المقال رقم 2 من 4 في سلسلة الفن القصصي في الأناجيل
تحدثنا في المقال السابق عن أولى محاولات المفكرين المسيحيون في سبيل تنسيق روايات الأناجيل الأربعة القانونية بشأن سيرة المسيح، وهي محاولة () عام 170 م. وفي هذا المقال نعود بالزمن إلى الوراء قرنا كاملا، لنرى كيف كانت البيئة الثقافية والدينية التي عاش فيها مسيحيو القرن الأول الميلادي، وكيف تبلورت المادة الأدبية للأناجيل التي بين يدينا اليوم.

وبالرغم من مرور ما يزيد على القرنين منذ أن بدأت أبحاث الأكاديميا الغربية في مجال Early Christianity (المسيحية المبكرة)، إلا أن كم النتائج التاريخية الموثوقة في هذا المضمار لا يزال محدودا لأسباب عدّة، من بينها قلة الوثائق التاريخية غير الإنجيلية Extra-Biblical التي تحدثت عن شخصية يسوع الناصري أو عن تلاميذه (ومن بينها وثائق يشك الباحثون اليوم في أصالتها التاريخية)، بالإضافة إلى كون الجماعات المسيحية المبكرة لم تجذب انتباه أغلب المؤرخين من الرومان وغيرهم وقتها باعتبارها واحدة من الشيع اليهودية الجديدة لا أكثر.

ولكن تظل هناك بعض النِّقَاط التي يمكن اعتبارها حقائق تاريخية صلبة بهذا الشأن:

1- أن عظة في يوم الخمسين، أي بعد مرور 10 أيام على صعود المسيح، التي يحدثنا عنها سفر أعمال الرسل تعكس واقعة تاريخية حقيقية عدّها المسيحيون الأوائل بمنزلة ضربة البداية في طريق الكرازة بالمسيح القائم من الموت، وأن هذه العظة قد استمع إليها جمع من اليهود من أغلب البلدان المعمورة وقتها ممن كانوا يحجون وقتها إلى هيكل أورشليم في ، وأنها قد أسفرت عن اعتناق عدد كبير منهم (3000 نفسا حسب سفر الأعمال) للعقيدة الجديدة التي تبشر بيسوع الناصري بوصفه “المسيا المنتظر”، ليعودوا إلى بلدانهم حاملين بذور العقيدة الجديدة.

2- إن الجماعة المسيحية المبكرة قد شهدت شدا وجذبا متزايدين بداخلها ما بين تيارين هما:

• المسيحيون من أصل يهودي، وهم من مالوا إلى التشدد بشأن شروط قَبُول عضوية المؤمنين الجدد، إذ أوجبوا عليهم أولا أن يتهودوا وأن يخضعوا لشروط قَبُول الجوييم (الأغيار) وفق تعاليم الشريعة اليهودية، وأهمها الختان والخضوع لتعليمات الشريعة اليهودية فيما يتعلق بالطعام.

• ثم المسيحيين من خلفية أممية (غير يهودية)، والذين بدأوا يظهرون في بعض مدن آسيا الصغرى (مثل أفسس) وفي أنطاكيَة وكورنثوس وغيرها وصولا إلى روما نفسها وذلك بفضل كرازة بصفة خاصة، حتى استحق أن يلقب بلقب (رسول الأمم).

ومع تزايد الجدال ما بين الفريقين كان لابد من اتخاذ قرار حاسم، فكان عقد مجمع أورشليم عام 50م بقيادة القديس “يعقوب البار”، الذي يورد لنا سفر الأعمال رأيه بهذا الشأن:

وَبَعْدَمَا سَكَتَا أَجَابَ يَعْقُوبُ قِائِلاً:«أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، اسْمَعُونِي. سِمْعَانُ قَدْ أَخْبَرَ كَيْفَ افْتَقَدَ اللهُ أَوَّلاً الأُمَمَ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْبًا عَلَى اسْمِهِ. وَهذَا تُوافِقُهُ أَقْوَالُ الأَنْبِيَاءِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: سَأَرْجعُ بَعْدَ هذَا وَأَبْنِي أَيْضًا خَيْمَةَ دَاوُدَ السَّاقِطَةَ، وَأَبْنِي أَيْضًا رَدْمَهَا وَأُقِيمُهَا ثَانِيَةً، لِكَيْ يَطْلُبَ الْبَاقُونَ مِنَ النَّاسِ الرَّبَّ، وَجَمِيعُ الأُمَمِ الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ الصَّانِعُ هذَا كُلَّهُ. مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ مُنْذُ الأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ. لِذلِكَ أَنَا أَرَى أَنْ لاَ يُثَقَّلَ عَلَى الرَّاجِعِينَ إِلَى اللهِ مِنَ الأُمَمِ، بَلْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ نَجَاسَاتِ الأَصْنَامِ، وَالزِّنَا، وَالْمَخْنُوقِ، وَالدَّمِ. لأَنَّ مُوسَى مُنْذُ أَجْيَال قَدِيمَةٍ، لَهُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مَنْ يَكْرِزُ بِهِ، إِذْ يُقْرَأُ فِي الْمَجَامِعِ كُلَّ سَبْتٍ».

