المقال رقم 14 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

أجاب يسوع وقال لها: «لو كنت تعلمين عطية الله، ومَن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حياً».
(إنجيل يوحنا ٤  : ١٠)

ذكرنا في مقالاتٍ سابقة أن معرفة الإنسان لله وتَعَرُّفه على الإله الحق هو عطية الله بالدرجة الأولي للإنسان، لأن الله أعلي من قدرة العقل البشري أن يعرفه. وأن الله هو الذي يُعلِن ذاته للإنسان – علي سبيل النعمة – بواسطة عِلاقة مع الإنسان فيعرف الله الذي هو فوق وأعلى من المعرفة العقلية ”الة Gnosticism“. و كان أول مثال لذلك عندما خلق الرب الإله و وأنعم عليهما أن يعيشا بالقرب منه في شركة حياة معه في جنة عدن علي الأرض، بهدف الوصول بالاختيار الحر إلي حالة الاتحاد بالله فيتحقق خلود الإنسان، وينال الحياة الأبدية ودخول ملكوت الله في السموات.

إن عطية الله للإنسان  هي دائماً حاضرة تنتظر قَبُول الإنسان. و لقاء المسيح مع السامرية يوضح أن قَبُول شخص المسيح  ليس معضلة تحتاج طاقات بشرية فائقة لأن الإيمان بالله هو ببساطة دعوة منه ”يا أبني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي“ (أم ٢٣: ٢٦). وقَبُول الإنسان وإيمانه بالرب هو عمل الخالق وحده لأنه فعل قيامة وانتقال من موتٍ إلي حياة ”إِذًا لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئًا وَلاَ السَّاقِي، بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي.“ (١ كو ٣: ٧). فإن عمل خادم الرب (الغارس) في توصيل بذرة الإيمان، ومجهود المخدوم (الساقي) في عنايته بها ليس مُنشِئ للحياة ولكنه كاشف لنعمة الله بقيامة الإنسان من موت الخطية المُعلَنَة في نمو السيرة والمسيرة الروحية.

١١ قالت له المرأة: «يا سيد، لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحي؟ ١٢ ألعلك أعظم من أبينا يعقوب، الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟».
(إنجيل يوحنا ٤  : ١١ – ١٢)

لقد طرحت تساؤلاً يراود الإنسان علي مدى تاريخه منذ خروجه من شركة الحياة مع الله في جنة عدن و بسبب غربته التي طالت حتي صارت الأرض- وليس جنة عدن -هي الفردوس  في نظر الإنسان. ببساطة فإن السامرية أجابت دعوة الرب لها بتساؤل مفاده : ماذا ستعطيني أنت ولم يستطع العالم أن يعطيني إياه؟!

إنه تساؤل مشروع رغم أنه مزعوم كما سنري !

فلقد عقدت المرأة مقارنة صريحة بين عطية الله في المسيح، وبين ما يتمتع به الإنسان من خيرات مادية ملموسة في حياته علي الأرض أستطاع من خلالها الوصول بالقدرات والإمكانيات البشرية في العالم الحاضر إلي ما يفوق الخيال. وربما هذه المقارنة تبدو للوهلة الأولي أنها ستُنهِي تلك المنافسة المزعومة في صالح العالم الحاضر وليس الرجاء فيما يقدمه المسيح !!.

ولكن العجيب في الأمر أن الرب يسوع المسيح قد أجاب في موضعٍ آخر بما لا يتعارض مع هذا التساؤل بل ربما يوافقه، إذ قال له المجد ”لأن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم“ (لو ١٦: ٨). فالمسيحية ليست انقلاباً علي حياة الإنسان الحاضرة أو دعوة للخروج من العالم الحاضر وتكفيره بحجة أنه شرير ”نَعلَمُ أننا نَحنُ مِن الله، والعالَمَ كُلَّهُ قد وُضِعَ فِي الشرِّير“ (١ يو ٥: ١٩). إن الله لا يخلق الشر لأنه – سبحانه – ليس فيه شر. وقد جعل آدم كاهناً ومسئولاً عن الخليقة في الأرض. ولَما سقط آدم و خضع للشيطان، تبعته الخليقة لأنها مرتبطة به، فصار العالم في قبضة الشرير.

