المقال رقم 2 من 13 في سلسلة كنيستنا وتدوير الهرطقات
مع كل المهازل التي يزخر بها  كنيستنا، طالعت مصدومًا منشورًا فيسبوكيًا لأحد القساوسة الذين ألقت بهم رياح السموم إلينا، والمنشور هو صورة لفقرة أضيفت لسنكسار إلكتروني، تقول الفقرة إن أحد أسباب انعقاد مجمع أفسس هو "بدعة بيلاجيوس" وأن المجمع ناقش "بيلاجيوس" (هكذا!!!! ) ثم حرمه.

بعض الأساقفة وصبيانهم يتمادون، حتى إنهم استصدروا قرارًا من أفسس الآن وبعد ستة عشر قرنا، باعتماد مقررات (صاحب الخلل الفكري الأكبر في تاريخ المسيحية) وهذا من ضروب الخبل، لا لهدف إلا إضفاء مشروعية على مبدأ “” الذي يروجونه.

نحن لا نمانع أبدًا وجود الجهل، ونقبله كنتاج حِقْبَة حالكة السواد مرت على كنيستنا، ولكننا لا نستطيع قَبُول التدليس، لا نستطيع قَبُول الاستمرار في تزييف وعي الأجيال وإزاغة تمييزهم، والكارثة إن يتم هذا من رعاتهم.

بداية، وقبل التطرق إلى “قرطاجنة” ننهي بعض الفريات الخاصة التي يلصقونها بأفسس، التي ترتبط بالبيلاجية، كان الصراع (الي- البيلاجي) صداعا حادا للكنيسة اللاتينية، وانشقاقا واسعا بين أساقفتها، انحازت كنيسة شمال إفريقيا بالكلية نحو الأغسطينية، بينما مال الكثير من أساقفة أوروبا الغربية إلى البيلاجية، كان الصراع يدور حول “وسيلة” خلاص الفرد، بينما تؤمن الأغسطينية بعمل “النعمة الإلهية” حصرا وقصرا، تؤمن البيلاجية بأن الخلاص هو عمل “الإرادة الذاتية” للشخص.

غني عن البيان إن الشرق المسيحي لم يكن معنيا إطلاقًا بهذا الصراع لأنه يؤمن بـ”التآزر” بين عملي النعمة والإرادة، ووجوب تواجد كليهما

حتمت ضرورات التدبير الكنسي على باباوات روما حرمان البيلاجية ورؤوسها، وهذا ما حدث، فكان هناك حرم من البابا سليستين لرؤس البيلاجية، وكان كتجديد للحرم السابق الصادر من البابا إينوشنسيوس.

وجدت البيلاجية ملاذا آمنا في النسطورية الناشئة في الشرق، ويقول “فلوروفسكي”:

“كان مسيح فاديا مناسبا للبيلاجيين” 

(الأب )

ووجدت النسطورية في البيلاجية مخلبا مناسبا لاختراق روما، وفي الحرب المستعرة مع الإسكندرية لم تكن البيلاجية هما للمجتمعين في أفسس نهائيا، إلا من واقع دعمها للنسطورية، ولم تتم مناقشتها في أية جلسة، ولم يحضر “بيلاجيوس” المجمع أصلا (غالبا لوفاته)، ومن حضر فعلا هو “” تلميذه.

جرت الأحداث في أفسس كما نعلمها، وقطع نسطوريوس قبل وصول “يوحنا ” أسقف أنطاكيَة، صديق نسطوريوس والمنتمي لنفس المدرسة الفكرية (مدرسة أنطاكيَة اللاهوتية)، مع ملاحظة إن كل ما جرى في المجمع لم يكن على هوى السلطة المدنية.

فور وصول يوحنا إلى أفسس، جمع أساقفته وأساقفة نسطوريوس و كان من ضمن الحشد كاليستوس، تحت حماية السلطة المدنية، وعقد مجمعا واتخذ قرارًا بقطع القديس كيرلس، وممنون أسقف أفسس.

شعر القديس كيرلس بخطورة الموقف، وانقسم الأساقفة إلى مجموعتين أو مجمعين بالأحرى، تحظى إحداهما (أصدقاء نسطوريوس) بالدعم والرضا الإمبراطوري، في غياب دعم روما المعتاد للإسكندريين، حيث لم يكن الوفد قد وصل بعد، أعاد القديس كيرلس انعقاد المجمع المؤيد له، وكان من الحكمة أنه لم يشأ توسيع هوة الشقاق، ويرد بقطع مماثل للأسقف يوحنا والمجتمعين معه، وفي نفس الوقت كان حصيفا ليفعلها دون أن يلوث أصابعه، واستغل أن كاليستوس كان مقطوعا فعلًا من بابا روما، واستصدر قرارًا من مجمعه بقطع كاليستوس والمجتمعين معه، والمعروف حاليا بالقانون الأول.

غني عن البيان إن القطع يشمل يوحنا و مجمعه، دون أن يذكر اسمه، وقد أثبتت الأيام حصافته وبعد نظره، إذ عادت المياه للجريان لاحقا بين الإسكندرية وأنطاكية، وتصالح كيرلس ويوحنا وصاغا رسالة المصالحة بينهما.

أرسل القديس كيرلس رسالة للإمبراطور يطعن فيها في مجمع يوحنا الأنطاكي مستغلا وجود كاليستوس، شارحا البيلاجية وتوجهها من عدم الاحتياج لتجسد الرب، و قدرة الإنسان بإرادته الذاتية على التبرير، بعد أن استقامت الأوضاع بوصول وفد روما ودعمه لمجمع القديس كيرلس، جاءت الإشارة الأخيرة لبيلاجيوس وكاليستوس، في خطاب المجمع للبابا سيلستين، وجاء فيه بالنص:

“عندما قرأ في ما تم بخصوص إسقاط الجاحدين بيلاجيوس وكالستوس ومن يشايعهم، فنحن أيضا رأينا أنه من العدل تثبيت حكم قداستكم بشأنهم، ونعتمد تنفيذه”.

(جزء من خطاب الأساقفة للبابا سيلستين) 

ما سبق هو بيان ما حدث في أفسس فيما يخص البيلاجية والبيلاجيين، الأمر الذي يشي بوضوح تام أن الإضافة التي تمت على هذا السنكسار بالليل هي محض تدليس، وليس لأي جهة -حتى المجمع نفسه ولجانه- حق تعديل أي نص كنسي، دون الرجوع للشعب صاحب المصلحة الوحيد في تقرير هذه الأمور.

يصبح من نافلة القول إذن أنه بالأحرى لا يوجد علاقة بين أفسس وقرطاجنة، ولكننا سنفرد الحلقة القادمة لفحص قرطاجنة نفسه، وتوضيح الجريمة التي يقترفها كل من يزعم بوجود أي رابطة بين المجمعين.

نهاية، هناك سؤال قد قفز إلى ذهني أود مشاركته معكم وأرجو أن يلتفت له باحثونا الشباب وأن يولوه عنايتهم، وهو: هل كان “” صاحب الطومس، مائلا إلى البيلاجية؟

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: كنيستنا وتدوير الهرطقات[الجزء السابق] 🠼 كنيستنا وتدوير الهرطقات[الجزء التالي] 🠼 مجمع قرطاجنة: إعادة فحص
رجائي شنودة
[ + مقالات ]