“مُنذ تسعة عشر جيلاً والبشر يعبدون الضعف في شخص يسوع، ويسوع كان قوياً ولكنّهم لا يفهمون معنى القوّة الحقيقيّة”
مع اقتراب حلول أسبوع الآلام الخلاصية المعروف شعبيًا بأسبوع الآلام، أتحسس مسدسي! يرى أبناء جبلتي المسيح مصلوبًا، مهانًا، ضعيفًا، وربما لا يتذكرون أو لعلهم يستمتعون بتهميش قوة ذاك المنتصر، القائم بمجد أخذًا جسدنا إلى أعلى السماوات! هذا المنتصر، صاهر أبواب الجحيم، وساحق المتاريس النحاس، قد يبدو مَهيبًا لمن أدمن ذل النفس ويخجل من تعرية ضعفاته مع السيد على صليب الجُلجُلة والقيام فيه منتصرًا.
يستعد مسيحيو مصر لأسبوع الآلام المحيية بحرص وتبجيل، وإن اقتصر الأمر على الذَّهاب للصلوات الليتورجيا دون محبة للآخرين أو تحضير ملابس سوداء مناسبة للأجواء!
لكن ماذا ينقصنا؟
ينقصنا أن نشعر من داخلنا بالحرية، ما مات عنه مسيحنا، مسيح العالم كله، موت فدائي لتخليص البشر من ذاتهم الأنانية المزيفة ويتيح لها كرامة البنين المحمولين ليس على الكتف بل في قلبه.
ينقصنا أن نشعر بقوته في كل ترديد لتسبحة البصخة ونحن نرسم صليبه، أكثر علامات الإذلال والضعف، ونحن نسبحه ونعلنه ملكنا القدوس، من له القوة والمجد والكرامة والسلطان.
“لم يجيء يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمزاً للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزاً للحق والحريّة”
(جبران خليل جبران، كتاب العواصف)
لعله في مكان ما من لاوعينا الجمعي نعلم تلك الحقيقة التي نادى بها جبران، ولكن، ما سمعناه مرارًا وتكرارًا، ما رددوه في قطعان التربية الكنسية جعلنا ننسى. كانت أكبر أكذوبة سمعتها في سنوات مراهقتي هي واحدة من أقدس كلمات المسيح وهي تُلوى وتُستغل في غير موضعها. تقول الأكذوبة أن السيد المسيح أتى ليُعاني ويُعاني فقط “عنا”. المصطلح الذي تكرر داخل جدران مدارس الأحد لأكثر من ٤٠ عاما كاملة ولكن هذا ليس مكانه مناقشة “البدلية العقابية”، أو بعضا من أفكار أغسطينوس، وتوما الإكويني ولماذا يرفضها تعليم آباء الشرق.
تُدلل الأكذوبة على صدق نواياها بواسطة استخدام العبارة الرابعة للمسيح على الصليب: “إلهي، إلهي… لمَ تركتني؟“ لكن كيف ردد المسيح كلمات مزمور ٢٢ من مزامير داود النبي؟ هل رددها كبائس يتوسل العفو؟ أم كجبار أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة؟
بين جثسيماني والإقرانيون، فقط بضع ساعات؛ ساعات من ليل النفس المظلم، ساعات الترك والوحدة الرهيبة. في جثسيماني، يصرخ “يسوع” كي تعبر عنه الكأس، παρένεγκε باليونانية (take away). ونحو الساعة التاسعة يصرخ كذلك ἀνεβόησεν التي تعني (cried out) بأكثر صوت ألمًا في الوجود، ألمًا مشابه لذاك الذي تجتازه نفسي في ليل الحياة الحالك:
“Eloi Eloi lama sabachthani?” – “ Ἠλί, Ἠλί, λεμὰ σαβαχθανί.”
which is, ‘ My God, my God, why have you forsaken me? '(Matthew 27:46)
“ Eloi Eloi lama sabachthani? ”
(Mark 15:34)
كان أول ذكر ل “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” في مزمور ٢٢ لداود النبي قائلًا: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني، بعيدًا عن خلاصي، عن كلام زفيري”
لم يكن عجيبًا أن يبدأ “يسوع” في الدهش وحَزن الموت في جثسيماني، ألم يُعرى آدم ويُطرد من بستان عدن تاركًا للبشرية ألم السقوط؟
في جثسيماني، قرر “يسوع” حَمل عارنا وتحمل كُلفة حماية أرواحنا للأبد. في سلطان ظلمتهم (لو٢٢: ٥٣) صلبوا نور العالم (يو ٨: ١٢) وارتضى “هو” بكامل إرادته أن يُقطع من أرض الأحياء (أش٥٣: ٨). ومن وقت الساعة السادسة حتى وقت الساعة التاسعة (١٢ ظهرا إلى ٣ مساء) كانت ظلمة على الأرض كلها، ما أن أوثقوا رُبط هيكل جسده (الهيكل الجديد) انحل الهيكل القديم وشُق من وسطه، متروك لهم خرابًا.
كانت الظلمة الخارجية مُكافئ للظلمة الداخلية التي ذاقها المسيح على الصليب، ظُلمة إخلاء ذاته عن المجد الذي كان له قبل كون العالمين، الإخلاء الذي قبله في جسده الملموس، وهو النور الحقيقي الذي لا تستطيع ظُلمة أن تقهره! الإخلاء لا يُفهم أبدًا على مستوى الجوهر والطبيعة واللاهوت مُطلقًا، لكن يُمكن فهمه على مستوى زمني من ذاك الذي تخلى عن مجده زمنًا.
