في أثناء دراستي في كلية اللاهوت، طلب منا أحد أساتذة العهد الجديد أن نقرأ إنجيل مرقس في جلسة واحدة، بشرط أن نحاول نسيان كل ما نعرفه عن شخص يسوع وأحداث حياته كما تُذكِره بقية الأناجيل… أن نحاول التعامل كما لو كنا نسمع لأول مرة عن يسوع، ونسمع عنه فقط من خلال إنجيل مرقس. وطُلِبَ منا بعدها أيضًا قراءة كتاب بعنوان: Mark as Story أو مرقس كقصة [1].

يؤمن معظم دارسي العهد الجديد أن إنجيل مرقس هو الأقدم بين الأناجيل الإزائية [2]، وهو المصدر الذي بنى عليه كتبة الأناجيل مروياتهم [3]. قراءة هذا الإنجيل في جلسة واحدة، كقصة قصيرة عن حياة وأعمال يسوع المسيح، مع التركيز على تفاصيله فقط، تجرِبة مدهشة تسمح بتذكر حياة هذا الإنسان كما عاشها، والتحديات التي واجهها، والإيمان والرسالة اللذين ساعداه على المواجهة والاستمرار.

بالنسبة لنا كمسيحيين، قد يكون هذا التدريب أكثر تحديًا من غير المسيحيين. فنحن اعتدنا على التفكير في يسوع بشكل منفصل عن سياقه، فهو الرب المعبود الذي نلجأ إليه في الأزمات، الذي نضع فيه إيماننا. بشكل ما، نسينا أن نفكر في الإنسان يسوع، وأن نفكر في إيمانه كما عاشه وتكلم به، واضطُهد بسببه، في التحديات التي مر بها والقلق الذي عاشه.

من بداية إنجيل مرقس، ترى هذا الصراع والمقاومة اللذين واجههما يسوع. في الإصحاح الأول، ترى صراعه مع قوى الظلام والشياطين، وفي الإصحاح الثاني، ترى كيف يتساءل رجال الدين اليهودي بامتعاض عن تعليمه وبأي حق يتكلم به. وبداية من الإصحاح الثالث، نرى كيف تآمروا لقتله… هكذا، منذ البداية، نقرأ قصة هذا الإنسان الذي عاش مطلوبًا ومطاردًا.

إنها قصة الرسالة التي جاء يسوع ليعلنها: ملكوت الله. ملكوتٌ حقيقيٌّ وجديد، أسلوبٌ مختلفٌ للحياة بعيدًا عن روما وأعوانها من رجال الدين والمتدينين. ولم تنل هذه الرسالة قبولًا ممن في السلطة. منذ بداية الإنجيل، وعلى طول الخط، نرى المطاردات والمؤامرات ومحاولات الإيقاع، التي تتركك مشدودًا وأنت ترى رجلًا بمفرده يقف في وجه السلطة وممثليها.

تعلمت الكتاب المقدس طفلًا، بشكل كبير، من خلال أحد الكتب المقدسة المصورة. كانت إحدى النسخ تحمل خطًا أحمر يمر عبر صفحاته من أوله إلى آخره، كرمز للخلاص الذي قدمه يسوع بدمه، الذي يمكن تتبع آثاره من بدايته الكتاب المقدس إلى نهايته.

وبينما يمكن تقديم الأمر بهذه الطريقة، إلا أنني أعتقد أن هذه النظرة للكتاب المقدس لا تساعد القارئ على رؤية خطٍّ آخر شديد الأهمية يربط الكتاب من أوله لآخره، ألا وهو دعوة الله للناس ليكونوا شعبه، تابعين لملكه. من أول صراع بين الراعي المتجول و، الذي يمثل بداية الاستقرار والزراعة وتملك الأرض، إلى تدمير الله لمخطط إقامة ملك ومملكة على الأرض في بابل، وإلى إخراج الله لشعب إسرائيل من عبودية مملكة مصر القوية، وإلى رؤية إشعياء لسكة سلام تمتد من العراق إلى سوريا وصولًا إلى مصر…

لا تنتهي الأمثلة، وسيرى قارئ الكتاب المقدس هذه الدعوة للسلام والعدل، هذه الدعوة لاتباع ملك مختلف عن ممالك الحرب والظلم تتكرر باستمرار. اقرأ، مثلًا، أسفار الأنبياء الصغار الإثني عشر لترى كيف يُركّز على تقديم الله كإله كل الشعوب، وكيف يتوقع من شعبه أن يتصرفوا بطريقة مختلفة، وأن يقفوا في جانب مبادئ هذا الملكوت.