(سفر أعمال الرسل 15: 13- 21)

وبعد أن استحسن أعضاء المجمع رأي القديس يعقوب البار، حرروا مقررات المجمع في صورة خطاب موجه للجماعات المسيحية خارج أورشليم، فيما يمكن اعتباره أول وثيقة لمجمع مسيحي في تاريخ المسيحية:

حِينَئِذٍ رَأَى الرُّسُلُ وَالْمَشَايِخُ مَعَ كُلِّ الْكَنِيسَةِ أَنْ يَخْتَارُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَيُرْسِلُوهُمَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ مَعَ بُولُسَ وَبَرْنَابَا: يَهُوذَا الْمُلَقَّبَ بَرْسَابَا، وَسِيلاَ، رَجُلَيْنِ مُتَقَدِّمَيْنِ فِي الإِخْوَةِ. وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ هكَذَا: «اَلرُّسُلُ وَالْمَشَايخُ وَالإِخْوَةُ يُهْدُونَ سَلاَمًا إِلَى الإِخْوَةِ الَّذِينَ مِنَ الأُمَمِ فِي أَنْطَاكِيَةَ وَسُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ: إِذْ قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ أُنَاسًا خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا أَزْعَجُوكُمْ بِأَقْوَال، مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ، وَقَائِلِينَ أَنْ تَخْتَتِنُوا وَتَحْفَظُوا النَّامُوسَ، الَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ. رَأَيْنَا وَقَدْ صِرْنَا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَنْ نَخْتَارَ رَجُلَيْنِ وَنُرْسِلَهُمَا إِلَيْكُمْ مَعَ حَبِيبَيْنَا بَرْنَابَا وَبُولُسَ، رَجُلَيْنِ قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ اسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فَقَدْ أَرْسَلْنَا يَهُوذَا وَسِيلاَ، وَهُمَا يُخْبِرَانِكُمْ بِنَفْسِ الأُمُورِ شِفَاهًا. لأَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ، غَيْرَ هذِهِ الأَشْيَاءِ الْوَاجِبَةِ: أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبحَ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ الدَّمِ، وَالْمَخْنُوقِ، وَالزِّنَا، الَّتِي إِنْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ. كُونُوا مُعَافَيْنَ».

(سفر أعمال الرسل 15: 22-29)

3- إن الجماعة المسيحية المبكرة قد استمرت لفترة ليست بالقصيرة في ممارسة صلواتها ونمط عبادتها على النمط اليهودي التقليدي وفي إطار المؤسسة الدينية اليهودية، ولم يتميزوا عن عموم اليهود سوى في أمرين:

أولا: إيمانهم بأن يسوع الناصري هو المسيا المنتظر الذي تنبأت الأسفار المقدسة لليهود بمجيئه، وبأنه قد قام من الموت بعد صلبه.

ثانيا: اجتماعهم سويا في يوم الأحد من كل أسبوع للصلاة وتدارس ال والأسفار النبوية التي رأوا فيها ما يشير إلى شخص يسوع الناصري وينطبق على أحداث حياته، ثم المشاركة في فريضة “العشاء الرباني” التي أسسها السيد المسيح في ليلة خميس العهد قبل صلبه، التي أوصى تلاميذه بالمداومة عليها.

فيما عدا هذا، فقد ظل مسيحيو أورشليم يصلون في هيكل أورشليم كالمعتاد، وظل مسيحيو البلدان الأخرى يصلون في المجامع Synagogues اليهودية المنتشرة في بلدان حوض البحر المتوسط، التي كانت الجاليات اليهودية في هذه البلدان تجتمع فيها للصلاة وتلاوة التوراة.

هذه الحقيقة يوردها سفر الأعمال في سياق حديثه عن شفاء رجل مشلول بطريقة معجزية بواسطة الرسولين بطرس ويوحنا عند هيكل أورشليم: (وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعًا إِلَى الْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ الصَّلاَةِ التَّاسِعَةِ…).

يذكر أن بعض الباحثين الغربيين في مجال المسيحية المبكرة قد شككوا في تاريخية (مجمع أورشليم) بسبب عدم توافر دلائل تاريخية بالمعنى المتعارف (وثائق خارج الإنجيل، شهادات مؤرخين…إلخ)، ومنهم من اعتبره بمنزلة Foundation story (رواية تأسيسية) استهدفت بها مسيحية القرن الثاني شرعنة أوضاعها الدينية والشعائرية بردها إلى عصر الرسل الأوائل.

ومنهم من قال بأن المحرمات الأربعة التي قررها المجمع (الذبائح المقدمة للأوثان، الذبائح المخنوقة، الذبائح غير المصفاة من دمها، الزنا بنوعيه: الطبيعي والشعائري) هي صدى لفكرة “وصايا نوح السبع” (بالعبرية: شيفع متسوفوت بيني نوح שבע מצוות בני נח) التي يؤمن اليهود بأن قد فرضها على الأمم (غير اليهود) كشريعة كونية عامة في مقابل الوصايا الـ613 التي فرضها على اليهود، إذ إن المحرمات الأربع المذكورة هي جزء فعلا من هذه الوصايا السبع.

بينما اقترح باحثون آخرون (مثل جوزيف فيتزماير) أن مقررات المجمع هي ترداد لما جاء في سفر اللاويين بالتوراة، وتحديدا في الجزء الذي يسمى “شريعة القداسة” (الإصحاحات من 17 إلى 26). ولكن يمكن القول -بصورة عامة- أن التيار العام لباحثي المسيحية المبكرة يميل حاليا للقبول بتاريخية “مجمع أورشليم”.

يتبع في المقال المقبل..

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الفن القصصي في الأناجيل[الجزء السابق] 🠼 الفن القصصي في الأناجيل [١][الجزء التالي] 🠼 الفن القصصي في الأناجيل [٣]
ميشيل مكين
[ + مقالات ]