من أخطر وأعقد المشكلات التي تقابلنا كمجتمع شرقي، وللأسف تتحكم في أغلب سلوكياتنا وأفكارنا بشكل مباشر، وغير مباشر، هي نظرتنا المغلوطة والموروثة بالخطأ -مش عارفة بالظبط منين- عن الجسد ولا نعرف من أين ترسخت هذه النظرة، لأننا في الحقيقة أبناء حضارة عظيمة أدركت قيمة الجسد ولم تخفيه، بالعكس ربته واعتنت به وزينته، واهتمت به حيا، ومنحته التكريم اللائق بعد الموت بالتحنيط، حتى الآن "توجد" بيننا أجساد عظيمة لآبائنا العظماء.

الجسد هذا الإناء الذي يحوي ويحمي أرواحنا وأنفسنا، ننظر إليه نظرة احتقار وخجل، فعلاقاتنا غير الناضجة بأجسادنا تجعلنا نتأرجح بين دعوات التغطية والتخبئة، والرغبة في الكشف عنه لمجرد التمرد على ما سبق، ولكن دون وعي بأهمية وقيمة بل وقداسة هذا الجسد الذي نؤمن جميعا كـ”إبراهيميين”، (المؤمنين بالديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام) إن الله خلقنا هكذا كما نحن ورأى الإنسان حسنًا جدًا، والله لا يخلق أي شيء نجس أو غير طاهر، بالعكس في المسيحية عندما أراد الله أن يقترب من الإنسان اتخذ له جسدا ولم يتأفف من كونه إنسان بكامل أعضائه الإنسانية (وهذا التجسد تؤمن أن اليهودية أيضًا ولكن لا زالت تنتظره، بالتالي اتخاذ الإله الجسد أمر غير مرفوض في اليهودية).

تنبه لهذه لفكرة، وأشار إليها في رسالة أفسس.

“فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ”.

(رسالة بولس إلى أفسس 5: 29)

مهم هنا أن نفهم إن كلمة يربيه لا تعني يعاقبه أو يؤدبه، إنما يربيه تعني أنه يعتنى ويهتم به -زي ما بنقول إن فلان بيربي طيور أو حيوانات-

وقال بولس أيضا:

“أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ”

(رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 6: 19)

لذا نحتاج أن نقف مع أنفسنا دقيقة وأن نغمض أعيننا ونأخذ شهيق ونخرجه بهدوء في أثناء العد إلى رقم  ٨، ونسأل أنفسنا سؤال: هل أنا قابل نفسي وجسدي؟

وأؤمن أن الله خلقني في أحسن صورة وأنه لا يوجد  فيّ شيء قذر أو قليل أو رديء؟

هل أنا قادر أن أرى في نفسي نفخة الله فيّ من روحه القدوس؟

لو كانت الإجابات على هذه الأسئلة إيجابية ساعتها فقط أستطيع أن أرى الآخر، أي آخر (رجل، امرأة، بنت، كبير، صغيرة، عجوز، طفل) بالضبط كما رأيت نفسي مخلوق بيد ربنا، فيه نسمة الله، مقدس كله، وليس فيه عيب.

لو استطعنا أن نعي جيدا هذا المفهوم، فإن أمور كثيرة سيئة ستختفي من حياتنا، ليس فقط سلوكيات خاطئة، لكن أمراض جسدية ونفسية أيضًا، من يفهم هذه المعاني سيحب نفسه وجسده بشكل صحي، يرعاه ويربيه بطريقة صحيحة، وبالطبع سيتعامل بالمثل مع الآخر. بالتالي لن نتحدث وقتها عن تحرش أو ضرب أو عنف زوجي لأن منظورنا الإنساني والديني لأنفسنا ولبعضنا البعض سيعدل!

بقدر ما إن هذا الكلام سهل وبسيط ومنطقي، لكن للأسف تطبيقه صعب في مجتمعاتنا، لأنه زُرع  في وعينا على اختلافاتنا الثقافية والطبقية والدينية احتقار الجسد المستتر، لذا لو سألتك: ما هي أعظم الكبائر وأكبر الخطايا؟ ستجيبني “الزنا” (مع أن مفهوم الزنا وتعريفة الديني الأساسي هو الخيانة، وأشير إليه في العهد القديم لعبادة  الشعب لآلهة أخرى مع الله)، لكن تحول  الأمر في أذهاننا، لسبب غير معروف، إن الزنا هو  أي علاقة بين رجل وامرأة لا توجد بينهم ورقة مكتوبة، مع أن الزواج حتى دينيا له شروط أخرى غير الورقة، لكن مجتمعنا يرفض أي علاقة ببن أي اثنين بالتراضي دون ورقة (لأي سبب من الأسباب)، ومع ذلك ممكن المجتمع يقف متفرجًا  للتحرش والاغتصاب والعنف والقتل من أي ذكر تجاه أنثى سواء بينهم ورقة أو حتى من غير ورقة، ليس فقط المشاهدة، وإنما سيطلب من الضحية أن تقبل وتحتمل، بحجة إن ده صليبك وإنك لازم تستحمليه، وأصبح عندنا قصص وأمثلة كثيرة لسيدات قيل لهم هذا الكلام حتى تعرضن للقتل، وأولادهن تيتموا، ومنهن من قتلن أمام أعين أولادهن.

لو أدركنا قيمة ومعنى الجسد، سنربي أولادنا بشكل سوي على الحمية والحضن الدافئ التقي، ونشبعهم، ونخرج للمجتمع نماذج إنسانية حقيقية، ملح الأرض ونور العالم، وسنتقدم خطوة أكثر تقدما حتى من الغرب الذي يقدم حتى للأطفال معلومات بيولوجية واضحة عن أجسامهم، يكسر بها كراهيتهم للجسد وخجلهم منه في الأقل بالمعرفة، لكن دون أن يقدم لهم القيمة الحقيقية والعمق اللاهوتي والروحي والكياني لهذه العمليات البيولوجية.

*ولنا لقاء آخر للحديث عن الأسباب التي أدت إلى هذا الفهم الخاطئ والرؤية المشوشة للجسد، بالتالي للعلاقات الجسدية وإلى هذا الحين نشير إلى أنها  باختصار جوع ونقص واحتياج إنساني، ونظرة خاطئة دنيئة للجسد سواء جسد الشخص أو جسد الآخر، الذي يتخيل أنه موجود كي يستمتع به ويستخدمه، بينما قدس الله أجسادنا وقدس العلاقة الجسدية إلى أقصى حد حتى جعلها مصدر للأمان والمودة والرحمة بل والطريق إلى الشركة في الخلق فقد كان من السهل على الله أن يجعل الإنسان يتكاثر بأي وسيلة أخرى، ينقسم ميتوزيا مثلًا كالبكتيريا، أو بأي طريقة أخرى، ولكن إذا كانت هذه إرادة الله هل نصبغها نحن بالعار والإهانة والدونية؟ هذا الأمر جوهري ويحتاج أكثر من مثل هذه السطور، ولكن لعلها تساهم في استثارة أفكارنا لنرى أنفسنا كما يرانا الله في أبهى صورة.

وأعتقد أنه آن الأوان أن نترك توافه الأمور التي نشغل أنفسنا بها ونركز على أعظمها، التي تتحكم في الجزء الأكبر من السلوك الإنساني شئنا أم أبينا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

إيريني إستمالك
[ + مقالات ]