أكتب هذه المقالة تعقيباً على مقال الصديق تامر فرج المعنون باسم أساقفة ينشرون الإلحاد، وأنا هنا لست بصدد تقديم معالجة لأسباب انتشار الإلحاد، لكن أريد رصد فشل الأساليب المتبعة في التعليم الكنسي في المهجر حالياً لمواجهة الإلحاد أو أي تغرب عن الكنيسة، وكيفية مساهمة الممارسات التعليمية السيئة في ابتعاد الشباب عن الكنيسة وتوجههم للإلحاد.

ليس بإمكانك جعل غرفة أقل ظلاماً لكن بإمكانك إضاءتها.

(عبارة مقتبسة عن أب فاضل يخدم بإحدى كنائس المهجر، سوف أشرحها في رحلتنا هذه)

تنحصر أغلب طرق مواجهة الإلحاد، خاصة في كنائسنا في المهجر، إلى ٦ طرق منتشرة:

١- إثبات الفشل الأخلاقي في الغرب الملحد “السكير العربيد”.
٢- إثبات خطأ أي نظرية تتنافي مع حرفية السرد الكتابي مثل التطور.
٣- الإكثار من التعليم عن الطقوس الكنسية والألحان.
٤- محاربة التطور السريع الديناميكي للكينونة الإنسانية في الغرب. (أنا أرصد فقط ولست منحازا ضد/ مع).
٥- تجميع الشباب في نوادي كنسية تكاد تكون مقصورة على شباب الأقباط تضاهي ما نجده في وطننا الأم في انعزاليتها.
٦- محاربة كل ما هو غير مألوف حتى وإن كان فقط تسريحة شعر مختلفة أو حتي ذوق موسيقي مختلف.

والسؤال المهم هنا، هل نجحت هذه الطرق في تبشير الملحدين ومواجهة الإلحاد وإيقافه عند حده؟
في الحقيقة “لا”، وإن نجحت فليس لكفاءتها بل لأن كلمة الرب حية وفعالة رغم قصور مجهودنا.

إن حللنا استراتيجية مواجهة الإلحاد في المهجر، التي هي مصدر الطرق الست التي ذكرتها، لوجدناها تنحصر أيضا في ثلاثة محاور:

١- محور دفاعي.
٢- محور أخلاقي أو ممارساتي.
٣- محور يتعلق بإعادة تشكيل الشباب واستنساخهم على صورتنا.

المحور الدفاعي سهل وسريع وتأثيره قوي لأول وهلة، لكن -كمّيا- سنرى فيما بعد أنه يفشل فشلا ذريعا على المدى الطويل.

المحور الأخلاقي والممارساتي أيضًا سهل ويتوافق مع رسالة المنزل والأسرة، لكنة أيضًا يفشل كما سنرى.

محور إعادة التشكيل والاستنساخ أيضًا سهل ولا يحتاج إلى أية معارف أو دراسات معقدة، لكنه في منتهى الخطورة، إذ مقارنته بالمحاور الأخرى ففشله مدمر، وقد يؤدي إلى عداوة بين الكنيسة والشباب. فنحن قد نحاول تغيير الشاب حتى يلائم القالب الذي وضعناه له، وأعدنا صياغته في وطننا الأم، فكل شاب يجب أن يكون نسخة كربونية من معلم الكنيسة وكل شابة من أمينة الخدمة، ضاربين بعرض الحائط التباين والاختلاف الثقافي.

لماذا تفشل هذه الطرق والأساليب؟

التعليم السلبي

أسئلة الشباب -خاصة في سن المراهقة- تحوم حول الأسئلة الوجودية ومحاولة فهم كينونتهم وعلاقتهم بهذا الإله الذين يشعرون به ويريدون أن يفهموه. يقول اللاهوتي الأمريكي “جيمس فولر” في نظريته عن “تطور الإيمان”: إن مرحلة المراهقة تتسم بالفكر التجريدي، وبداية الاختلاف بين ما يفهم كقناعة شخصية نتجت عن قبول بعض الأشياء في الطفولة التلقينية البريئة، ثم نمت في الجماعة التي منها تسُتمد الهوية وما يعاكسها من الشكوك المشروعة والأسئلة المنطقية التي تأتي في هذه المرحلة.

