منذ أكثر من ألفي عام، كما يؤمن به مئات الملايين من البشر اليوم، وُلِد ملك السلام، ابن الله، متخذًا صورة بشرية، من كلمته وروحه التي حبلت بها مريم. وبالنسبة لحدث خارق مثل هذا، وهو حدث تعجز الكلمات عن وصفه، فإنه لابد من الاعتراف بأن أسلوب التنفيذ كان متواضعًا، والأهم من ذلك أن النتائج أو التبعات جاءت مخيبة للآمال منذ البداية وحتى الآن.

فبالنسبة لأسلوب التنفيذ أو مسرح الأحداث، فإننا لا نحتاج لمن يذكرنا بتواضع المكان… مجرد تدبير لامرأة تعاني آلام الولادة. ولن تخفي مشاهد زيارة الرعاة وحكماء المشرق حقيقة أن مريم ولدت ابنها البكر وهي مغتربة، دون أن تمتد يد قريب لمساعدتها وإرشادها لأصول تربية وليدها، أو تغطي تسبيحات الملائكة صوت نحيب الألم الذي ارتفع من أمهات، انتزع ملك مجنون أطفالهن الأبرياء من أحضانهن، وذبحهم، في أثناء هروب العائلة المُطاردة والمُهجّرة إلى أرض غريبة. وعادة ما يضفي المؤمنون من كافة المعتقدات هالة من القوة الخارقة على أحداث طبيعية تعطي الإيمان زخمه، فهل أضفنا نحن بالتقاليد والاحتفالات والترنيمات معاني الفرح والسلام على ذكرى الميلاد؟

ولم تكن تبعات هذا الحدث أفضل حالًا، فالطفل الذي بدأ حياته لاجئًا، شبّٓ ليعيش مطاردًا، وينتهي في مقتبل عمره معذبًا ومقتولًا. ومع أن مئات الملايين حول العالم يؤمنون أن قيامةً تبعت هذا الموت المُذل، قيامة تممت خطة الخلاص وبينت أن هذا الميلاد المتواضع والحياة القصيرة والموت المؤلم كان تخطيط مسبق من إله أراد أن يفتدي البشر، إلا أن رسالة المسيح سرعان ما تحولت لدين يتصارع حوله الناس، وعقائد يتجادلون وينقسمون حولها، بل وحتى لحروب حدد المنتصر فيها ملامح وأسس الإيمان. وعلى مدى التاريخ، القديم والمعاصر، عُذِب كثيرون باسم المسيح، وارتكب من يحملون اسمه أبشع المذابح.

بعد مضي أكثر من ألفي عام على ميلاد رئيس السلام، لا يزال العالم يعيش حروبًا يُقتل فيها الناس باسم الله، ويتلاعب فيها الساسة بمقدرات البسطاء والضعفاء من عامة البشر. ما زلنا نرى العالم يكتب مواثيق تتعهد بالقضاء على الحروب وعلى الفقر والظلم ليتم خرقها وتجاهلها في كل يوم. لا يزال الناس، باسم الله والدين، يُشيطنون من اختلف عنهم، ويرمون الآخر بكل نقيصة، متناسين فحص ذواتهم قبل إدانة غيرهم. مضت القرون على هذا التدخل الخارق من الله ولم يزل الحب حلمًا بين أقرب الناس، فمَا بالك بين الغرباء والأعداء! ما زلنا نتكلم عن صيغ للعيش المشترك في حين يسعى كل واحد لتملّك الآخر ووصمه وإقصائه.

اخترق الله التاريخ، لكنه اخترقه بضعف، فلم يتغير شيء، ومضت الحياة كما هي؛ بقسوتها ولا معقوليتها، قبل وأثناء وبعد ولادة وحياة يسوع، أو هكذا يبدو!

لكن المعجزة حقًا هي أن هذا الطفل، المُطارد، الذي شهد مولده الكثير من الألم، كبر، ليُصبح المعلم الذي أرشد الناس إلى أن يحبوا حتى أعداءهم. لم تملأ الصدمات والعنف والمطاردات المستمرة حياة يسوع بالمرارة والتحيز، بل كان الرجل الذي تحدى كل الأحكام المسبقة وعلّم أن القريب يمكن أن يكون من نظنه نحن ألد الأعداء. لم يُثر الفساد والقمع السياسي والفقر وسيطرة المؤسسة الدينية، روح التعصب عند يسوع، فكان المعلم الذي تحدى هيبة رجال الدين وعلم أن الشريعة جُعلت للإنسان لا الإنسان لأجل الشريعة.

لم ينخدع يسوع بدعاوى التفوق العرقي، والشعب المختار، والخصوصية الحضارية، أو كل هذه الأكاذيب التي تُروج إما لتبرير الاستبداد أو لمداواة الشعور بالانهزام والتأخر، وكان انفتاحه على الجميع حتى دُعي بصديق الأشرار والمنبوذين.

إن المعجزة حقًا أن تستمر الحياة في قسوتها، فنجد فيها من يؤمن بالحب وبإمكانية الغفران لمن اعتدى وأساء. أن ينقسم الناس ويبدو وكأن الحق لا يظهر إلا أن ثبُت أن الآخر على باطل، فنجد من لا يزال مستعدًا لفتح ذراعيه واحتضان الآخر والاغتناء بخبرته. أن تبدو الحياة وكأن لا معنى ولا أمل فيها، فنجد طفلًا جديدًا قد جاء إلى الدنيا تملأ ضحكته القلوب الفاهمة نورًا، وكأنها هدية من الله مع كل طفل جديد تقول أنه لم يفقد الأمل في جنسنا البشري بعد، وإنها لمسؤولية كُبرى إن كانت لدينا الإرادة لجعل هذا العالم مكانًا يليق بأحلام الصغار.

هل سيكون العام الجديد أجمل وأرحم؟

الذي أعرفه أنني عليّ أن أعمل وآمل أن يكون كذلك. وبغضّ النظر عما تحمله الأيام، فإن الميلاد يعلمنا أنه حتى عندما تدخّل الله بشكل مباشر في التاريخ، لم يتوقف الشر والألم عن مرافقة السلام والمسرة التي بشر بها جند الملائكة زمن الميلاد. هكذا كانت الحياة، ويبدو أنها ستستمر هكذا. لكن الرسالة الأهم هي أنه وسط الشر والظلمة؛ وُلد رجاء، جعل من الممكن لنا أن نفرح ونحتفل بكل انتصار للخير وإن كان صغيرًا، بكل لمحة نور تكشف طريقًا وسط الظلمة، بمحبة الله الذي في حكمته اختار أن يعلن نفسه بما يبدو وكأنه ضعف وجهل… نحتفل لأننا نعرف أن جهالة الله أحكم من الناس! وضعف الله أقوى من الناس! [1].

هوامش ومصادر:
  1. رسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ١: ٢٥ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

چورچ مكين
Website   [ + مقالات ]