انتشرت منذ مدّة قناة على اليوتيوب لكاهن قبطي أرثوذكسي يدعى "اسحق صبري"، في ظاهرة جديدة من نوعها؛ حيث اعتاد الشعب مشاهدة الآباء الكهنة عبر القنوات الفضائية المسيحية التي تعتمد في تمويلها إما على جمع التبرعات أو الإعلانات التجارية.

الأمر المريب في فيديوهات القس الشاب هو ولعه الشديد بتقديم المواضيع الجنسية المتعلقة بالطهارة، مثل التخلص من العادة السرية، ونصائح للعلاقة الحميمية. فستجد تسعين بالمائة من الحلَقات عن هذه المواضيع، ولا مكان للمواضيع الروحية غير الحسية؛ لأن العشرة بالمائة المتبقية تختص بمواضيع متهافتة لا تشفي ظمأ روح تبحث عن خالقها مع أنها تبدو وكأنها مواضيع روحية. الخلاصة، تنقسم حلَقات صبري إلى قسمين، حلَقات جنسية وحلقات غير جنسية. ولحظي العثر، شاهدت واحدًا من أخر فيديوهاته، الذي كان عن الدلائل الكتابية لتقبيل يد الكاهن!

يرى صبري أن تقبيل يد الكاهن أمر كتابي، وليس عادة شعبية اعتادها الأقباط. وكأن إعطاء التبجيل لفئة معينة من البشر يفرضه الله فرضا بالنصوص الكتابية! وبالفعل، شرع صبري في سرد بعض النصوص الكتابية عن “التقبيل” منها قول السيد المسيح لصديقه سمعان “بقبلة لم تقبلني”، مشيرًا إلى أن القبلة هنا علامة على الإكرام، وبذلك، فإكرام الكاهن واجب. يساوي صبري نفسه بالمسيح بكل وضوح، وكأن المسيح يعطي آخرين مجده.

ثم جاءت صدمتي الكبرى حين استشهد صبري بقول فرعون مصر ليوسف أَنْتَ تَكُونُ عَلَى بَيْتِي، وَعَلَى فَمِكَ يُقَبِّلُ جَمِيعُ شَعْبِي إِلاَّ إِنَّ الْكُرْسِيَّ أَكُونُ فِيهِ أَعْظَمَ مِنْكَ.

وتسأل نفسك ما علاقة العادات والتقاليد الفرعونية بتقبيل يد الكاهن؟ ثم تدخل في حالة ذهول لما وصلنا له من عبث!!

اعتاد القدماء في مصر و على تقبيل الشفاة كعلامة على الاحترام. نقرأ في كتاب Popular Stories of Ancient Egypt ص٢١٥ عن تقبيل الرجل للرجل على الفم كعلامة للتقدير عند الفراعنة، بالأخص لأصحاب المناصب العليا، وأيضا نقرأ عن تقبيل الأرض التي يقف عليها الفرعون، وقد اكتسب القبط هذه العادة وأدخلوها للكنيسة. فما الرابط بين تقبيل فم الفرعون وتقبيل يد الكاهن؟ ولما يد الكاهن وليس فمه كما يقول النص؟

هذا مثال واضح لعظات التيك-أواي التي تقدم تعليمًا معلبًا للمستمع، وينهج واعظها منهج “الكنترول فايند” — البحث عن الكلمة المرادة في الكتاب المقدس الإلكتروني، كأن يضع أصل الفعل “قبل” في محرك البحث، ويقرأ على المستمعين الآيات التي يجدها بلا فهم أو الرجوع لسياق، ويكون بذلك قد قدم عظة وافية شافية كلاهوتي مخضرم وعصري!

لما لا يطبق هذا القس، الملتزم بكل حرف في الكتاب المقدس، قول المسيح مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا (إنجيل متى 10: 8)؟ ويكف بذلك عن كونه يوتيوبر يتربح آلاف الجنيهات شهريًا من المشاهدات والإعلانات بواسطة كلمة الله؟

حين يحاول تقديم عظات روحية، تتمخض محاولته عن مواضيع عديمة الجدوى كالنبتة الجافة لا تفيد أحد؛ لأن الحديث عن زنا اليد، والأعضاء التناسلية، والتلامس بين الشباب والفتيات، وحرمانية الحب من عدمها هو محور هذه القناة المسيحية التي يطل علينا منها هذا القس الذي يرى أن التجاوزات الجنسية بين المخطوبين تبدأ من الإمساك باليد! وبالطبع، لا مفر من تذكر مشهد فوزية رأفت الشهير حين ظنت أن خطيبها يتحرش بها حين أمسك يدها.

هل الشباب المسيحي مهووس ومفتون بالجنس إلى هذه الدرجة ولا يفكر في شيء عداه حتى تصير العظات الجنسية هي الأصل بينما الروحية هي العابرة؟ في ظني، أن الهوس بالمحرمات والمحظورات هو ما يمكن أن يؤدي بهم إلى ذلك. السردية المنغلقة التي يتم تغذيتها على المنابر قد أدت بالكثيرين إلى نهج الحياة المزدوجة— الانفلات في السر والطهر في العلن كما هو حال بعض الرهبان. كما أدت إلى انتشار مرض “الوسواس القهري الديني Religious OCD” الذي يدمر المخ والحياة بالكامل بسبب الذعر والهوس بالخطيئة.

“المجتمعات الأكثر تحريما للجنس، هي الأكثر هوسا به.”

(ميشال فوكو)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كهنة أخر زمن 1
[ + مقالات ]