نفس عميق خرج مني دون إرادتي لدى وصولي إلى بوابة دير الأنبا مقار الكبير بصحراء وادي النطرون، معلنًا عن حالة سكينة ستلازمني طوال مدة الزيارة. هدوء المكان يمكنه التسلل بخفة لكل جزء داخلك، يعطيك فرصة لسماع صوت أنفاسك، وملاحقة وقع خطواتك كيلا يفسد عليك الإنصات إلى نسمات الهواء وهي تداعب وريقات الشجر الذي يغطي فناء الدير.
الدير أسسه القديس الأنبا مقار الكبير، الذي ولد سنة 300 ميلادية، ويقع في مواجهة المدخل الجنوبي لمدينة السادات شمال مصر، يجمع نقيضين: سكون يجعلك تظن ألّا أحد فيه، ومظاهر مكان عصري، يعمل رهبانه كخلية نحل لا تنام، وينتجون ما تعجز مؤسسات كاملة عن إنتاجه.
لدى الدير منتجات في مجالات استزراع الصحراء، والإنتاج الحيواني، والكهرباء والتشحيم، وبه مطبعة مزودة بأحدث الماكينات لنشر الثقافة والفكر التنويري المنفتح على الكنائس الغربية واللغات القديمة. ولا عجب في ذلك، فرائدا هذا الدير هما الأب متى المسكين، والأنبا إبيفانيوس الذي قتل على يد راهبيْن، وهنا يأتي ذكر الجانب الأكثر إثارة في مسار هذا المكان، فذكر الاسمين السابقين يستدعي فضول الباحثين عن الغموض والدراماتيكية.
باختصار هو دير السلام والزحام، البراءة والصخب، أو بشكل أوضح: الحياة والموت.
آثار لا تقدر بثمن
الأنبا مقار الكبير، تلميذ الأنبا أنطونيوس مؤسس النظام الرهباني في مصر والعالم، دفعته الرغبة في الاعتكاف إلى اختيار صحراء وادي النطرون لإنشاء صومعته حوالى الثلث الأخير من القرن الرابع الميلادي. حفر لنفسه مغارة ذات سرداب طويل ينتهي بمغارة أخرى سرية يلتجئ إليها، ليتحاشى مقابلة الزائرين، طلبًا للوحدة والسكون إلى أقصى مدى. وسار على نهجه في ما بعد رهبان وجدوا في برية الإسقيط، وادي النطرون حاليًا، ملاذًا بعيدًا عن ضوضاء المدن وزحامها.
مع زيادة التلاميذ الباحثين عن الهدوء ذاته، بُنيت مساكن متفرقة تدعى “منشوبيات” (كلمة قبطية تعني السكن الجماعي أو الفردي)، ثم تكاثرت أعداد الرهبان الذين يجتمعون يومي السبت والأحد لصلاة القداس الإلهي، وتناول القربان المقدس.
أدرك المسؤولون عن الدير عبر السنوات الأولى لترميمه قيمة كل أثر قديم فيه، مهما ضؤلت هذه القيمة، حتى أصبحت القطع المجمعة من صحن فخار وباب خشبي ولقيات متنوعة كنوزًا أثرية لا تقدر بثمن، وحفظت في أحد أركان المكتبة الملحقة بالدير.
كان همنا الأول أثناء عمارة الدير وترميمه الحفاظ على كل أثر قديم في الدير مهما قلَّت قيمته، بل اكتشفنا أثناء الحفر وإزالة الجدران الحديثة بعض الأجزاء المعمارية والقطع الرخامية الأثرية القيمة، التي كانت مطموسة داخل الأسوار أو خلف الطبقات الحديثة من البياض الجبسي السميك أو تحت التراب
عند دخولك الدير، ونزولك على السلالم الكبيرة للوصول إلى كنيسة أنبا مقار، ستعبر من تحت قوس أثري من الطوب الأحمر، وهو عبارة عن مقصورة arch ضخمة، كانت هي المدخل البحري القديم للكنيسة قبل القرن التاسع، ويرجح أنها من القرن السابع أي يُقدَّر عمرها بأكثر من 1300 سنة، هذه المقصورة ستجعلك تشعر وكأنك داخل عالم جديد، عليك الإنصات لكل حكاياه.
