المقال رقم 1 من 4 في سلسلة الفن القصصي في الأناجيل
عنوان هذه الدراسة مستوحى من اسم الأطروحة الشهيرة التي تقدم بها الباحث الراحل د. "محمد أحمد خلف الله" إلى كلية الآداب، بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) عام 1947 لنيل درجة الدكتوراه تحت اسم "الفن القصصي في القرآن الكريم"، والتي رفضت الجامعة مناقشتها وقتها، وثارت حولها ضجة أكاديمية وثقافية استمرت لسنوات، بسبب مدخلها غير المألوف في قراءة عناصر القصص القرآني وربطها بواقع بيئة التنزيل.

الفن القصصي في الأناجيل [١] 1

اعتاد معظم الناس على رؤية مثل هذه الأيقونة في موسم الاحتفال بميلاد السيد المسيح “ال”، حيث تظهر السيدة العذراء مريم واقفة أمام المذود الذي يرقد فيه المسيح الطفل محاطا بحيوانات الرعي، بينما يقف أمامها المجوس الثلاثة القادمين من بلاد المشرق ليقدموا هداياهم للطفل الملكي، وفوق رأسهم يظهر النجم الساطع الذي أرشدهم إلى مكان الميلاد.

الفن القصصي في الأناجيل [١] 3

كما اعتاد معظمنا رؤية أيقونة “النزول عن الصليب” التي يظهر فيها جسد المسيح المائت محمولا بواسطة كل من “يُوسُف الرامي” و”” اللذان أشرفا على تكفينه ودفنه حسب إنجيل يوحنا، بينما تظهر بجواره أمه المكلومة القديسة مريم وبجوارها تلميذه الحبيب “يوحنا”.

ولكن قليلين هم من انتبهوا إلى أن مثل هذه الأيقونات -ومعها القسم الأكبر من الفن المسيحي والأدب الديني المسيحي لقرون طويلة- عملت (دمج merge) لأكثر من رواية في سياق واحد: فحسب إنجيل “متّى”، الذي يقدم لنا واحدة من قصتي ميلاد Infancy Narrative للطفل يسوع (بينما كانت القصة الثانية هي تلك ما أوردها إنجيل لوقا)، فقد وصل المجوس من بلادهم البعيدة إلى فلسطين بعد رحلة شاقة استغرقت شهورا طويلة مهتدين بالنجم الذي ظهر لهم، حيث توجهوا أولا لقصر الحاكم الأدومي “هيرودس” في العاصمة “أورشليم” ليسألوا عن مكان الطفل الملكي الذي تنبأ به حكماءهم، وبعد أن أثاروا ضجة في البلاط الملكي كله استأنفوا رحلتهم مهتدين بالنجم ليصلوا إلى قرية “بيت لحم” الصغيرة حيث ولد يسوع.

وبرغم أن إنجيل “متّى” لم يحدد لنا إطارا زمنيا لكل هذه الأحداث، فقد استنبط غالبية المفسرين المسيحيين القدامى أن عمر الطفل يسوع وقت زيارة المجوس له كان يناهز العامين، وذلك اعتمادا على الخبر الذي يورده إنجيل “متّى” بشأن قيام “هيرودس” بمذبحة لأطفال بين لحم استهدفت كل من يبلغ سنتين من العمر فما دون:

حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدًّا. فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَب الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ.

(إنجيل متى2: 16)

من هنا يمكننا أن نستوعب كيف دمجت الأيقونة السابقة -ومثيلاتها في الفنون البصرية والسمعية المسيحية- ما بين “موتيفة” قصصية تنتمي لإنجيل “متّى” وترتبط بالطفل يسوع وهو في عمر السنتين تقريبا، وما بين خبر ولادة الطفل يسوع في مذود للحيوانات بسبب اضطرار العذراء مريم وخطيبها “يُوسُف النجار” للسفر إلى موطنهما في بيت لحم وهي على مشارف الوضع بسبب الاكتتاب الذي فرضه “أغسطس قيصر” وقتها بغرض حصر التعداد وفرض الضرائب، وهو الخبر الذي تورده لنا (قصة طفولة Infancy Narrative) أخرى هي التي أوردها إنجيل “لوقا”:

وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ.