حتى نصل إلى يسوع ونرى بوضوح هذه الدعوة لملكوت الله… أسلوب جديد في الحياة، وفي رؤية العادات والتقاليد، وحتى الوصايا الكتابية. (لاحظ المقاومة التي واجهها يسوع منذ بداية الإنجيل لكسر قوانين السبت والطعام والطهارة، وكلامه عن الخمر الجديدة والزقاق العتيقة). أعلن يسوع ملكوت الله على الأرض، هنا والآن، الأمر الذي صدم من هم في السلطة وهددهم بشدة، حتى أنهم لم يجدوا إلا قتل يسوع طريقًا لإسكات صوته إلى الأبد.

لكن القصة لم تنتهي بموته، إذ قام من بعده أتباعه ينادون به، لا بقيصر روما، ربًا وسيدًا، يستحق أن يُتبع ويُعبد.

رسالة الخلاص، كما تُقدّم في كتاب الأطفال المصور هذا، حقيقية، لكن التركيز عليها دون الالتفات إلى قرينتها، كما تظهر في العهد القديم وفي حياة وتعليم يسوع، لا يساعد الكنيسة اليوم على الإجابة عن سؤالين محوريين: الخلاص من ماذا؟ والخلاص إلى ماذا؟ عندما تُقدّم رسالة الخلاص كمعلومة لاهوتية، أو تُختصر لعقيدة تضمن لمعتنقها الحياة بعد الموت، فإن قوة الرسالة وثوريتها، القادرتين على التأثير في الحياة هنا والآن، تُلجم وتُروّض، ويفشل المستمع في فهم معناها لحياته وقِيَمِه حال قبولها. لم ينشغل يسوع بتقديم ملكوت ننضم إليه بعد الموت، بل كان يتكلم عن ملكوت يتحقق بيننا الآن.

لا يحتاج الناس اليوم إلى المزيد من التفسيرات والعظات التي تربط رسالة الملكوت بمجادلات لاهوتية تخطّاها الزمن وفُرغت من أهميتها، بل يحتاجون إلى أن تكون الكنيسة حساسة لعلامات الأزمنة والتغيير الذي يطرأ على عقول الناس وقلوبهم؛ أن تدرك احتياجهم لإرشاد ورجاء في أوقات مربكة ومحبطة، وجوعهم لملكوت مختلف، لمثال مختلف، عما يحيط بنا من ظلم وكراهية.

أود هنا أن أقترح سببين يجعلان من هذه الرسالة غاية في الأهمية، خصوصًا للمنشغلين بتقديم رسالة الإنجيل:

الأول: لأنه لا يمكننا أن نكون مؤتمنين على مشاركة الرسالة إن كنا غير جاهزين لتحسس التغيرات التي يمر بها العالم، ومستعدين للعمل على التجاوب معها بصورة لائقة. عن نفسي تدربت في معهد لاهوتي، وأعرف محبة الكثيرين ممن يعملون في مجال الكرازة للمجادلات اللاهوتية التي تثبت لماذا عقيدة كنيسة أو نظامها أقرب للرؤية الكتابية الصحيحة أكثر من غيرها… أو محاولات إقناع الناس بقبول نظام إيمان مُحكم وواضح يقف في وجه الشكوك والمعتقدات الأخرى. لكن الناس من حولنا يبحثون أكثر عن معنى الإيمان، وتعبوا من الكلام المُطلق الذي لا يتحدى حياتهم أو يساعدهم على إيجاد المعنى في هذا العالم المضطرب. لا يعاني العالم، في نظري، من مشكلة نقص دين أو إيمان، بل من مشكلة فهم كيف يمكن للتدين والتعاليم المقدمة من خلاله أن تساعدهم على بناء حياة، وحياة أفضل. مصر، بلدي، من أكثر بلدان العالم تدينًا، وأعلاها في نسبة التحرش الجنسي بالسيدات! لدينا ملايين من الناس يؤمنون بوجود الله ويهابونه، لكنهم لم يترجموا مخافة الله بثقة تجعلهم لا يهابون من له سلطة فلا يتزلفون أو ينسحقون أمامه حتى وإن صغر شأنه. الناس من حولنا تبدأ صراعاتها وانقساماتها واتهاماتها المتبادلة، وحتى القتل والتعذيب، باسم هذا النوع من الدين المطلق الذي لا يتكلم إلى قلوبهم ولا يتحدى أنماط حياتهم وتفكيرهم. لا يمكننا أن نكون مؤتمنين على مشاركة رسالة الإنجيل إن اخترنا أن نقدم فقط لمحة مبتذلة عنها دون أن ننشغل بما تعنيه لنا في حياتنا هنا والآن.