وتجدر الإشارة إلي أنه و بالرغم أن الفردوس كان جزءاً من الأرض و تميز بخلوه من الشرور، إلا أن هذا لم يحمي أو يمنع الإنسان من أختيار الشر حينئذ، لأن الإنسان مخلوق حر الإرادة. و بالِمثل فإن تسلل الشر و الشرير إلي العالم لا يُحتِّم ولا يُجبِر الإنسان علي أختيار الشر” أنت بِلاَ عُذرٍ أيها الإنسان“ (رو ٢: ١).  وقد كان الذي أختُطِفَ إلي السماء مثالاً لذلك ”وَسَارَ أَخنُوخُ مَعَ الله، وَلَم يُوجَد لأَن اللهَ أخَذَهُ“ (تك ٥: ٢٤). ”ولكِن لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزمَانِ أَرسَلَ اللهُ ابنَهُ مَولُودًا مِنِ امرَأَة“ (غل ٤: ٤) ليُنهي هذا الوضع الغريب والشاذ للإنسان المخلوق أصلاً للخلود والحياة الأبدية، وأنتصر الرب لأجلنا – كإنسان – علي وقال الرب بلسان كل إنسان : ”رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شئ“ (يو ١٤: ٣٠). هذه النصرة  أستعلنها الرب لنا وأعطانا إياها سلاحاً في حياتنا علي الأرض عندما هزم الشيطان الذي جاء يجرب الرب يسوع المسيح علي الجبل (أنجيل متى ٤). إن تدبير الرب لخلاص الإنسان الذي أكتمل بالتجسد الإلهي قد همَّش وقيَّد الشيطان كرئيسٍ لهذا العالم ”فقبض على التنين، الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة “(رؤ ٢٠: ٢). وإلي أن يأتي المنتهَي وتصير الأرض للرب ومسيحه بمجيئه الثاني. هذه الألف سنة رمزياً هي ”الملك الألفي للمسيح“ تعيشها الكنيسة ومؤمنوها الآن في هذا العالم الحاضر وخيرات الرب فيه منتظرين مجيئه وليسوا تحت عبودية الشيطان، بالرغْم من انه أستمر في خداع البشر لكي يستخدموا خيرات الله علي الأرض في الشر، كما سبق وخدع أبوينا بالاستخدام الخاطئ لعطايا الله الخيّرة في الفردوس.

١٣ أجاب يسوع وقال لها: «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً.١٤ ولكن مَن يشرب مِن الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية ».١٥ قالت له المرأة: «يا سيد أعطني هذا الماء، لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي ».
(إنجيل يوحنا ٤  : ١٣ – ١٥)

إن إجابة المسيح علي تساؤل السامرية لا تحمل أي دعوة لانفصام أو تناقض أو عداوة داخل الإنسان بين أيمانه و حياة الشركة في المسيح مِن جهة، وبين متطلبات حياته اليومية وسعادته في دنياه مِن جهةٍ أخري. فالرب لم يثنيها عن عزمها أن تملأ جرتها ماءً من البئر لتستقي. إن قصد الرب كان واضحاً وصريحاً وهو عودة وعي الإنسان لحقيقة مصيره أنه ليس محصوراً في الأرض بل هو أيضاً ممتدٌ إلي ملكوت الله في السموات.

فبينما انشغلت السامرية بالمقارنة بين العطايا ”من أين لك الماء الحي؟ ألعلك أعظم من أبينا يعقوب، الذي أعطانا البئر؟ “، فإن الرب أيقظ وعيها لِمَا وراء العطايا من حيث دوامها وثبات طبيعتها. لقد دخل الرب إلي العمق ”نهايةُ أَمْرٍ خيرٌ مِن بدايته“ (جا ٧: ٨) و وجَّه المقارنة لتكون عن مصير الأمور، لأن معرفة النهاية يكشف لنا الحقيقة التي قد تكون خافية في البداية.

