المقال رقم 16 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا
إصحاح السامرية

قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!
آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ».

(إنجيل يوحنا 4: 19- 20)  

إن تعدد الأديان وصراعاتها هو تهديد يُنذِرُ بالخطر من لإيمان الإنسان بالله، هذا بالضبط ما حدث مع في لقائها بالرب يسوع المسيح، فالأديان وتعددها كانا أول أهتمامات السامرية بمجرد أن تحول وعيها عن اهتمامات العالم المادي إلى ما يختص بمصير الإنسان و روحه.

إن ضربة الشيطان العظمي لعلاقة الإنسان بالله كانت وستظل هي الأديان الرسمية وتناقضاتها، وقد شهد بذلك مفكرون في العالم وقالوا إن:

”الدين أفيون الشعوب“.

كارل

ونسمع الآن أيضاً شائعات عن ما يسمونه بالحكومة العالمية وأنها تسعى إلي القضاء على الأديان الرسمية في مؤسساتها وتجمعاتها.

لقد ابتَلي عدو الخير البشرية بتعدد أديانها ليشتت الإنسان واشتياقه إلى مصيره الإلهي في شخص الله الواحد، فبدأت الصراعات الدينية والله منها براء لأن حقيقتها هي صراعات الإنسان المنقسم على ذاته ”نحن وأنتم“ بغواية من الشيطان. والتاريخ يشهد أن معارك البشرية العظمى لا تخلو من واعز ديني وراءها.

فالمعتقدات الدينية صارت تنضوي على الكثير من الكذب والكراهية والقتل تحت غطاء مُخادِع مِن الانتساب لله.

وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِل مَمْلُوآنِ اخْتِطَافًا وَدَعَارَةً.
أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى! نَقِّ أَوَّلًا دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضًا نَقِيًّا.
وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ.
هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا.

(إنجيل متى 23: 25- 28)

إن الشيطان لا قدرة له على إلغاء تدبير الله من جهة مصير الإنسان لأنه تدبير يقوم على حب الله وهو الضامن له، وكل ما يستطيعه الشيطان هو الخداع، وتَعدُد الأديان كان وسيظل خديعة الشيطان الأولى وقد كان سبب أول سقوط للإنسان. لقد أغرق الشيطان البشر في مستنقع اللغة والحروف وتأويلات الإنسان المختلفة للنصوص المكتوبة ليحرمه لقاء شخص الله ونعيم الروح.

كان الإنسان يعيش في كنف الله في جنة عدن. لكن الشيطان/ الحية القديمة، صرف الإنسان عن العلاقة بالله والارتباط بشخصه، إلى الانشغال بالديانات المتعددة وما يقدمه القائمون عليها من تأويلات نصوص وحروف عن الله كفكرة وفلسفة. فبينما قال الله في لقاء شخصي مع «مِن جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها»، فإننا نجد الحية وبمعزل عن حضور شخص الرب تُغرِق آدم و بنصوص وحروف عن الله بعيداً عنه، وتدَّعي كذباً أن ما قاله الله لآدم وحواء ”ألّا يأكلا من كل شجر الجنة“.

ولا عجب أن خدعة تعدد الأديان وصراعاتها منذ خروج آدم من لدن الله كان وراءها الشيطان الذي وصفه الرب:

أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ.
وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي.

(إنجيل يوحنا 8: 44-45)

نعود للقاء المسيح بالسامرية

قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ.
أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ . لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ.
 وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ.
اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا».

(إنجيل يوحنا 4: 21- 24) 

هكذا أجاب الرب المرأة السامرية والبشرية في كل زمان ومكان لكيلا تسقط في خدعة تعدد الأديان. فقد أعلن ”أن الخلاص هو من اليهود“، ونفي ضرورة الارتباط بأورشليم اليهود أو بجبل جرزيم مركز عبادة السامريين. الرب بذلك قد استعلن حقه أنه فوق منظومة الأديان المتصارعة في الأرض بما فيها الكنيسة كمؤسسة زمانية يتحكم فيها رؤساء، حدث أن اختلفوا فيما بينهم بعيداً عن مسيحهم.

