المقال رقم 5 من 6 في سلسلة يهوة والشرق اﻷدنى
 ليست قصة نوح هي قصة الطوفان الأولى للبشرية، فهناك أكثر من أسطورة تسبقها بقرون عدّة لأن القدماء اعتادوا الفيضانات، بالأخص من سكنوا بجوار الأنهار. كرر الكتاب المقدس نفس التيمة المنتشرة والمعتادة في أدب  لكن من منظور ثوري جديد مناقض لثقافة عصره، وسيتناول هذا المقال واحدة من أشهر الأساطير عن الطوفان، وهي ملحمة أتراحاسيس.

كتبت الملحمة عام 2000 قبل الميلاد، في بلاد ما بين النهرين القديمة، وهناك نسخة كاملة لها تعود لما بين 1646–1626 ق.م (أي قبل كتابة التكوين بثلاثة قرون في الأقل، لو فرضنا أن موسى هو كاتب السفر) بخلاف أجزاء أخرى أقدم، قبل خلق البشر، حكم السماء، وحكم إنكي البحار، وحكمت أنليل الأرض. تلك هي الآلهة الكبرى التي طغت واستبدت بالآلهة الصغرى. احتملت الآلهة الصغرى المهام الشاقة، منها حفر نهر دجلة والفرات، وحين سئم الصغار من عملهم، أشعلوا النيران غضبًا. فاقترح أنليل خلق البشر لتحمل مهام الآلهة الصغرى.

ولكن لخلق البشر، يتعين التضحية بأحد الآلهة، فضحى الإله إيلو بنفسه، وخلطت الآلهة الأم دمه بالطين، وتفلت على الطين، وشكلت الأم البشر من الطين. استمتعت الآلهة الصغيرة بأوقات فراغها، ولكن مع مرور الوقت، ازداد عدد السكان من البشر وأصبحوا مزعجين للغاية، مما أزعج الآلهة بشكل كبير. ولم يستطع أنليل النوم، لذا، أرسل الجفاف لتدمير البشر. ولكنه لم ينجح.  ثم أرسل المجاعة، وفشل مجددًا؛ فقد تغلب البشر وقاوموا، وازداد عددهم مع الوقت، لذا، قرر أنليل إرسال طوفان عظيم لتدمير البشر.

وكان أتراحاسيس هو الأكثر حكمة بين البشر، ويعني اسمه الرجل الحكيم. ذهب الإله إنكي خُلْسَة وظهر لأتراحاسيس في رؤية محذرًا إياه من الخطر القادم. أخبره عن الفيضان وأمره ببناء فلك ينقذ حياته. جمع أتراحاسيس مع الشيوخ المواد وبدأوا في بناء الفلك الكبير. كان يأخذ عائلته معه وكذلك العديد من الحيوانات، لكنه كان حزينا بسبب الدمار الوشيك.

دخل أتراحاسيس الفلك، وأغلقت الآلهة الباب، ثم نزل الطوفان الذي كان مرعبًا حتى إن الآلهة نفسها خافت وذعرت من هذه الكارثة العظيمة. واستمر الطوفان سبعة أيام وسبع ليال.

وَالدَّاخِلاَتُ دَخَلَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ، كَمَا أَمَرَهُ اللهُ. وَأَغْلَقَ الرَّبُّ عَلَيْهِ.

(تكوين 7: 16)

لأَنِّي بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَيْضًا أُمْطِرُ عَلَى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَأَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ كُلَّ قَائِمٍ عَمِلْتُهُ».

(تكوين 7: 4)

وعندما هدأت العاصفة، تم القضاء على جميع البشر. لكن الآلهة جاعت وندمت؛ لأن البشر كانوا يقدمون التضحيات لها، وكانوا يزرعون الأرض! تكتشف الآلهة أن أتراحاسيس قد نجا. يقدم التضحيات للآلهة شكرا على النجاة. تشم الآلهة رائحة الأضحية اللذيذة، فتنزل على الفور لتأكل، ويتحول حزنها على هلاك البشر لفرح بالطعام.

فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا. وَقَالَ الرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: «لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسَانِ، لأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ. وَلاَ أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ».

(تكوين 8: 21)

غضب أنليل من إفشاء إنكي للسر وإخبار أتراحاسيس، لكن إنكي شرح له أهمية إبقاء البشر أحياء، وفي نهاية الأمر، اصطلح الإلهين على إبرام عقدًا بتقليل الضوضاء التي تنتج عن البشر بإدخال الموت إلى العالم حتى يقل عددهم تلقائيًا بلا كوارث، وجعلا ثلث النساء عواقر، وأدخلا الأمراض على الأطفال حتى يموت بعضهم. وخلقا أيضًا الكهنة والكاهنات في حالة عزوف تام عن الزواج حتى يقل التكاثر.

فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ. وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً».

(تكوين 6: 3)

نلاحظ أن قصة التكوين مقتبسة من الأسطورة بشكل واضح، بالتالي، هي ليست قصة تاريخية على الإطلاق. يمكننا أن نستنتج أن كاتب التكوين قد اقتبس الأسطورة لتجديد فكرها؛ فبعد أن كان السبب الأساسي لإهلاك البشر هو كثرة العدد والضوضاء، ورغبة الآلهة في الاستفراد بالأرض، أصبح السبب هو فساد البشر الأخلاقي، ورغبة في القضاء على ظلم البشر لبعضهم البعض وتحقيق العدالة. يفعل يهوه مثل الأسطورة لكنه يمهل البشر وقتًا ليتوبوا، وحين يزداد الشر، يقصر أعمارهم لتصبح 120 سنة. من الجدير بالذكر أن أعمار البشر في الكتاب المقدس لا تتفق مع أرض الواقع قديمًا؛ فالإنسان القديم في غياب الطب كان متوسط عمره سبعون عامًا على أقصى تقدير قبل بقرون قليلة، وفقًا لقاموس السيرة الذاتية للدوائر. لذا، لا تعتقد أن البشر عاشوا مئات السنين تصل إلى تسعمائة سنة. هذا أمر مشكوك فيه إلى حد بعيد.

لا يكره يهوه كثرة عدد البشر، بل يشجعهم على ملء الأرض.

وَبَارَكَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ.

(تكوين 9: 1).

يختلف رد فعل يهوه إزاء الطوفان مع ردود أفعال الآلهة؛ فهو لا يخاف مثلهم، ولا يندهش من نجاة نوح مثلما دهشوا من نجاة أتراحسيس، ولا يجوع أو يتَحَيَّرَ في زراعة الأرض بعد فناء البشر، بل يشعر القارئ في أثناء قراءة التكوين، أن كل شيء محسوب مسبقًا بدقة.

فَأَتَتْ إِلَيْهِ الْحَمَامَةُ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَإِذَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ فِي فَمِهَا. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ.

(تكوين 8: 11)

لذا، فأسطورة التكوين هي الأنضج، والأرقى إنسانيًا. وقد كتبت لطمأنه البشر لا لإرهابهم مثلما يستخدمها بعض المسيحيون بمنتهى الجهل حاليًا؛ فهي كُتبت لبشر على علم كامل بالأساطير السابقة التي كانت جزءًا من تراثهم. كانت تلك القصص هي محاولات لفهم ما يحدث من حولهم من فيضانات متكررة. تخيل نفسك واحدًا من هؤلاء البشر القدماء الذين تربوا على تلك الأساطير المرعبة، ماذا سيكون رد فعلك حين تطلع على المنظور اليهودي؟

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: يهوة والشرق اﻷدنى[الجزء السابق] 🠼 [٤] أساطير الخلق[الجزء التالي] 🠼 [٦] من إيل إلى يهوه
[٥] أساطير الطوفان 1
[ + مقالات ]