لكن ما تلك الصرخة؟
لا ننكر حالة التخلي التي حدثت للمسيح هُنا، ولكن أي نوع من التخلي؟ إنّه الترك، لا حجب الآب وجهه عنه كما قال بعض المفسرين، ولا ترك اللاهوت له ليعاني الآلام، كما اعتقد البعض، وهو رأي الهرطقة النسطوريّة.
نؤمن أن الكلمة المتجسد هو إنسان كامل كما نعلم أنّه إله كامل، ولم تنتقص أي من طبيعتيه من الأخرى. وحالة الترك هُنا هي أن يُترك ليُسلَّم ويصلب ويتألم ويحمل خطايا البشريّة ليموت. إنه شعور من يعرف النهاية، لكن لحظة التنفيذ هذه صعبة على النفس البشريّة، النفس الذي ارتضى أن يأخذها بالكامل ليُلبسننا بره. المسيح هُنا يتحدث لا بلسانه كالابن الوحيد، ولا بلسان حال إنسانيّته، بل بلسان البشريّة كلها، نحن من خرجنا من معيّة الآب، يصرخ يسوع بلساننا طالبًا عودة وجه الآب علينا، وإحاطته برحمة إلهيّة بنا.
”نفهم بوضوح قوله لماذا تركتني حين نقارنه مع المجد الذي للمسيح عند الآب بالاحتقار الذي كابده على الصليب، ذاك الذي عرشه كان الشمس ومثل القمر يكون للأبد ثابتًا وشاهدًا“
(العلَّامة أوريجانوس، Ancient Christian Commentary on Scripture NT 1b)
(Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 2002, Page 294)
“وظهر في التعبير “إلهي إلهي لماذا تركتني؟” أنَّه لم يكن هو الذي تُرك سواء من الآب أو من لاهوته كما ذكر البعض، كما لو أنَّه كان خائفًا من الألم… ولكن كما قلت كان في شخصه ممثلًا لنا، لأنّنا نحن الذين كنا متروكين ومحتقرين من قبل ولكن الآن ارتفعنا ونجينا بمعاناة ذاك [المسيح] الذي كان يمكن ألا يعاني [يتألم] فقد جعل عصياننا وخطأنا خاص به هو”
(غريغوريوس النيزنزيّ، On The Son: 4: 1)
“إلهي إلهي لماذا تركتني؟ هي من عبارات التشديد والعون، ف”إنَّ الذي لم يعرف الخطية جعله خطيئة لنا“. و”صار لعنة لأجلنا” (غلا 13: 3). و”يخضع الابن نفسه للذي أُخضِعَ له كلّ شيء” (1كو 28: 15). الحق أنّ الآب لم يترك ابنه قط لا من حيث هو إله، ولا من حيث هو إنسان. ولم يكن الابن قط خطيئة ولا لعنة، ولم يكن بحاجة أن يخضع للآب. فمن حيث هو إله، وهو مساو للآب وهو ليس معاديًا له ومن حيث هو إنسان، فلم يكن قط مقاومًا لأبيه كي يضطر إلى تقديم الخضوع له. وإنَّما قال هذا لإنَّه أختصّ بشخصنا وجعل ذاته بمستوانا، لأنَّنا كُنَّا خاضعين للخطية واللعنة. ولذلك كُنَّا متروكين”
(يوحنا الدمشقي، المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ، مقالة 91)
“أما قول المسيح: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟” فمعناه أن المسيح أختص شخصيًا، فإنَّ الآب لا يكون إلهه إلَّا إذا فصل العقل بتصوُّرات دقيقة بين ما يرى وما يعقل جاعلًا المسيح معنا في صفنا دون أن يفصله البتة عن لاهوته الخاص، لكننا كُنَّا نحن المهملين والمنسيين، حتّى أنّه وقد أختص شخصنا صلى الصلاة المذكورة”
(يوحنا الدمشقي، المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ، 205)
“إذا أعتبرنا أن الابن الوحيد تأنس، فهذا الاعتبار هو الذي يجعلنا نفهم لماذا صدرت عنه هذه الكلمات، لأنه صار كواحد منا ونائب عن كلّ الإنسانية، وقال هذه الكلمات لأنّ الإنسان الأوَّل تعدى وسقط في عدم الطاعة ولم يسمع الوصية التي أعطيت له وإنما تعداها بمكر التنين، فصار أسيرًا للتعدي ولذلك بكلّ حقّ أُخضِعَ للفساد والموت. ولكن الابن صار البداية الجديدة على الأرض ودعيَّ آدم الثاني. وكان الابن الوحيد يقول: “أنت ترى فيَّ أنا الجنس البشريّ وقد وصل إلى عدم الخطأ وقدوس وطاهر” فأعطه الآن البشارة المفرحة الخاصّة بتعطفك وأزل تخليك، وأنتهر الفساد وليصل غضبك إلى نهايته. لقد غلبت الشيطان نفسه الذي نجح قديمًا ولكنه لم يجد فيَّ شيئًا يخصَّه. هذه معاني كلمات المخلِّص التي كان يستدعي بها تعطُّف الآب، ليس عليه هو، بل على الجنس البشريّ الذي كان يمثله”
(كيرلس السكندريّ، المسيح واحد 78)
الشكر كل الشكر والمجد والسلطان والعزة والبركة لمن رفع بصليبه بشريتنا، من بصليبه انهبط الجحيم وبطل الموت، من داس المعصرة وحده، من قام ناقضًا أوجاع الموت إذ لم يكن ممكنًا أن يُمسك منه.
“ولو عَقُل البشر لوقفوا اليوم فرحين مُتهللين مُنشدين أهازيج الغلبة والانتصار”
(جبران خليل جبران، كتاب العواصف)
[*] أمجد بشارة، !تفسير إلهي إلهي لماذا تركتني؟
[**] اﻷب متى المسكين، مع المسيح في آلامه حتى الصليب
[***] جبران خليل جبران، العواصف
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