الثاني: لأن الأمر يتعلق بالمستقبل والوجود: إن لم تُجِب الرسالة عن أسئلة الناس عن الحياة هنا، فلن تجد لها مستمعين. العالم يزداد فيه الحيرة والحاجة لرسالة واقعية تتعامل مع الألم والظلم والحرب والدمار الذي نعانيه، وتتعامل أيضًا مع الحاجة لمعنى وقيمة، عندما لا يعود الدين مجرد حاجة نفسية للحماية من المجهول كالموت والمرض والفقر. نتكلم كثيرًا عن مشكلة تفشي الإلحاد، لكنني أعتقد أن الأمر أعمق من ذلك… في ظني أن الناس تصارع غياب المعنى: عندما يعجز الإيمان عن الإجابة عما يحيرنا فيصبح جامدًا، أو عندما تتسع مداركنا فنفهم أن الله ليس مجرد ضمان ضد مصائب الزمن، يفقد الإيمان بشكله العاطفي الاعتمادي معناه وقيمته. كيف يمكن للناس أن يصدقونا إن لم نكن نحن أنفسنا قد تغيّرنا وتحدّتنا رسالة الإنجيل لنعيش بقيم وفكر مختلف عما ندعوهم لتركه؟

في إصحاح ٨ من إنجيل مرقس يقول يسوع أن من يخجل منه ومن كلامه هنا على الأرض، سيخجل هو منه عندما يعود في مجده.

فكرت كيف يمكن لي أن أخجل اليوم من يسوع ومن كلامه؟ منذ أكثر من ٢٠٠٠ عام، عندما كانت الجماعة في طور التأسيس، كان إعلان أن يسوع، وليس شخصًا أو نظامًا آخر، هو الرب، أمرًا قد يجعل الإنسان يفقد انتمائه وحتى حياته. وبينما يظل الأمر كذلك حتى اليوم في بعض مناطق العالم، إلا أن المسيحية اليوم هي الدين الأكثر اتباعًا في العالم. المسيحيون في بعض المناطق أصبحوا قوة تؤثر على مستقبل بلدانهم واختيار حكامهم، والكنيسة في بعض المناطق نمت لتصبح مؤسسة قوية وثرية، أو حتى متعايشة ومقبولة في مناطق أخرى. ما الذي يعنيه فعلًا الخجل من يسوع اليوم؟

هل يمكن أن تعني أن أختار عزل رسالته عن الحياة، وتقديمها كدعوة لاتباع دين أو عقيدة تتعلق فقط بما بعد الموت؟ هل تكون بالتوقف عن ملاحظة المنسحقين من الفقر والظلم، والمشيئين بسياسات السوق وعالم الاستهلاك من حولنا؟ هل عندما أتردد في أن أكون صوتًا لمن لا صوت لهم، أو أخاف من أن أكون باحثًا عن الحقيقة والفهم في عالم يدعونا لاتباع ما سمعناه قبلًا دون تفكير أو نقاش؟ أم ربما بمشاركتي، أو حتى بسكوتي، عندما يُحقّر أو يُشيطن من لا يشاركوني إيماني؟

ماذا كان يسوع سيعلم ويقول لو كان بيننا هنا اليوم معلنًا ملكوت الله؟ وما الذي يجعلنا، نحن أتباعه، غير خجلين من رسالته اليوم؟

هل يمكن لهذا الانشغال بالحياة، والسعي لتقديم رسالة العدل والسلام بين الناس أن تغير عالمنا اليوم؟

بينما أصلي وأتمنى أن يكون هذا ممكنًا، إلا أنني مدرك أن هذا غير واقعي. لكن بدلًا من أن يدفعني هذا الإدراك إلى الانسحاب والتفكير في أن مصير هذا العالم الهلاك، ولا أمل من الانشغال به، يشجعني إيمان يسوع الذي عاش في عالم أكثر قسوة وظلمًا، لكنه استمر في إعلان ملكوت الله… السلام والمسرة اللذين رافقا مجيئه إلى عالمنا. عاش يسوع في عالم قاس، إلا أنه دعا الناس إلى أن يعيشوا (كما قال أحد الكتاب) كما لو كانوا أحرارًا في عالم غير حر. يشجعني أسلوب يسوع الذي قال الحق والعدل بحب. يمكننا أن نتعلم منه عندما نظر إلى الشاب الغني، الذي رفض أن يتبعه، وأحبه. لنستمر في تقديم رسالته الثورية هذه بروح محبة ومتواضعة.

أمنيتي أن ننشغل بماذا تعني رسالة وقصة يسوع لنا اليوم في عالم يتغير وينتظر منا أن نواكب تغيره قبل أن يتخطانا الزمن.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. David Rhoads, Joanna Dewey, Donald Michie, Mark as Story: An introduction to the Narrative of a Gospel. Fortress Press, 2012 [🡁]
  2. ، أسبقية مرقس. جزء من سلسلة: المشكلة الإزائية. [🡁]
  3. چون إدوارد، التقليد Q. جزء من سلسلة: المشكلة الإزائية. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

چورچ مكين
[الموقع الشخصي]   [ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