المقال رقم 3 من 6 في سلسلة يهوة والشرق اﻷدنى
تقوم العديد من الدراسات الأثرية والتاريخية للعهد القديم على مقارنته بتاريخ شعوب  القديم، ويرى العديد من العلماء أن التوحيد كان تطورًا طبيعيًا انبثق من الديانات الوثنية لكثرة التشابهات بين ديانة  والأديان القديمة. ويبدو للبعض أن ديانة يهوه لم تقدم شيئا جديدًا؛ فكل هذه الأديان لها قصص خلق مشابهة لقصة جنة عدن، وقصص طوفان، وقوانين أخلاقية، وشرائع تلزم المتعبدين بتقديم الذبائح. فما المختلف إذن؟ أو دعنا نصيغ السؤال بطريقة أخرى: بما أن تلك القصص والذبائح ليست بجديدة، فما هو الجديد الذي أعطاه يهوه للشعب؟

يجيب عن هذا السؤال (1889 – 1963)، وعلى عكس كثير من الشراح، يرى أن ديانة يهوه ليست تطورا أو امتدادًا للديانات القديمة، لأنها تقوم على رؤية كونية مغايرة تمامًا، بل ”ثورية” إلى حد بعيد، حسب وصفه في كتابه “ديانة إسرائيل”. فكوفمان  قد بدل المفهوم التطوري (Evolutionary) للتوحيد بالمفهوم الثوري (Revolutionary) معتبرا القراءة التي تنفي وجود ثورة روحية ومجتمعية في العهد القديم قراءة بليدة وسطحية مشيرًا إلى أن نص يهوه، هو فعلًا، وليد لأساطير الشرق الأدنى، لكنه استعملها كأداة للتغيير؛ لأن النص قد أبقى على شكل الأسطورة (Form) لكنه أحدث ثورة في محتواها (Content)!

ربما، يعد وصف العهد القديم بالنص الثوري غريبًا علينا. فقد اعتدنا رؤية العهد القديم على إنه نص شديد التحفظ وال؛ فبالمقارنة مع العهد الجديد، على سبيل المثال، يبدو العهد القديم بعيدًا كل البعد عن الثورية وكسر التقاليد المجتمعية انتصارًا للإنسان. لكن أطروحة كوفمان تثبت أن ديانة يهوه كانت ثورية كما كان يسوع ثوريًا في زمنه.

يبدأ كوفمان في سرد الاختلافات بين ديانة يهوه التوحيدية وبين الوثنية مشيرًا إلى أن كل الأديان السابقة لليهودية قامت على فكرة وجود العالم المتجاوز للآلهة (Meta-Divine Realm) الذي تخضع له الآلهة باعتباره عالمها الفوقي، ففي بعض الأساطير القديمة، نجد الإله يخضع لسلطات أعلى منه كالقدر، أو المياه، أو الدَّم، أو النار، على سبيل المثال. فآلهه الشرق الأدنى محدودة، ولا تحيط بذلك العالم الفوقي كليا. تنبثق الآلهة من ذلك العالم المتجاوز لها، وتعاني، وتتصارع، وتموت، وربما يعاد بعثها من جديد. وفي الدين الوثني غالبًا ما يكون هناك مزج وتداخل بين العالمين الإلهي والإنساني والعالم الطبيعي لأنهم قد ظهروا جميعًا في نهاية المطاف من العالم الأعلى. ويمكن للبشر الدخول إلى ذلك العالم الفوقي والتحايل على الآلهة أو تغيير إرادتهم عن طريق السحر.

يوضح كوفمان أنه من المهم أيضًا أن نفهم أن الديانة الوثنية هي نظام من الطقوس؛ لأنها تنطوي على الاهتمام الشديد بالمواد التي يمكن التلاعب بها لاعتقاد البشر أن بها قوة كامنة، مثل الدَّم، ولحم الحيوانات، ولحم الإنسان، والمعادن الثمينة، وما إلى ذلك. فتلك المواد بها من القوة ما يمكنه تغيير إرادة الإله وقلب موازيين العالم كليا! والاهتمام بالطقوس والمادة كان لابد له أن ينعكس على ديانة يهوه؛ فعلى الرغم من ثورية اليهودية، لم تتجاهل هذا الهوس الشديد بالطقوس الذي كان جزءًا من الثقافة في ذلك الوقت.

وبما أن الأشياء تخرج جميعها من ذلك العالم الفوقي بخيرها وشرها؛ فالوثنية محايدة أخلاقيا. يمكن للآلهة أن تكون خيرة تريد صلاح البشر أو فاسدة تتلذذ بشقائهم. أما البشر، فهم دائمًا معذبون بين الصراع الأبدي للآلهة الخيرة والآلهة الشريرة، ولا يملكون القدرة على تقرير مصائرهم؛ لأن الشر جزء أساسي في الكون.

