المقال رقم 17 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا
إصحاح السامرية (٥)

قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ».
قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ».

(إنجيل يوحنا 4: 25، 26) 

إن قول السامرية “متى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء” يكشف عن رجاء البشرية في افتقاد الله لها. فلقد ظل الإنسان يبحث عن إجابات لأسئلته الوجودية، أي التي تختص بوجوده وكينونته، و ظل حنين الإنسان إلى أصوله الإلهية في خالقه مستتراً في كيانه، يتوهج ويخبو على مدى التاريخ، منتظراً لقاءه في رجاءٍ لا ينقطع لأنه كان مسنوداً بصورة الله كأساس تكون عليه الكيان الإنساني، وظلت صورة الله فينا صك انتماء إليه لا يزول، وتلخيصا لما سبق قال الوس”لقد خلقتنا لك يا الله ولن تجد نفوسنا راحة إلا فيك“.

في المقابل نجد أن الله لم يتوان عن افتقاد الإنسان والتواصل معه في تدبير عجيب منذ السقوط.

“اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ”.

(رسالة بولس إلى العبرانين 1: 1-3)

لقد كلم الله البشرية خلال تاريخها، مُرسِلاً كلمته إليها ”بالأنبياء “، إلى أن  ”كلمنا في ابنه“ الذي فيه لم تَعُد كلمة الله حروفاً ينطقها أنبياء بل هي روح وحياة شخص المسيح ”اللوجوس/ كلمة الله“. لذلك قال له المجد: ”اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ“ (إنجيل يوحنا: 6: 63). فإن حروف الكتاب المقدس لا تخبرنا عن الله، بل إن شخص الله في كلماته ”كلمنا في ابنه“ هو الذي يعلن ويقدم ذاته لنا روحاً وحياة لمن يجلس ساهراً يطلب شخصه في الإنجيل.

فيا لفرحتنا وفرحة باستعلان الرب يسوع المسيح، “قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ »” (إنجيل يوحنا 4: 26)، إن فرحة هذا الاستعلان تملأ الكتاب المقدس: ”«قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ“. (إنجيل يوحنا 1: 41)، ”فَفَرِحَ التَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوْا الرَّبَّ“.  (إنجيل يوحنا 20:20).

وهي فرحة مسنودة بتأكيد لصدقها من الروح القدس في قلب الإنسان.

فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا.

(رسالة يوحنا الأولى 1: 2)

هذا هو مسيحنا ”كلمة الله“، يضيف المسلمون على ذلك بقولهم أنه ”كلمة الله وروح منه“. فالمسيح ليس مجرد أقوال يحكمها تأويل بشر.

جاء المسيح يقدم ويعطي شخص الله الحي لي ولك وللسامرية و لكل بشر، طفلاً كان أو فيلسوفاً. الكل يستطيع أن يقبل شخص الله الحي في يسوع المسيح فتدخله حياة الله ويحيا إلي الأبد

وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.

(إنجيل يوحنا 17: 3)

إن لقاءنا بالله في كلمته هو لقاء بكامل شخص الله، غير منقوص. إن الله -تبارك اسمه- يقدم ويعطي ذاته في كلمته بالتمام ليقبله كل إنسان، للطفل كما للفيلسوف، لأنه لقاء شخص بشخص، وتظل أعماق كلمة الله لا منتهى لها. ينمو الإنسان إلى أعماقه حسب انفتاحه لنعمة روح الله وحسب سَعَة العقل والثقافة. فإن الله مُدرَك في المسيح ”كلمة الله“، ولكنه يظل لا يُدرَك.

خبأت ك في قلبي لكيلا أخطئ إليك.. لكل كمال رأيت حدا، أما وصيتك فواسعة جدا

(مزمور 119: 11، 96)

كلمة الله هو شخصٌ/ أقنوم، وليس حروفَ لغةَ كتابٍ نقدِّسه. فقد ظهر الله في الجسد وكانت كلمته مُسَطَّرة في سيرته. ثم كتبها تلاميذه مسوقين بالروح القدس في الإنجيل المقدس بوحي الروح القدس. إن حياة المسيح في الجسد هي التفسير الحي لقصد الله من كل كلمة في الكتاب المقدس. لذلك فإن الإيمان المسيحي بالله قبل أن يكون اعتقاداً ومعتقداً، فهو لقاء مستيكي/ غير منظور على مستوى قلب كل إنسان مع شخص المسيح ”كلمة الله“. وتلخيصا نقول: ”والكلمة كان الله“ (إنجيل يوحنا 1: 1)، لذلك فالمسيح هو كلمة الله. و يقول الوحي ”الله كلمنا في ابنه“. هذا معناه أن  كلام الله  هو كيان حي له روح وحياة هو شخص المسيح كما يشهد بذلك المسيح نفسه ”الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة“. فالإنجيل المقدس هو حضور للرب بشخصه. نلقاه ونتقدس به وتنشأ بواسطته علاقة وشركة حياة بين شخصه وبين شخص من يجلس ساهراً لكلمة الله في الإنجيل.