لكننا نجد أنه بدلا من إجابة الأسئلة الوجودية ومحاكاة الفكر التجريدي، ننزلق في والأخلاقي، أو كما قال : الهجوم خير وسيلة للدفاع. خير وسيلة لمواجهة الإلحاد هنا ليست اللاهوت الدفاعي، فشبابنا بحاجة لتعليم إيجابي ينبع من التقليد الأرثوذكسي ويشُكل بالثقافة المحلية. أيضاً الكنيسة يجب أن تحتضن الخلاف النابع في هذه المرحلة بدلا من مواجهة عدائية لهذه الأفكار والشكوك. أستطيع أن أقول عن خبرة أكثر من عقد ونصف عقد في خدمة الشباب إن الشباب لا يترك الكنيسة لعدم وجود إجابة عن أسئلة من عينة “هل يقدر الله على خلق صخرة لا يقدر على حملها؟” وإنما أسئلة من عينة “لماذا أنا هنا؟”، “ما الهدف من حياتي؟”، “لماذا الحياة مؤلمة؟” الخ…

أتذكر كلمة قالها لي أستاذ بطب العقاقير عندما كنت في كلية صيدلة، وهو بالمناسبة راعي بالكنيسة المعمدانية، إذ قال: نحن لا ندرك أن جميعنا بلا استثناء يحمل على كتفيه كمية مهولة من الألم والمعاناة. وهذا صحيح أيضاً بالنسبة لشبابنا الذي يلجأ إلى الإلحاد حتى يسقي ألمه جرعات مسكنة من الإنكار.

يقول القديس : غير المؤمنين عندما يواجهون صعوبة صغيرة… لا يستطيعون أن يتحملوا… فيتشككون بعقولهم إن ما كان الله موجوداً، وأيضاً: لا فرق بين من ينكر وجود الله، ومن ينكر أن الله صالح.

هنا بكل وضوح نرى أهمية التعليم الإيجابي في مواجهة الإلحاد، معرفة الله ومحبته توثق معرفتنا به وبصلاحه. لا يمكن تضميد القلب المكسور بالشاش، بل يجب أن نعالج الألم الوجودي بالتعليم عن الإله المحب، ومن نحن بالنسبة له حتى نقاوم أفكار الإنكار طبيعيًا.

وهذا يأتي بنا للنقطة الثانية:

اللاهوت النظري في مواجهة الإلحاد

يجد الخدام أنفسهم في موقف لا يحُسدون عليه، فيأتيهم الشباب بأسئلة نظرية واعتراضات عقلانية عن وجود الله.
أسهل حل لهذا الموقف هو اللجوء لجوجل والإنترنت، والنتيجة عادة ما تكون إجابات معلبّة نظرية ومن مصادر غير متماشية مع التقليد. هذا يخلق تضادا بلا مساحة لتقبل أي اختلاف كجزء مما نجهله عن الله أو ما نعيشه.

اللاهوت الاختباري والمعاش، هو عصب التعليم اللاهوتي الأرثوذكسي، ففي إحدى القصص الرهبانية نجد أخ يسأل القديس “شيشوي” عن كلمة منفعة، فيجيب الأخير: “لماذا تطلب كلامًا؟ أصنع مثلما تري”. هنا نرى أهمية اللاهوت الاختباري كمادة تعليمية وقوة التلمذة كطريقة تعليمه. قد لا نستطيع حصر الله في مجموعة عبارات نظرية وفلسفية لكننا نستطيع أن ننقل خبرتنا معه كحجر أساس لمعرفته، فيصبح اللاهوت نظري مُكّمِل لكن ليس الأساس. وذلك أيضا يتضمن الشكوك لأنها تأتي في سياق شكوك وتساؤلات صحية لفهم الخبرة الروحية وليس العكس. لذلك، فإن الإيمان المعاش صلب كالصخر ولا تزعزعه الأمواج لكن تصقله. فكيف لنا أن ندخل في مواضيع نظرية دون وجود بنية أساسية لهذا السياق النظري؟ هنا يجب أيضًا الإشارة إلى أن التجربة الشخصية أهم سبب لاستمرار الشباب في الكنيسة وفقا لعدة أبحاث أجرتها الشرقية في شمال أمريكا.