الأب متى يواجه التيار التقليدي
عام 1969 دعا البابا كيرلس السادس، بطريرك الكرازة المرقسية وقتذاك، الراهب متى الشهير بالمسكين مع جماعته الرهبانية (12 راهبًا) للانتقال إلى دير أنبا مقار، الذي كانت الحياة الرهبانية فيه توشك أن تنطفئ، ووكل إليه مهمة تعمير الدير وإحياء الحياة الرهبانية فيه من جديد. في ذلك الوقت كاد الدير يخلو من الرهبان، لم يكن فيه سوى خمسة رهبان مسنين ومرضى، ومبانيه على وشك السقوط.
منذ هذا التاريخ بدأت نهضة عمرانية جعلت من الدير مزارًا للمصريين والأجانب على السواء، ووضعته ضمن خريطة أحد أهم أماكن السياحة الدينية العامرة، وبالتوازي حدثت “طفرة” فكرية وثقافية كبرى على يد متى المسكين، وأبناء مدرسته الفكرية المنفتحة على اللغات القديمة العبرية واليونانية والمصرية القديمة.
لكن الأمور لم تكن بين البطريرك والراهب على وفاق دائم، ففي عام 1960 أصدر البابا كيرلس قرارًا يلزم الرهبان بالعودة إلى أديرتهم، وحرمان المخالفين للقرار، وكان وقتذاك القمص متى المسكين مع مجموعة من الرهبان خارج دير السريان الذي ترهّب فيه، وغادره إلى بيت التكريس بحلوان، نتيجة خلافه مع مدير الدير، فطبق عليه وعلى من كان معه الحرمان البابوي، وتم تجريده من الكهنوت، غير أنه استغل هذه الفترة من الراحة القسرية في الكتابة التي أثمرت غلالًا معرفية استعان بها دارسو اللاهوت المسيحي، وأعلن خلالها فكره الآبائي المنتسب لرواد الكنيسة الأولين. ومع كل كتاب جديد يصدره يثير عداوات عقائدية مع عدة أطراف.
في كتاب “الكنيسة والدولة” انتقد منازعة الخدمة الكنسية للحكومة في أنشطتها، ورأى أن على الكنيسة الترفع عن الدخول في السياسة. هنا كان البابا شنودة على الطرف الآخر، إذ لعب دورًا روحيًا وسياسيًا في عهد بابويته، التي امتدت نحو 40 عامًا، ولم ترقه أفكار متى المسكين وراح يرد عليها كلما سنحت الظروف.
لم تخلُ الخلافات أيضًا من تباين في وجهات النظر حول عدة مسائل عقائدية بين القمص متى والأنبا شنودة، منها عقيدة الكفارة والبدلية العقابية، ومفهوم تأله الإنسان، والوحدة مع الطوائف الأخرى التي كان يؤيدها المسكين، ويرى فيها ثراءً للكنيسة، بينما يحرمها شنودة، ويشن حرباً كلامية خلال عظاته على من يفكر في التقارب مع الطوائف الأخرى، ومنع تداول كتبه في مكتبات الكنائس الأرثوذكسية، حتى أن الأنبا بيشوي، مطران دمياط الراحل، شن الحرب نفسها على المسكين وحرق كتبه.
الصراع إرث للأبناء
بعد وفاة الأب متى المسكين عام 2008 سار تلاميذه على نفس دربه بدير الأنبا مقار في وادي النطرون، وعلى رأسهم الأنبا إبيفانيوس الذي عُيّن رئيسًا للدير عام 2013 بحبرية البابا تواضروس الثاني، وخلال هذه الفترة وفد إلى الدير رهبان ينتمون إلى مدرسة البابا شنودة الفكرية، ما شكل خلافات بين الرهبان، تحوّل إلى كراهية ملحوظة للأنبا إبيفانيوس، لا سيما بعد أن قال بكلمته في ذكرى وفاة الأب متى المسكين العاشرة ما يفيد بأن كتابات الأب متى أحدثت تغييرًا جذريًا بمجال التعليم الكنسي، خاصة أنه استمدها من أقوال الآباء الأولين لإتقانه اللغة الإنجليزية.
الصراع هذه الكلمة التي قالها إبيفانيوس أمام جمع من الحضور بدير كاثوليكي إيطالي، مع تعاليمه الخاصة بأهمية مد الجسور بين الكنيسة الأرثوذكسية والطوائف الكاثوليكية والبروتستانتية، أعطت الضوء الأخضر لكارهي فكر الأب متى المسكين ومن بعده رئيس الدير، لتتحول الكراهية إلى وقود في أيدي الراهبين أشعياء وفلتاؤوس المقاري لقتل إبيفانيوس.
مات إبيفانيوس غارقًا في دمائه، لتُكتبَ صفحة جديدة في الدير الهادئ، عنوانها جريمة كراهية في ساحة السلام والفكر الإصلاحي.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