مسألة الخلاص من الشر أمر يعني البشر فقط، ولا يشغل آلهة الشرق الأدنى؛ فالآلهة الخيرة بالكاد تحاول النجاة من قوى الشر؛ لذلك، على الإنسان اللجوء للسحر واستعمال مواد القوى السابق ذكرها للنجاة بنفسه. وبما أن الآلهة الخيرة محدودة، فالخير أو الأخلاق تتحدد وفق ما يحبه الإله المحدود -أي إن المطلق غير موجود.

ثم أن ردة أفعال الآلهة لا يمكن التنبؤ بها؛ ففي بعض الأحيان يغضب الإله وفي أحيان أخرى، يرضى عن الإنسان. ثم أن غاية الخلق في الوثنية هي خدمة الإله؛ فالإله يخلق البشر ليخدمنه ويوفروا له احتياجاته المادية، ويحاربوا عنه وقت هجوم القوى الأخرى عليه.

لكن اليهودية، قدمت إلها غير منبثق من أي عوالم فوقية، موجود بالطبيعة، لا يشيخ أو يموت مثل الآلهة الأخرى. فلأول مرة، وفقا لكوفمان، يلتقي البشر مع إله كلي السلطان، ذو شخصية واضحة. كما أزالت اليهودية المزج بين الإله، والإنسان، والطبيعة، ولم يعد هناك أي التباس حول الاختلاف بينهم. ولم تعد هناك حاجة لاستخدام السحر للدخول إلى عالم القوة.

تتعامل اليهودية مع الشر باعتباره غير مخلوق، وإنما يوجد نتيجة غياب الخير، لأن يهوه أعطى البشر الحرية ليفعلوا الخير أو لا يفعلونه. أما عن الصفات الأخلاقية ليهوه، فالنص لأول مرة يقدم إلهًا غير محايد أخلاقيا، بل مطلق الصلاح، وفي الوقت نفسه مصدر كل الوجود، وغير قادر على فعل الشر لأنه يناقض طبيعته. بالتالي، يقول كوفمان، أن جرد الشر والخطيئة من ذلك الطابع الأسطوري (Demythologized)، بتقديم وجه نظر عقلانية (Rationalized)، ترجع الشر إلى اختيار البشر أنفسهم. لكن النص كذلك قد زاد قضية الشر والألم تعقيدًا؛ فتلك الرؤية الطفولية القديمة التي تصور الأمر بلعبة بين القوى الشريرة والقوى الخيرة الشبيهة بأفلام أفنجرز كانت مريحة بالنسبة للبشر إلى حد بعيد، أما الآن، فالخطيئة لم تعد خارقة للطبيعة.

وعلى عكس الآلهة القديمة، نجد يهوه يهتم بخلاص البشر، وبراحتهم أيضا في العالم، ويسعى لتوفير ما يطلبونه. ويوضح كوفمان، أن هذه الصفات الإلهية تعد شديدة الثورية في وقتها؛ فالإنسان لم يعد جديرًا بأن يخدمه الإله في الديانات القديمة، بالتالي، يمكننا أن نقول إن حركة الانتصار للإنسان (Humanism) قد بدأت من النص اليهودي. ثم أن يهوه لا يغضب على البشر بلا سبب كما كان الآلهة في الأساطير يفعلون، بل يغضب فقط إذا ارتكبوا الشرور.

الاكتشفات الأثرية منذ نحو قرن تدل على وجود كثير من الأمور المشتركة بين الصفحات الأولى من سفر التكوين، وبين بعض النصوص الغنائية والحكمية والليتروجية الخاصة بسومر وبابل وطيبة وأوغاريت

(مقدمة الكتاب المقدس الطبعة اليسوعية)

ورغم تلك الثورة اللاهوتية، لم يكن الانتقال من عبادة الآلهة المتعددة إلى عبادة يهوه سهلا. فعلماء الآثار، قد وجدوا أدلة متعددة أن الكثير من اليهود عبدوا يهوه وأشركوا به آلهة أخرى. حتى أننا نجد أيضا بعض المتأثرة بالأساطير والديانات القديمة تصور يهوه باعتباره رئيسًا للآلهة المتعددة أو ملكها.

لأن الرب إله عظيم ملك كبير على كل الآلهة.

(مزمور 95: 3)

سيتناول المقال المقبل قصص الخلق كتطبيق عملي على نظرية كوفمان.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: يهوة والشرق اﻷدنى[الجزء السابق] 🠼 [٢] متى كُتب التكوين؟[الجزء التالي] 🠼 [٤] أساطير الخلق
[٣] ثورة النص 1
[ + مقالات ]