التعليم الأخلاقي

التركيز على الأخلاقيات والخطية كسبيل لدحض الإلحاد أصبح توجه يجب تسليط الضوء عليه ودراسته وهناك عدة محاور لقصور هذا التوجه:

١- يقولون إن الملحد سيء الأخلاق إذا أن الإيمان بالخالق سبيل لمجتمع جيد.
وهذا صعب جداً إثباته خاصة في وجود فلسفات لا تؤمن بالخالق ولكن تؤمن بالقيم المشتركة وأيضاً انتشار الفساد والنفاق والأخلاق الرديئة في الشعوب المؤمنة بالخالق.

٢- وأيضًا يقولون إن التعليم الأخلاقي ينتج عنه شباب مؤمنين ومرتبطين بالكنيسة.
وهنا نجد مشكلة، إن مفهوم الأخلاق نسبي للمجتمع وقد ينتج عنه ازدواجية عند شباب الجيل الثاني مثلما يحدث دوما حول مفهوم الحشمة.

٣- مشكلة أخرى مرتبطة بالتعليم الأخلاقي هو أن كل الممنوع مرغوب، وهناك أمثلة لا حصر لها من الأبحاث في علم النفس عن خطورة منع شيء ما أو إظهاره بصورة سلبية، إذ يصبح آنذاك جذابا، فإن ركزنا على الأفعال غير الأخلاقية الممتعة كشيء يجب تفادي متعته، أصبحنا دون قصد نحث شبابنا على تذوقها.

٤- التركيز على الخطية يربطنا بالخطية كما قال : “بدون الخطية ميتة(رسالة بولس إلى رومية ٧: ٨). فليس باستطاعتنا التحرر من الناموس والنمو الروحي إن كان تركيزنا على كل ما هو رديء. أتذكر في إحدى عظات المتنيح ال عندما قال: لا يجب أن نخاف من الخطية في حياتنا”، وأنا اكرر أنه يجب أﻻ نخاف منها في تعليمنا أيضاً.

٥- التعليم الأخلاقي سطحي بطبيعته، ولا يرقى لكشف حقيقة ثبات المسيح فينا أو نحن فيه. يقول الأب الأرثوذكسي “جون بو جمرة” إن: “هدف العملية التعليمية المسيحية هو ”، فالسلوك المسيحي يأتي كنتيجة لإدراك الحياة الإلهية وليس العكس.

غياب التعليم الشخصي

افتقاد العملية التعليمية لاحترام التمايز، يجعل الكثير من الشباب عرضة للبعد عن الكنيسة. هذا يكاد أن يترجم لعداوة بين الكنيسة والشباب. الشاب يجب أن يكون مركز الخدمة بشخصه، وكما يقول أبونا “”: يجب أن نقبل الشباب كما هم، وليس كما نريدهم أن يصبحوا.

غياب الارتباط الشخصي

عند تحول شاول إلى بولس، قال المسيح له أن يذهب إلى المدينة ليتعلم، لم يكتف المسيح بتحويل بولس، بل جعله جزء من الكنيسة حتى يتعلم من بقية التلاميذ ويعتمد على يد حنانيا. الارتباط بين المتعلم والمعلم شيء لا يمكن الاستغناء عنه، لا يوجد تعليم كنسي دون هذه العلاقة الكيانية التي تربط أعضاء الجسد الواحد في وحدة تفوق حدود المعرفة العقلانية. أهم فرق بين التعليم الكنسي وأي تعليم آخر، أن التعليم الكنسي تنسجه المحبة والاتحاد السري. وبعيدًا عن البعد الروحي للتعليم فأن العلاقة بين المعلم والمتعلم من شروط التعليم الناجح. نجد الفيلسوف والخبير التعليمي “جون ديوي” يقول: المعلم والمتعلم شركاء في التعلم. نتيجة طبيعية لهذه العلاقة الكيانية. الشعور بالمسؤولية تجاه المخدومين والصلاة من أجلهم وإعطائهم كل الاهتمام والأولوية.

ترتيب الشباب في الكنيسة

هناك اعتقاد خاطئ أن الشباب مؤمنين تحت التدريب، أو مؤمنين ناقصين اﻷهلية والكنيسة تعلمهم كيف يصبحوا مؤمنين كاملين. منذ لحظة المعمودية فالإنسان المسيحي إنسان مسيحي كامل، وهناك العديد من الأدلة الكتابية وأدلة من قصص القديسين على ذلك. بالعكس يجب أن يعتبر المعلم أنه أيضًا تلميذا مثله مثل الطالب، يسير في نفس الدرب التعليمي وإلا غلبه الكبرياء واجترار نفس المعلومات بلا خبرة روحية حقيقية.

