كنتُ قد كتبت في عام 2019 سلسلة من 5 حلَقات عن "المبعدون من الكنيسة" في زمن البابا الراحل الأنبا  في صحيفة التحرير، وقد أشرتُ في مقدمة السلسلة إلى اسم ، الأسقف العام، الذي رحل عن عالمنا في 6 سبتمبر 2022، كواحدا من الذين نالت منهم يد الطغيان داخل الكنيسة. لكن لم يسعفني الحظ للكتابة عنه داخل السلسلة التي تحدثت مقالاتها عن: ، الدكتور ، الأنبا إغريغوريوس أسقف الدراسات العليا والبحث العلمي، الراهب أغاثون الأنبا بيشوي سكرتير البابا شنودة الأسبق، القس ، وجاء رحيل الأنبا إيساك عن عمر ناهز الخامسة والثمانين ليذكرنا بما عاناه واحتمله هذا الرجل في صمت.

على مدار الأسبوع الماضي ومن اليوم الأوّل لرحيل الأنبا إيساك، كتب بعض الزملاء معلومات عن الرجل حسب المتوافر والمتاح، خاصة من موقع سانت تكلا هيمانوت الكنسي الشهير، وهو موقع أسسه الراحل الأنبا بيشوي،   وكفر الشيخ، يذكر بعض المعلومات عن الأسقف مثل تاريخ ميلاده ورهبنته وترقيته قمصا ورسامته أسقفًا مساعدًا “خوري إبيسكوبس”، سنة 1978م ومعه الأنبا مرقس -مطران شبرا الخيمة الحالي- ليساعدا الأنبا مكسيموس مطران بنها والقليوبية وقويسنا في ذلك الوقت، ثم تنقطع المعلومات والأخبار تمامًا عن توضيح سيرة حياته الأولى.

تعود المعلومات المتداولة سنة 2012، بأنه تم تكليفه من قبل القائمقام وقتها، اليوس، ، بتعمير المناطق الرهبانية بجبل نتريا، ومتابعة الكنائس المجاورة، ثم رسامته أسقفًا عاما في 1 يونيو 2014 بيد ال مع أساقفة عموم آخرين، ولم يتساءل أحد: أين اختفى الرجل كل تلك العقود حتى أعاده الأنبا باخوميوس للمشهد مجددًا وهو في فترة انتقالية على رأس الكنيسة بعد رحيل البابا شنودة؟

محاكمات وانتهاكات بالجملة

حِقْبَة منتصف الثمانينيات بعد خروج البابا شنودة من العزل، بالتحديد في 5 يناير 1985، ومن بعدها التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، شهدت إبعاد ومحاكمة عدد من الأساقفة والكهنة، بتهم “الهرطقة” أو بدعوى وجود أخطاء إدارية، مثل: الأنبا إيساك، و، أسقف المحلة، والأنبا أمونيوس، أسقف اﻷقصر، والأنبا تكلا، أسقف دشنا، والبعض الآخر لم تتم محاكمته لكن تم التنكيل والتشهير بهم دون محاكمة مثل: الأب متى المسكين، الذي يصفه أبناء البابا شنودة بـ”متى المسكون”، وال، الذي عانى التهميش والإبعاد والمنع من الصلاة في أخر سنوات عمره، والقس إبراهيم عبد السيد، الذي لم يحاكم ولم يشلح، لكنه جلس في منزله يعاني التشهير بسبب كتاباته عن أموال الكنيسة، وعن السلطان الكنسي.

لا يعرف أحد على وجه الدقة ماذا فعل الأنبا إيساك حتى يتم إبعاده منذ مطلع التسعينيات. المتداول داخليًا أن كانت له أفكارا ية، ورغم أن الرجل  لم يكابر ويتمسك بأفكاره التي لم نقرأها مكتوبة، أو نسمعها موعوظة، بل أعلن خضوعه للقيادة الكنسية متمثلة في البابا شنودة الثالث، وسكرتير وقائد المحاكمات الكنسية الأنبا بيشوي، ورغم ذلك ظل مُبعدًا  عن الخدمة حتى رحيل البابا شنودة،

وخير دليل على ذلك هو الخطاب الموثق بتاريخ 19 يناير 2009 من قبل الأنبا إيساك ليعلن فيه:

ظُلِمَ كثيراً ورحل في صمت 1صدر كتاب “ماذا تظنون في المسيح” منذ عامين تقريبا – أي في 2006- وحين رأى فيه نيافة الأنبا متاؤس رئيس بعض الأفكار الجديدة غير المقبولة، وافقته على الفور على التوقف عن نشره وتداوله قائلا لنيافته: إنني غير متمسك بهذه الأفكار الجديدة، ويهمني قبل كل شيء وحدانية الرأي في الكنيسة… وتوقعت أن تكون قصة هذا الكتاب قد انتهت للأبد.

ظُلِمَ كثيراً ورحل في صمت 3ولكن بعد عودة قداسة البابا شنودة الثالث من رحلته العلاجية، أطال الله لنا في عمره، ومنحه الصحة والعافية، وحرصا من غبطته على سلامة العقيدة في الكنيسة، ارتأى غبطته أن تُناقش تلك الأفكار معي في لجنة الإيمان والتعليم والتشريع من مجمعنا المقدس، ولقد تمت هذه المناقشة بنعمة الله يوم الأربعاء 26/ 11/ 2008. وبعد مناقشات ممتعة مع الآباء الأجلاء أعضاء تلك اللجنة… تنازلت عن آرائي الجديدة. ولما رفع الكتاب إلى غبطة البابا طلب… أن أكتب كتابا آخر أصحح فيه المفاهيم السابقة… وسلمت مسودة هذا الكتاب لقداسة البابا ونيافة الأنبا بيشوي ونيافة الأنبا متاؤس…”.

(الأنبا إيساك – دير السريان في 19 يناير 2009م، عيد الظهور الإلهي)

يتضح من كلام الأنبا إيساك أن كانت له بعض الآراء المختلفة التي وُصفت بأنها جديدة، وانه حرصًا منه على الرأي الواحد، كما طُلِبَ منه، نزل عن آرائه، وتلك أزمة الأرثوذكسية في العقود الأخيرة، إذ أنها أصبحت كنيسة الرأي الواحد، ففي الطِلبة بالقداس الباسيلي تصلي الكنيسة طالبة “وحدانية القلب التي للمحبة، فلتتأصل فينا“، وليس “وحدانية الرأي”، وهو ما أشار إليه شهيد الغدر، الأنبا إبيفانيوس، أسقف   في محاضرة هامة  عن الفرق بين “الهرطقة والإيمان والرأي”.

 

ظُلِمَ كثيراً ورحل في صمت 5بدوره، نشر الأستاذ كمال زاخر على صفحته الشخصية، عدة صور ضوئية للصفحات اﻷولى من كتاب: “الرعاية الروحية” للأنبا إيساك قائلًا: “ابحثوا عن هذا الكتاب فقد تضعوا أيديكم على سبب إبعاد الأنبا إيساك إلى الدير”،

أما عن الكتاب نفسه، فقد أهداه الأنبا إيساك إلى ال السادس قائلًا:

ظُلِمَ كثيراً ورحل في صمت 7“… إلى من لم يعظ ولم يؤلف كتابا، ولكن كان تأثير حياته أبلغ من كل عظة، وتدبيره الروحي كتابا مقروءا من جميع الناس”.

(الأنبا إيساك، في إهداء كتاب: “الرعاية الروحية”)

لم يكتف الأنبا إيساك بهذا الإهداء، بل كتب في المقدمة عن تيارات معاكسة عنيفة تواجه الكنيسة، وأنه بدلا من مواجهة ما يحيق بالكنيسة بواسطة المسيح، يتم اتباع طرقا أخرى، حيث قال:

ظُلِمَ كثيراً ورحل في صمت 9“بدلا من أن نستيقظ، متوسلين بصلوات وتضرعات إلى رب الكنيسة، فادينا يسوع المسيح، نميل إلى أن نتعاطى مخدرات فكرية تنقلنا من مواجهة المخاطر المحيقة بنا، إلى عالم واهم من اللغو والغيبوبة.