إن قول المسيح الإله ”إن الخلاص هو من اليهود“، وليس اليهودية بالضرورة، هو عودة بوعي الإنسان إلى شخص الرب نفسه متخطياً كل وسيط حتى لو كان المؤسسة الدينية نفسها.

إن مقولة ”الدين لله والوطن للجميع“ توضَّح أن الله هو الذي يقود سعي الإنسان إلى معرفته ويُعلِن ذاته للإنسان بدون تسلط ووساطة بشر لأن الدين لله ”إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ“. (إنجيل يوحنا 6: 45).

هكذا يقدِّم إله المسيحية ذاته -سبحانه- في استعلان شخصي لك وعلاقة مباشرة بك لا يتحكّم فيها أي بشر، منذ أن تبدأ وإلى مجيئه الأخير “لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ بِمُرَاقَبَةٍ… وَيَقُولُونَ لَكُمْ: هُوَذَا ههُنَا! أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ! لاَ تَذْهَبُوا وَلاَ تَتْبَعُوا، لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا ابْنُ الإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ”. (المسيح في يوم مجيئه الثاني). (إنجيل لوقا 17: 20، 23، 24). 

لهذا فإن المسيح والمسيحية لا تحمل السيف لتفرض سلطاناً لله أو لتدافع عنه. فالمسيح والإيمان به هو حياة في القلب مثل الجنين في بطن أمه، تشعر بحركته في أحشائها فيملأها باليقين مهما أنكر الناكرون.

قد يتساءل البعض عن قول الرب بخصوص معرفة الله الحقيقية ”أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم“. وما سند ذلك؟ لذلك استعلن الرب شاهدين يعرف بهما الإنسان حق الله:

شاهد خارجي : ”أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود“،  فلقد ترك الله شاهداً خارجياً و دليلاً مادياً في تاريخ الإنسان يرجع إليه

”وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ، عَالِمِينَ هذَا أَوَّلًا: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ. لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ“.

(رسالة بطرس الثانية1: 19- 21).

فلقد اختار الله أضعف جماعة علي الأرض وأقام منهم لنفسه شعباً مختاراً ليشهد لله وسط العالم هو شعب إسرائيل. إن تاريخهم كان هو حافظة البشرية لموروث الله مع الإنسان. فهم الذين كان لهم “وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ، وَلَهُمُ الآبَاءُ، وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ، الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلهًا مُبَارَكًا إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ”. (رومية9: 4-5). فكُتبُهم المقدسة كانت وستظل المرجع بلا مواربة.

شاهد داخلي: ”ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق“. في نفس الوقت فإن الله لا يترك الإنسان بلا شاهد داخلي هو عمل روح الله في القلب ليشهد للإله الحق، الذي لا يرفضه إلا معاند. فبه يتأكد الإنسان أن الله بشخصه هو الذي دعاه وليس بشر. هذا قد رأيناه في عمل الله مع شاول/ بولس عندما ظهر له في الطريق إلى دمشق ثم ذهابه إلى الجزيرة العربية حيث قضى ثلاث سنوات ونصف متعلما من روح الله لا إنسان. ولكن لا مانع بعد ذلك أن يرجع من العربية لمجمع الرسل ليشهد لهم بعمل الله فيه، الذي لا يستطيعه آخر إلا المسيح لأنه قيامةٌ من الموت.

وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ…

(غلاطية1: 11،12)

وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا، وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضًا إِلَى دِمَشْقَ.  ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ…

(غلاطية1: 15-18)

ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلًا.

(غلاطية2: 1-2)

والسبح لله
بقلم د. رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br>الإصحاح الرابع (٣)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br> الإصحاح الرابع (٥)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br>الإصحاح الرابع (٤) 1
[ + مقالات ]