كان حديث الرب عن الماء أنه يروي عطش الإنسان وإلا هلك بانقطاعه. وأن الماء الذي يَفرَغ فإنه يحمل عدم جدواه فيه لأنه مِثل عدمه إذ أنه ينتهي بالعطش والفناء و العَدَم : «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا». والعكس صحيح، فضمان الحياة وحفظها من الفَنَاء يوفره يَنبوع لا تنقطع الماء فيه إلي الأبد : «ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية».

هنا بدأ وعي المرأة يستيقظ … فسقط بعض صدودها في الحُوَار عندما انتبهت إلى الفرق بين المتغير الذي يفنى وبين غير المتغير الذي يبقى خالداً. كان  دخولاً للسامرية إلي العمق رغم أن البدايات حيث الحكمة  لم تتجاوز بَعد المصير المرتبط بالأرض ”قالت له المرأة : «يا سيد أعطني هذا الماء، لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي»“.

إن طِلبة السامرية (يوحنا ٤  :  ١٥) نكررها كثيراً خلال مسيرتنا مع الرب. وهذا لا مانع منه وهو جيد. فنحن نقصد الطب للعلاج رغم أننا نطلب الشفاء من الرب. ونجتهد في التحصيل الدراسي لننجح ولكننا لا نتوقف أن نطلب من الرب التوفيق في الامتحان …إلخ. فلا ينبغي أن نقلل من شأن إيماننا بالرب عندما نقصده طالبين خيره المادي هنا علي الأرض فهو كثير” و أوصي الربُ الإله آدمَ قائلاً «من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً»“ (تك ٢: ١٦). إن خيرات وعطايا الأرض هي قبسٌ من خيرات  الرب في السماء و تشير إلي فضله وكرمه ومحبته ”خيراتك جديدة في كل صباح… السموات تُحدِّث بمجد الله والفَلك يخبر بعمل يديه“ (مز ١٩: ١).

ثم كان التجسد الإلهي دخولاً لله في تاريخ الإنسان والخليقة من أجل العودة بالمادة والجسد إلي حالة القداسة الأولي ”ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مُقَدَّسِينَ في الحق“ (يو ١٧: ١٩). وهذا هو المقصود بالعبارة التي نسمعها ”مَسحَنة المادة والعالم في المسيح يسوع“. فمِن خلال مسيرة الإنسان مع الله في هذا العالم الذي تمسحن بالقداسة في الرب يسوع المسيح  ينمو الإنسان وتنمو سيرته في المسيح  وتتضاءل اهتماماته بالماء الذي يحمل نهايته فيه – رغم أهميته – لأنه قد وجد الماء الحي.

كان أستعلان تلك الحقيقة في ختام لقاء الرب مع المرأة السامرية. فقد تركت جرَّتها عند البئر وذهبت تكرز بالمسيح لقريتها. فأصبحت مثالاً  للذين تقابلوا مع الرب وامتلأوا حتي تضائل بالتدريج شغفهم وانحصارهم وقلقهم بمتطلبات الحياة الزمنية مقارنة ً بحالهم عن ذي قبل. و ذلك ليس هرباً وكأن متطلبات الحياة  شراً في حد ذاتها؛ وليس لتغطية قِلة طموح أو تخلِّي عن مسئولية النجاح في الدنيا حَسَبَ طاقة كل فرد (دراسة أو عمل أو علاقات … إلخ)، ولكن ببساطة لأن الذي يشرب الماء الحي يرتوي فيتضاءل عطشه إلي أمورٍ في العالم هي ضرورية لآخرين. إن الرب يَقبل الذين يقصدونه وطلباتهم و يحققها لهم – وبحسب سَعَة كل إنسان – يرفعهم فوقها. هكذا تمسحنت طِلبة المرأة السامرية «يا سيد أعطني هذا الماء، لكي لا أعطش و لا آتي إلى هنا لأستقي».

والسُبح لله
بقلم د. رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br>الإصحاح الرابع (١)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br>الإصحاح الرابع (٣)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br>الإصحاح الرابع (٢) 1
[ + مقالات ]