون نار، ويعيد خلقتنا بدون إخفاء الجسد“. [138]

(اغريغوريوس ، مختارات من القديس اغريغوريوس اللاهوتي النزينزي، تَرْجَمَة: الأسقف )

القديس اغريغوريوس النيسي

كما يشير ق. ا إلى نَيْل نعمة التأله من خلال سر الإفخارستيا؛ حيث يزرع الله ذاته في كل المؤمنين في الإفخارستيا، ويمزج ذاته بأجساد المؤمنين باتحاد حقيقي في الإفخارستيا لينالوا به عدم الفساد (التأله بالنعمة) كالتالي:

”لذلك قَبِلَ ذاك الجسد وهو الوعاء الإلهي، هذا العنصر [السائل] من أجل بنيانه الذاتي، هو الإله الذي ظهر، ولذلك فقد اندمج بنفسه مع الطبيعة الفانية، حتى أنه بشركة اللاهوت تتأله البشرية، لذا فقد غرس نفسه في كل الذين يؤمنون بتدبير النعمة من خلال الجسد الذي يتكوَّن من الخمر والخبز، واختلط بأجساد المؤمنين، حتى باتحاده بغير المائت يصير الإنسان أيضًا شريكًا لعدم الفساد. وهو يمنح هذه [العطايا] بفضل قوة البركة التي من خلالها يُغيِّر طبيعة هذه الأشياء التي تظهر [للحواس] إلى تلك [الطبيعة غير المائتة]“. [139]

(اغريغوريوس النيسي، تعاليم الموعوظين، تَرْجَمَة: د. )

القديس يوحنا ذهبي الفم

ونرى ق. يوحنا يؤكد على اتحادنا الكياني بالمسيح ككيان واحد كلي من خلال الإفخارستيا، ويسميها ”القوت السماوي“، وهكذا يمزج المسيح جسده بجسد بشريتنا مثل امتزاج الخميرة والعجين، وهكذا يصير الرأس (المسيح) والجسد (الكنيسة) كائنًا واحدًا متماسكًا كالتالي:

”كذلك، الكنيسة، لكنه وضع المسيح بدلاً من الكنيسة، حتى يسمو بالحديث إلى أعلى مستوى، ويثير في المستمع حياء أكثر. ما يعنيه هو الآتي: هكذا هو جسد المسيح، الذي هو الكنيسة. لأنه كما أن الجسد والرأس هما إنسان واحد، هكذا الكنيسة والمسيح، هما واحد. لذلك وضع المسيح بدلاً من الكنيسة، بأن دعا جسده هكذا. تمامًا كما لو كان يقول إن أعضاء جسدنا، وإن كانت كثيرة، هي جسد واحد، هذه الأعضاء الكثيرة، صارت جسدًا واحدًا“. [140]

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة إلى كورنثوس الأولى ج2، تَرْجَمَة: د. )

القديس كيرلس الإسكندري

وأخيرًا، يؤكد ق. على أننا بالإفخارستيا أي:

”بشركة جسده الخاص الذي يسكب فينا شركة الله، ويمحو الموت الذي حلَّ بنا من اللعنة القديمة“. [141]

(كيرلس الإسكندري، تفسير إنجيل يوحنا مج1، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون)


هوامش

[133] أغناطيوس الأنطاكي (قديس)، الآباء الرسوليون، تَرْجَمَة: مجموعة من المترجمين، (القاهرة: ، 2019)، الرسالة إلى أفسس 20: 2، ص 330.
[134] إيرينيؤس (قديس)، ضد الهرطقات ج2، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: ، 2019)، 5: 2: 3، ص 276.
[135] Athanasius, Letter to Maximus the Philosopher, NPNF Ser. II, Vol. IV, Ch. 2, p. 578-579
[136] تادرس يعقوب ملطي (قمص)، القديس كيرلس الأورشليمي (حياته -مقالاته لطالبي العماد- الأسرار)، (الإسكندرية: كنيسة ، 2006)، مقالة 22: 3، ص 292.
[137] باسيليوس الكبير (قديس)، المعمودية، تَرْجَمَة: نشأت مرجان، (القاهرة: ، 2009)، 3: 1، ص 43.
[138] اغريغوريوس النزينزي (قديس)، مختارات من القديس اغريغوريوس اللاهوتي النزينزي، تَرْجَمَة: الأسقف استفانوس حداد، (لبنان: ، 1994)، عظة المعمودية المقدسة 40: 10، ص 138، 139.
[139] اغريغوريوس النيسي (قديس)، تعاليم الموعوظين، تَرْجَمَة: د. جورج فرج، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2022)، 37: 12، ص 242، 243.
[140] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير رسالة بولس الرسول إلى كورنثوس الأولى ج2، تَرْجَمَة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، عظة 30: 1، ص 198.
[141] كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل يوحنا مج1، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، 3: 6، تعليق على (يو6: 35)، ص 370.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أرثوذكسية تأله اﻹنسان[الجزء السابق] 🠼 التأله غاية التجسد[الجزء التالي] 🠼 التأله في الليتورجية القبطية
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي