المقال رقم 13 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

ترك [ يسوع] اليهودية ومضى أيضا إلى الجليل. ٤ وكان لا بد له أن يجتاز السامرة. ٥ فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار، بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه. ٦ وكانت هناك بئر يعقوب. فإذ كان يسوع قد تعب من السفر، جلس هكذا على البئر، وكان نحو الساعة السادسة. ٧ فجاءت أمرأة من السامرة لتستقي ماء، فقال لها يسوع: «أعطيني لأشرب » ٨ لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً. ٩ فقالت له المرأة السامرية: «كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي وأنا أمرأة سامرية؟» لأن اليهود لا يعاملون السامريين.“ ١٠ أجاب يسوع وقال لها: « لو كنت تعلمين عطية الله ، ومَن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً»
(إنجيل يوحنا ٤  : ٣ – ١٠)

إنه لقاء المسيح مع الذي هو أروع استعلان لافتقاد شخص الرب لقلب الإنسان في سعي إيجابي حتي يتعرف الإنسان على الرب  شخصاً إلى شخصٍ  ”ها أنا واقف علي الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح أدخل وأتعشى معه وهو معي“  (رؤ ٣ : ٢٠)

إن اعتزاز بإنجيل السامرية هو قديم قِدم انفتاح وعي الكنيسة بالروح أن استعلان الرب هو سر يتممه شخص الرب نفسه في لقاء خاص مع كل إنسان. وتقرأه الكنيسة في الصوم الأربعيني المقدس ”أحد السامرية“، ثم في فترة الخمسين المقدسة. فهو شهادة لعمل الرب الذي يقصد قلب كل إنسانٍ قارعاً بابه في إيجابية حب رقيقة ”أعطيني لأشرب“ تحنو وتحتوي ضعف النفس الإنسانية في صدودها لزيارات الروح ”كيف تطلب مني لتشرب“ إلي أن ينفتح وعيها فتعرف شخص الرب”مَن هو“ فتشتاق وتطلبه ”لطلبتِ أنت منه“ وتمتلئ به وترتوي ”فأعطاكِ ماءً حياً“.

وكان لا بد له أن يجتاز السامرة
(إنجيل يوحنا ٤  : ٤)

إن خدمة في سيرته بعد أفتقاد الرب له تشرح لنا أعماق هذه الآية إذ يقول: ”ويل لي إن كنت لا أبشر“  (١ كو ٩ : ١٦). فالخدمة في المسيحية ليست فرضَ عينٍ  ولكنها فيضٌ مِن غيضٍ لقلبٍ سكنه الرب فامتلأ وفاض حباً واشتياقا للخدمة ”لابد“ و أفتقاد العالم بنور المسيح الذي أشرق فيه.

فإذ كان يسوع قد تعب من السفر…
(إنجيل يوحنا ٤  : ٦)

إن الراعي الصالح لا يكتفي بترديد كلمات الصلاح علي المنبر. بل يقضي يومه مشاركاً خرافه مسيرهم نهاراً ويسهر علي حراستهم ليلاً. فالراعي يقضي يومه مع خرافه ماشياً علي قدميه نفس المسافة التي تمشيها الخراف ويصير تعب الخراف هو تعب راعيها الصالح أيضاً. لقد أختبر حياة الشركة مع الرب راعيه الصالح ”صرتُ كبهيمٍ عندك (لا أعرف ما تعرفه يا رب). ولكني دائماً معك. أمسكتَ بيدي اليمنى، برأيك تهديني، وبَعد إلى مجدٍ تأخذني(مزمور٧٣).

لذلك يتعجب الرب راعينا الصالح علي رعاةٍ ”يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحَمل ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم(متى ٢٣). وعلى سبيل المثال، هناك رعاة يتشددون في تحريم الإجهاض ويضعون علي الفتاة حِملاً ثقيلاً أن تحتفظ بالجنين على الرغْم من الظروف القاسية المترتبة علي (فضيحتها) التي قد تصل إلي قتلها في بعض المجتمعات. بينما الرعاة لا يمسون هذا الحِمل بأصبعهم. إن الذي ينصح بعدم الإجهاض – وأنا أوافقه الرأي – فعليه أن يشارك في تحمُّل الثقل مع الأم في مسيرة الحَمل ورعاية المولود وكأنه أبيه. وإلا فليصمت عن تطبيق وصية الرب في هذه الحالة. إن للغنمات ربٌ يحمل حِملها معها في سرٍ هو قدس أقداسٍ بينه وبين الغنمات، لا دخل لأحدٍ به ”فقال يسوع لها (للمرأة التي ارتكبت جريمة الزنى  فأمسك بها رجال الدين وقدموها ليسوع ليدينها حَسَبَ ناموس موسي) : «ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضاً»“. (يوحنا ٨).

إن منهج الرب كراعٍ صالحٍ هو قديمٌ قِدم خلق الله للإنسان. فعندما سقط لم يكتف الرب بأن يسرد عليه نتائج سقوطه ”شوكا وحسكا تنبت لك الأرض… وبعرق جبينك تأكل خبزك … وبالوجع تحبلين البنين(سفر التكوين)، بل كان الرب متابعاً لمشقة الإنسان في محنته التي صنعتها يداه ”إني قد رأيتُ مشقة شعبي الذين في مصر وسمعت أنينهم ونزلت لأنقذهم(أعمال الرسل ٧). نعم لقد نزل الرب بالفعل إلي أرض اللعنة مراتٍ ومراتٍ (كما في حادثة العليقة المشتعلة بالنار) إلي أن جاء ملء الزمان و ظهر الله في الجسد وشاركنا المسيح الإله آلامنا وحولها إلي مجدٍ لنا.

لقد أرتضي الرب أن يحمل الشوك الذي نبت لنا في أرض الغربة أكليلاً علي هامته، و مَسحَن الرب حياتنا وأتعابنا في هذا العالم، «مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أُكْلٌ، و مِنَ الجافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ» (قض ١٤ : ١٤). و لم تَعُد ضيقاتُ الحياة وأتعاب الدنيا خسارةً نستحقها نتيجة سقوطنا لأن الرب حوَّلها لنا إلي شركة في آلامه بينما في حقيقتها هي آلامنا التي حملها مِن أجلنا.

فكلما ضغطت الحياة علينا بالتعب فإننا نتقوى بل نفرح في وَسَط الضيقة عندما نتذكر أن أتعابنا صارت تعب الرب ”يسوع قد تعب من السفر“. فصار ألم كل إنسان أرتبط بالمسيح ويقدمه شركة في آلآم الرب، مكسباً لا خسارة. فلم يَعُد الألم عاراً حين كان تذكاراً للخطية والسقوط بل صار شركة لنا في آلام المسيح و أكليلَ مجدٍ.

فجاءت أمرأة من السامرة لتستقي ماء، فقال لها يسوع: «أعطيني لأشرب» “.
(إنجيل يوحنا ٤  : ٧)

إن لقاء المسيح مع السامرية يعطينا فكرة عن لجاجة الرب في سعيه لخلاص السامرية بل وكل إنسان من خلال أحداث اليوم العادية بل ربما يختلق الرب الفرص في إيجابية حب عجيب” أعطيني لأشرب“. لقد مدح الرب اللجاجة في الصلاة و أوصانا بها في طلباتنا إليه لأنها صفة من صفات الرب نفسه في طلبه لخلاصنا.

إن وعيِّنا بلجاجة الرب في خلاصنا يطرد اليأس بكل أشكاله من حياتنا اليومية و الروحية. وكذلك فإن لجاجة الرب نحو أمر خلاصنا ربما تشير إلي حتمية خلاصنا. فإن مثل ”الخروف الضال“ قد يصيب المرء بالذهول فرَحاً لكل من يفتح الروح بصيرته ليري مثابرة الرب ولجاجته نحو خلاصنا في صورة مطلقة تليق بالربَ لأنه مطلقٌ بطبيعته. فلقد وصف الرب لجاجته وسعيه بتعبيرٍ في غاية القوة إذ أنه يبحث عن خروفه الضال ”حتى يجده(لو ١٥ : ٤).

وتجدر الملاحظة أن كلمة ”حتى“ وهي تختص بالزمن، لم تأتي في هذا المثل باليونانية ”Cronos“ وهو الزمن المخلوق و يخص الخراف، بل جاءت باليونانية ”Coros“ وهو الزمن الغير مخلوق والأبدي الذي يخص الراعي لأنه الرب الإله. وأترك القارئ مع روح الله ليتأمل أعماق كلمة ”حتى“ وأهميتها في حتمية خلاص الإنسان المرتبطة بلجاجة لا نهاية لها لأن الرب مطلقٌ هو.

 ”فقالت له المرأة السامرية: «كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي وأنا أمرأة سامرية؟» لأن اليهود لا يعاملون السامريين“.
(إنجيل يوحنا ٤  : ٩)

لقد أنعم الله علي اليهود ب والاشتراع والعهود والأنبياء والمواعيد ليكونوا ارساليته في أفتقاد العالم، ولكنهم فشلوا حتي في الحفاظ علي السامريين الذين انحدروا في عبادة آلهة كاذبة وصاروا ”أنجاساً“ في نظر اليهود.

لذلك جاء الرب وأعلن أن سعيه لخلاص الإنسان يتجاوز خلافات البشر و فهمهم المحدود وتقصيرهم. فالرب لم ينزلق إلي هذا المستنقع الذي يتقاتل فيه البشر علي الإيمان بالله لأن ”الله أكبر“ من الإيمان به  بل  وفوق الإيمان نفسه، فالله هو ”أبيكم الذي في السماوات، يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين“. (متي ٥)

إن الإيمان بالله هو علاقتنا بشخص الرب وليس حروفاً نتقاتل عليها بينما هي مفردات لغة بشرية محدودة و متغيرة بتغير حدود البلدان. لذلك لم يلتفت الرب إلي خدعة تعدد الأديان وصراعات البشر ولم يتكلم عن الصراع بين اليهود والسامريين، فكان حديثه عن شخص الله الذي يحب شخص الإنسان.

إن الدعوة لمعرفة الله لا تكون أو تتحقق بالعداوة و المقاطعة الناتجة من صراع مفاهيم البشر عن الله، ولكن بتقديم شخص الرب لهم فهو القادر وحده أن يُحي ويقيم الناس من مواتهم عند لقائه بهم. وليس نحن بتقديم مفاهيم ونظريات عن الله.

والسُبح لله.
بقلم د. رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br /> الإصحاح الثالث (٥)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br>الإصحاح الرابع (٢)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br>الإصحاح الرابع (١) 1
[ + مقالات ]