يكشف لنا قول السامرية للمسيح «أنا أعلم أن مسيا، الذي يقال له المسيح، يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء»، إن مفهوم الإنسان عن موقف الله الإيجابي منه قد ترسخ في أعماق كيانه أنثربولوجياً (أنثربولوجي = علم تاريخ الإنسان). وأن الله هو شخص حاضر يتعامل مع الإنسان في حياته كل يوم. لذلك نلاحظ نبرة التأكيد في قول السامرية عن المسيح أنه ”يأتي“ أي إن مجيئه حقيقة، في مقارنة مع ”سيأتي“ التي قد تحمل معني الرجاء أكثر من الحقيقة. فحضور المسيح وتدبيره لحياتنا كل يوم هو أكيد ونحن واثقين منه، أما عن توقيته ”متي يأتي“ فهذا يخصه وهو يكفله. وأدلة حضور شخص الله تملأ تاريخ علاقته بالإنسان:

– شخص الله و في الجنة.

– شخص الله وموسي في العليقة المشتعلة.

– شخص الله و شعب إسرائيل في خروجه من مصر.

وأخيراً شخص ”الله الذي ظهر في الجسد“.
وها هو الرب بشخصه مع السامرية «أنا الذي أكلمك هو».

لذلك فالكتاب المقدس يقول:

إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ.

(رسالة بولس إلى رومية 10: 17)

ليُعلِن حقيقة الإيمان المسيحي أنه إيمان بشخص وليس بكلام نظري في كتاب، بل العكس، فالإيمان هو بشخص الله وحضوره بيننا جسدياً في بيت لحم (المسيح التاريخي)، وروحياً في كتاب مقدس يحمل حضور الله في كلمته المكتوبة (المسيح الروحي).

إن ”الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله“ يُظهِر أن الإيمان المسيحي ليس غيبيات. فالخبر يختص بحدث واقع محسوس وليس غيبيات ”رأينا ونشهد ونخبركم“. والإنجيل كلمة الله هو حضور شخصي للمسيح وليس حروف ونظريات.

فالإيمان المسيحي ببساطة هو اللقاء بشخص المسيح كلمة الله الذي ظهر في الجسد. فهو إيمان بخبر حدث في ملء الزمان.

وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ.

(رسالة بولس إلى غلاطية 4: 4)

إنه الإيمان  بحدوث الخبر الذي انتظره الإنسان منذ خروجه من جنة عدن، أن نسل المرأة يسحق رأس الحية/ (سفر التكوين 3). هذا الخبر تعجب إشعياء النبي على الذين لم يؤمنوا به قائلاً :”يا رب مَن صدَّق خبرنا ولمَن أستُعلِنَت ذراع الرب“.

هذا الخبر هو عن شخص الرب الذي ”حل بيننا“ في بيت لحم (إنجيل يوحنا 1) الذي وجوده بيننا لا نهاية له أبدي: ”ها أنا معكم كل الأيام إلى أنقضاء الدهر“ (إنجيل متي28).

إن ”المسيح التاريخي“ الذي تجسد في بيت لحم لم ينفصل عنا أو يفارقنا بصعوده إلى السماء، لأنه هو ”المسيح الروحي“ الحاضر وسطنا في الإنجيل المقدس ”الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة (= شخص المسيح)“. فكتابنا ”الإنجيل“ معناه الخبر المفرح لأنه لقاء بشخص الرب.

يتضح مما تقدم أن الإيمان المسيحي هو التصاق بشخص هو المسيح ”كلمة الله“. نقطة ومن أول السطر.

وقد كانت أيقونة هذا الإيمان وروعته عندما كانت واقفة ”عند القبر باكراً، والظلام باقٍ… حيث كان جسد يسوع موضوعاً“ بعد أن تركه الحبيب والغريب. وكانت تطلب من ملاك القيامة إذ ظنته بستاني «يا سيد، إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته، وأنا آخذه» (إنجيل يوحنا 20). فهي تريد شخص المسيح الحي. لا فرق عندها إن كان جسداً تأخذه مِن قبرٍ ويعتقد الآخرون أنه مات، أو كان شخص المسيح الحي هو الكلمة المكتوبة في العهد الجديد ويعتقد آخرون أنها حروفاً بينما هي روح و حياة شخص يسوع المسيح ”كلمة الله“ نفسه.

والسُبح لله.

بقلم د. رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br>الإصحاح الرابع (٤)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br> الإصحاح الرابع (٦)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br> الإصحاح الرابع (٥) 1
[ + مقالات ]