(إنجيل لوقا 2: 1-7)

وبالمثل، ففي الأيقونة الثانية -والتي تمثل جانبا مما يسمى (رواية الآلام Passion Narrative) في الأناجيل- تظهر بجوار شخصية الشريف “يُوسُف الرامي” شخصية أخرى لم تظهر في أي من الأناجيل الثلاثة الأولى (متّى، مرقس، لوقا) ولم يرد ذكرها ولو بشطر كلمة في سياق رواية قصة الصلب والدفن، وهي شخصية المعلم الديني اليهودي “نيقوديموس” إذ انفرد بذكرها الإنجيل الرابع والأخير (إنجيل يوحنا) الذي اشتهر بكونه ينفرد بتقديم عدد كبير من الشخصيات والأحداث والمعجزات المسيانية التي لا يوجد ما يناظرها في الأناجيل الثلاثة السابقة عليه.

واقع الأمر أننا لسنا أول من اعتمد على هذا الأسلوب في قراءة الأناجيل الأربعة بطريقة (تناغمية Harmonized) تحاول استيعاب قصة حياة السيد المسيح على الأرض وفق (خط زمني Timeline) يبدأ بنقطة البشارة بمولده وينتهي بصعوده إلى السماء، بحيث يتم عزل وتنسيق كل الأخبار والأقوال والمعجزات والأمثال.. إلخ، التي تحتوي عليها الأناجيل الأربعة، ثم يتم نظمها معا -كحبات المسبحة- في إطار سياق زمني متتابع.

ففي الحقيقة أن أول محاولة من هذا النوع -فيما نعلم- قد بدأت منذ منتصف القرن الميلادي الثاني، وتحديدا عام 170م، وذلك عندما حاول رجل سوري يدعى “تاتيان” دمج الأناجيل الأربعة في كتاب واحد مستخدما أسلوب (القراءة التناغمية Harmonized) هذا، الذي نتج عنه كتاب ضخم حمل اسم “الدياتيسرون” (وهي كلمة مشتقة من أصل يوناني هو διὰ τεσσάρων الذي يعني “انطلاقا من الأربعة”)، حيث المقصود هنا هو الأناجيل الأربعة القانونية المعترف بها في وقتها.

استمر استخدام هذا الكتاب في القراءات ال (الصلوات) للكنيسة السريانية حتى منتصف القرن الخامس الميلادي تقريبا، ولكن لم يكتب له البقاء بعدها لأن بقية كنائس العالم كانت قد اعتمدت أسلوبا آخر في تنسيق قراءاتها الليتورجية والتأملية بشأن حياة المسيح ما بين الأناجيل الأربعة: فبصورة عامة، تم اتخاذ إنجيل “متّى” ليكون بمثابة (الإطار العام Frame) الذي يجري إتباعه لسرد أحداث حياة السيد المسيح التي ناهزت الـ33 عاما، مع الاستعانة ببقية “الموتيفات” التي لم يشتمل عليها إنجيل “متّى” التي أوردتها الأناجيل الثلاثة الأخرى ليتم “تطعيمها” في سياق هذا الـ Frame. تنوعت هذه الموتيفات ما بين أقوال وأمثال نطق بها المسيح لم ترد في إنجيل “متّى”، أو معجزات قام بها ولم يوردها الإنجيل المذكور، أو تفاصيل في أحداث حياته لم تظهر في إنجيل “متّى” بينما أوردتها بقية الأناجيل.

وهكذا اشتهر إنجيل “متّى” بلقب (الإنجيل الكنسي Ecclesteal gospel) الذي أصبح يمثل الإطار الأكثر استخداما لسرد أحداث حياة المسيح، ولا سيما فيما يتعلق بجزئيات مثل قصة ميلاده بما فيها من نجم ساطع ومجوس ومطاردة من هيرودس وهروب للعائلة المقدسة إلى مصر ثم العودة من مصر للسكنى في مدينة “الناصرة” ذات السمعة السيئة وقتها.. إلخ.

فضلا عن ذلك، فقد كان إنجيل “متّى” يمثل المصدر الأنسب للتأمل في تعاليم المسيح التي اهتم كاتب إنجيل “متّى” بشدة بأن يوردها بغزارة في متن إنجيله، مستخدما أسلوبا فريدا في تنسيقها وتبويبها وجمعها في إطار 5 مجموعات كبرى وزعها بمهارة لينسجها في متن إنجيله، بحيث تفصل ما بين كل مجموعة وأخرى سلسلة من أعمال ومعجزات المسيح.