النفاق المؤسسي

عدم التوافق بين ما نعلّم في الكنيسة ونفعل في الحياة شيء خطير، فأن علمنا عن المحبة يجب أن تصبح المحبة حياتنا. الكنائس حسب القديس : “مستشفى”.. فيجب أن تؤخذ هذه المسألة بجدية وتكون مصدرا للمحبة والرسالة المسيحية بلا استثناءات. الشباب حساس جدا لأي ملامح للنفاق واستعداده لتحمل ما قد يبدو نفاقا يكاد يكون منعدما.

 

بعض الممارسات الإيجابية

نستطيع أن نلخص بعض ما تكلمنا فيه بالأعلى في بضعة نقاط عن الممارسات الإيجابية، مع إضافة القليل من النقاط لإثراء السياق:

∙ ممارسة ما نقول، أو إيضاح أننا نجاهد بهذا الصدد شيء مهم جدًا.
أن تصبح الكنيسة في المهجر أكثر من نادي اجتماعي، أو معقل الثقافة المصرية، أو مأوى لهؤلاء الذين لا يستطيعوا التأقلم على ثقافة بلاد الهجرة. هذا يتضمن القبول للجميع وأن تحتضن الكنيسة الثقافة واللغة المحلية بنفس قدر الثقافة واللغة المصرية، من أهم الأخطار في المهجر أي تناقض في الهوية بين الكنيسة والثقافة المحلية.
أن تصبح الكنيسة في المهجر منبر تبشيري يمد يديه للمجتمع المحلي بالمعونة الروحية والمادية إن أمكن.
توفير مساحة حرية ومحبة للحوار نحو التحديات العصرية والمحلية.
أن يكون للشباب دورا واضحا وفعالا في الكنيسة وليس دورا صوريا، إذ هم جزء لا يتجزأ من الكنيسة.
التركيز على الإيجابي وما يترتب على فهم عمل الله في الإنسان وترك ما هو سطحي. إن لم نوفر ما يحتاجه الشباب من إجابات وجودية سوف يبحثون عن بدائل خارج الكنيسة.
التغيير الراديكالي للسياسة التعليمية وتحويلها من المجال النظري المدرسي إلى التلمذة الاختبارية، مع وجوب الشفافية اللازمة لبناء الثقة في البيئة التعليمية الكنسية.
التأكيد على احتضان الشباب في المجتمع الكنسي ووجود علاقات كيانية قوية تربطهم بالكنيسة عصبها الحب غير المشروط.
التوافق الكامل بين ما تمارسه الكنيسة وما تعلمه الكنيسة وكيف تعلمه.
إصلاح التعليم الكنسي. فمثلاً إن لزم كتابة مناهج جديدة تتخذ من الاتحاد بين الله والإنسان هدفها الأوحد الذي منة يتفرع جميع الأهداف الأخرى، وأن يكون المنهج متسق مع بعضة وأن يتم تدريب المعلمين روحيا وفي فن التعليم الخ…

يقول القديس السكندري: إن استيعاب القناعات الإيمانية الصحيحة ورفض الباقي ليس نتاج إيمان بسيط بل نتاج إيمان ملتزم بالتعلم ليس هناك من يشكك في أهمية التعليم في مواجهة الإلحاد والتغرب عن الكنيسة، لكن المهم أن تكون الأساليب صحيحة وموائمة للأهداف المرجوة.

في دراسة أجراها مركز بيوس عام ٢٠١٥ في أمريكا الشمالية، ؜٥٣٪ فقط من الأرثوذكس البالغين مازالوا متمسكين بالأرثوذكسية مقارنة بـ٦٥٪؜ من ال. ليس هذا فحسب ففي نفس الدراسة نجد أن من يؤمنون بلا أي شك في وجود الخالق من الأرثوذكس ؜٦١٪ مقارنة بـ٨٨٪؜ من البروتستانت، وبما إن الإيمان بالخالق هو محور هذه المقالة فهذه الأرقام تقلق خاصة لقرب خاصيات المجتمعات الأرثوذكسية. أستطيع أن أقول إننا في المهجر بصدد كارثة ويجب أن نتخذ خطوات حاسمة اليوم وليس غدا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

واﻷكاديميا أيضا ترصد: ينشرون الإلحاد 1
أستاذ مساعد في Norwich Medical College, UK  [ + مقالات ]

باحث في نظم التعليم الأرثوذكسي