فقد نقول: إن الكنيسة الآن تشهد عصرا من النهضة لم يسبق له مثيل، ولذلك يحاربها ! وما الفائدة إن تركنا أنفسنا في مهب الريح لمحاربة الشيطان، دون أن نلبس سلاح الله الكامل؟ بل وحتى دون أن نقاومه حتى يهرب منا؟ سنتصر الشيطان علينا طبعا.

ظُلِمَ كثيراً ورحل في صمت 11وقد نقول بكل افتخار: هناك ظهورات روحية للسيدة العذراء فوق قباب كنائسنا! ومن قال أن تتحول هذه الظهورات إلى وسادة، نضع رؤوسنا عليها، لنغط في نوم الغفلة وتسويف العمر باطلا؟ 

(الأنبا إيساك، مقدّمة كتاب: “الرعاية الروحية”) 

إهداء الكتاب إلى البابا كيرلس، والإشارة إلى طريقة التعامل مع ما يواجه الكنيسة، يوضح إلى أن هذا الرجل كان له اتجاه ورأي مخالف لما كانت تدور به الثقافة الممثلة في رأس الكنيسة البابا شنودة، بل وجه خطابًا واضحًا ضد ما نطلق عليه اليوم “الدروشة” أو “المخدرات الروحية”، فقد انتقد الركون إلى المعجزات والغيبيات وفكرة الظهورات التي يركن إليها الناس دائمًا كدليل على صحة إيمانهم ومعتقداتهم.  

جدير بالذكر، أن للأنبا إيساك فيديو شهير يتحدث فيه عن رؤيا، ذهب فيها إلى السماء، ورأى أن بعض الناس لم تعد أسمائهم في الأماكن المخصصة لهم بسبب تهاونهم، وبغض النظر عن صحة ما رأى من عدمه لكنه يقول أنه تعلم درسا مهما في أن يحرص الشخص على دعوته ويثبت إلى النهاية.

وجاءت  كلمة الأنبا بافلي، الأسقف العام بالإسكندرية، خلال القداس الذي سبق صلاة الجناز لتعلن بغموض غير واضح التفاصيل كم قاسى هذا الرجل واحتمل في صمت لأكثر من 20 عاما:

 اليوم يا أحباء نودع أب جليل عظيم.. عاش طوال عمره متنازلاً.. وهذه فضيلة يتعلمها الراهب قبل أن يترهبن.. أنه بيتنازل عن حاجات في الدنيا كتير.. ربما هذا يتمم القول اللي المسيح قاله “من يريد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك تتنازل وتترك له الرداء أيضاً“.. هذا المتنازل الكبير -أنبا إيساك- ما أكثر المشاكل والضيقات والآلام والاتعاب والظلم الذي وقع على شخصه.. لكنه احتمل بصمت. ما أكثر هذه الآلام.. طوال عمره وهو المتنازل.. ظُلم كثيراً.. هذا الشخص عاش لكي يرى السماء.. ظُلم.. نعم.. قُسي عليه في الحياة.. نعم.. لكن في نفس الوقت الله ليس بظالم.. ليس بظالم.. إنبا ايساك وهو على الأرض رأى السموات.

(الأنبا بافلي، جنازة الأنبا إيساك)

الأنبا إيساك هو بالميلاد: “لويس فهمي برسوم”، ولد في 21 أكتوبر 1937، حصل على بكالوريوس العلوم عام 1960، من كنيسة الأنبا تكلاهيمانوت بالزقازيق، دخل الدير في 11 أغسطس 1963، رسم قسا في 25 يونيو 1967، نال القمصية في 1968، انتدبه البابا كيرلس للإكليريكية ليكون أب اعتراف الطلبة، وانتدبه البابا شنودة كوكيل للبطريركية في الإسكندرية بين سبتمبر 1974 وأبريل 1975، خدم داخل وخارج مصر في: الإسكندرية، الخرطوم، ليبيا، لندن، سان فرنسيسكو، كندا، ورسم خوري إبيسكوبس في عيد العنصر 1978، وكلفه الأنبا باخوميوس في 2012 بتعمير المناطق الرهبانية بجبل نتريا، ورسمه البابا تواضروس في 1 يونيو 2014 أسقفًا عاما في البحيرة، ورحل عن عالمنا في 6 سبتمبر 2022.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.