ومنذ وقت مبكر، أدرك رجال الدين المسيحيون أن الإنجيل الرابع والأخير (إنجيل يوحنا) يحمل طابعا فريدا يختلف كثيرا عن الأناجيل الثلاثة السابقة عليه، إذ ينفرد بمجموعة كبيرة من الأحداث والشخصيات التي لم تشر إليها الأناجيل الأخرى كما أسلفنا، فمن بين 8 معجزات مثلا أوردها إنجيل “يوحنا” للمسيح، نجد أنه قد انفرد بـ 6 منها لم يذكرها غيره، بينما اختفت الأمثال التي كان المسيح يقدمها لعموم سامعيه بالكامل تقريبا لتحل محلها مجموعة رائعة من التعاليم المصاغة في صورة خطب مطولة قد تستغرق الواحدة منها 3 إصحاحات “فصول” في المتوسط. فضلا عن ذلك، فقد لوحظ منذ وقت مبكر أن إنجيل “يوحنا” يقدم لنا خطا زمنيا Timeline يختلف في الكثير من تفاصيله مع الأناجيل الأخرى، وهو ما يظهر مثلا في تصويره لتحركات المسيح ما بين الأقسام الإدارية الثلاثة لفلسطين وقتها (الجليل والسامرة واليهودية)، أو في عدد مرات صعوده إلى أورشليم وزيارته للهيكل، أو في أحداث قصة الآلام من صلب وموت وقيامة، أو في قصص ظهوراته لتلاميذه بعد القيامة…إلخ.

وكان التفسير التقليدي وقتها (حتى يومنا هذا بالنسبة لبعض الكنائس) لهذا التفرد الذي يتميز به إنجيل “يوحنا” أنه إنما يرجع لكونه أخر الأناجيل زمنا من حيث التدوين (هناك اتفاق عام ما بين الباحثين على أن تدوينه قد تم في العقد الأخير من القرن الأول الميلادي)، وأن القديس “” -تلميذ المسيح الأثير وكاتب الإنجيل الرابع- قد اهتم في إنجيله بمواجهة طائفة من الهراطقة (المبتدعين) كانت قد بدأت تنشط في زمنه وحملت اسم (المونتانية)، حيث كانت تنشر بدعة مؤداها أن جسد المسيح الذي وقعت عليه الآلام والصلب لم يكن جسدا حقيقيا بل جسد “أثيري” خيالي.

قلنا أن “” كان صاحب أقدم محاولة لتنسيق رواية الأناجيل الأربعة وذلك عام 170م، وإن سبقته محاولة أخرى -لم يُكتب لها النجاة- قام بها من يدعى ( Marcion of Sinope) والذي رفض الربط ما بين إله العهد الجديد وما بين “” رب العهد القديم الذي اعتبره “مرقيون” إلها شريرا متعطشا للدماء جاء المسيح ليخلص البشرية من براثنه.

وهكذا قام “مرقيون” في حدود عام 144 م بتأليف (إنجيل) خاص به حمل جزءا كبيرا من المادة الأدبية التي أوردها إنجيل “لوقا”، مع تطعيمها بأجزاء مختارة من رسائل القديس “بولس” الذي كان “مرقيون” يعده التلميذ النموذجي للمسيح، ومن نافلة القول أن نذكر أن النص الأصلي لهذا “الإنجيل” قد فقد في غياهب التاريخ ولم يصلنا منه سوى بعض الاقتباسات التي أوردها آباء الكنيسة في القرنين الثاني والثالث الميلاديين في كتاباتهم بغرض الرد على بدعته وتفنيدها.

هل كان “تاتيان السوري” -ومن ساروا على دربه- على حق في محاولتهم لقراءة روايات الأناجيل الأربعة بطريقة “تناغمية”؟

يتبع في المقال  المقبل..


الفن القصصي في الأناجيل [١] 5

(الصورة لقصاصة بردية “رايلاند 52” Rylands Library Papyrus P52 التي تم اكتشافها في مصر عام 1920 التي تحتوي على مقاطع من الإصحاح 18 من إنجيل “يوحنا”، ويؤرخها معظم الباحثين بحدود عام 125م، وهي بذلك تمثل أقدم جزء مكتشف من كتابات الأناجيل حتى يومنا هذا).

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الفن القصصي في الأناجيل[الجزء التالي] 🠼 الفن القصصي في الأناجيل [٢]
ميشيل مكين
[ + مقالات ]