من أكتر الكلمات التي تُضللنا اللغة العربية في فهمها هي كلمةالتوبة، ومن أكثر الطقوس الجسدية التي قام الرهبان العرب بتضليل شعوبهم فيها هو مسألةتقديم الميطانية، والمُمارس منها -ظاهريًا- هو السجود لشخص نظرا لمكانته الدينية. هذا المقال يُناقش كليهما.
كبداية، التوبة
هي مُنتج عربي إسلامي، وهناك سورة كاملة في القرآن اسمها سورة التوبة
. في الكتب اليهودية [التناخ، أو العهد القديم، أو الكتاب العبراني] تتكرر كلمة التوبة
مقترنة بالكفّارة، أي تقديم ذبيحة تكفيرًا عن ذنب، وﻻ تعني فعليًا التوبة
بل مجرد تسوية للخطية، أو دفع دين لله قد دنِت به بإدانتك (بخطيتك)، ومن ثم الأمر يحتاج استيفاءً لهذا الدين والتكفير عنه بالذبح والأضاحي.
إذن، التوبة
في أدبيات العهد العبراني القديم لا تعني الوصول إلى تغيير في القناعات كما نفهم الآن من مصطلح توبة
في أي معتقد. ببساطة، يمكنك أن ترتكب نفس الفعل (الخطيئة) من جديد، لا مشكلة، لكن ستُقدم كفّارة جديدة، وهذا كل ما في الأمر. تسوية أرصدة مرقمنة، أو تسوية للحسابات بينك ويهوه، ولا يترتب عليها أي نتائج مستقبلية. هذا ما ليهوه عندي، وقد أخذ حقه في الذبح، فلست مدينًا له بعد أن كفّرت عن الخطيئة، وليس لدي مشكلة ضميرية في إعادة الخطيئة، طالما سأوفي يهوه حقه! وبالطبع، فكل هذا لا نعتبره حاليًا توبة
من الأساس، لكن هذا هو واقع كلمة توبة
في العهد القديم.
في المسيحية، اختلف الأمر تمامًا. يؤمن المسيحيون أن صلب المسيح هو ذبيحة كفارية عامة، انتفت معها الحاجة لتقديم أيّ أضحيات جديدة على مذبح الرب. ومن ثمّ، تختلف كلمة توبة
هنا في النص العربي تمامًا. ولنبدأ بالتأصيل اللغوي من اللغة اليونانية التي تُرجم عنها العهد الجديد (الكتاب المقدس المسيحي).
كلمة Μετάνοια اليونانية، التي تُنطق Metánoia (مِتا-نِيا) و”مِطانية” بالقبطي:
الكلمة من مقطعين: مِتا
+ نيا
، وليس لها أي صلة بالـتوبة
كما نفهم بالعربية. المقطع Meta مِتا
، يعني فوق، أو التسامي، أو الصعود. مثلًا عندما نقول متا-فيزيكس
(وفيزيكس
هي الطبيعة) نعني “فوق طبيعي” (خارق عن الطبيعة) والخرق ده متسامي، بمعني أن كسر القواعد الطبيعية يأتي من مصدر علوي (السماء) وليس من مصدر سفلي (الشياطين أو الجن أو السحر)، ولذلك يمكن ترجمها “الأحداث فوق الطبيعية” (المعجزات).
أما المقطع Noia نِيا
، من مادة Nous نوّس
، والنوّس هو الذهن أو العقل الإنساني، أو يمكن القول بشكل أدق، إنه الـنواة
الخاصة بك، التي نسميها الضمير (حسب تعريفك الشخصي لكلمة ضمير
ومكانه؛ هل هو ذهنك؟ أم قلبك؟ إلخ، هذا هو الـنواة
أو الـنوّس
بتاعتك).
مِتا-نيا
[مطانية] لا تعني إذن توبة
كما تترجم في العربية، بل ببساطة تعني بدقة تغيّر في الضمير
، وهذا التغيير للأعلى، للسماء، تسامي النوّس، أو ارتقاء الذهن. (أو القلب، حسب فهمك وترميزك الشخصي)
في كلمة ونص: مِتا
+ نيا
، في فعل الأمر = “صفّيّ النية”، بالعامية المصرية، هذه هي الكلمة اليونانية المستخدمة، التي تم تعريبها إلى توبة
.
طبعًا، الأهم هنا ليس مسألة إعادة النظر في لفظة التوبة
، بل إعادة النظر في تقديم المطانية
الطقسية للأشخاص [السجود لهم]. لأن اقتران المطانية بالتوبة من الخطيئة (ككفارة) اقتران خاطئ، والارتباط الصحيح للسجدة هو مدى ارتباطها بمسألة “تسامي الضمير”، بالإضافة إلى ارتباط هذا التسامي بمصدر علوي (السماء/الله).
وبناءً على ذلك، فلسفة سجود بهدف الاحترام
بتقديري هي كلام بلهاء، يليقُ بصينيٍّ أو يابانيٍّ مُلحد، وليس كلام أيٍّ من المؤمنين بالأديان الإبراهيمية. مثلًا، في الوصايا العشر نجد النصّ قاطعًا: “لِيهوه تسجد، وإياه تعبد”، في تقديم السجود لله وحده. ومطانيا
القبطية، وإن كانت -لغةً واصطلاحًا- لا تعني السجود، إلا أن شكلها الظاهر الدال على المعنى المستيكي [الباطني] هو سجود
. إلا أن علوم اللغة تقرّن الفاعل بالتسامي الذهني، وليس بتنكيس الرأس، الذي هو دلالة نزول للأسفل، وليس صعودًا للأعلى.
بطريقة أخرى، كما أن التوبة لا تُقدّم إلا لله، فالمطانية لا يجب أن تُقدّم إلا لله.
وفي المسيحية، أي تغيير في الضمير يُعزى إلى الله، لا إلى السبب الظاهر (المُعلم أو الناصح أو المُرشد الروحي، الذي قد يكون سببًا في تغيّر ضميرك إلى العلو).
النقطة الأخيرة هي أن هذه الـتوبة
العربية، أو مِتا-نيا
اليونانية، أو مطانية
القبطية، لا تُستخدم في العهد الجديد ككفارة، ولا علاقة لها بارتكاب الذنوب والمعاصي. ليست توبة عن ذنب من الأساس، كما هو الاصطلاح الإسلامي مثلًا. هي فقط تعني نقطة تحول ضميري للأفضل، وتصلح لأي ارتقاء روحي لا علاقة له بالذنوب والخطايا.
الكتاب المقدس استخدم التعبير ἁμαρτία (أمارتيا
) للدلالة على الخطيئة في العهد الجديد. وهو جذر لغوي مختلف تمامًا، فـأمارتيا
تعني حرفيًا: فشل في توجيه شيء متحرك عن أن يصيب هدفه. الأمر يمكن تشبيهه بمن ألقى سهمًا فَطَاش أن يصيب هدفه. الخطيئة هنا ليست ذنبًا بالكليًة، بل “إخفاق” عن إصابة الهدف. والصورة الأشمل أن الخطايا جزء من الحياة العادية للبشر، بينما المؤمن له “هدف” (الخلاص)، ولا تُعتَبَر أخطاؤه “ذنوبًا” بل “إخفاقات” في الوصول إليه (أو حيودًا عن الهدف).
– مفاهيم “الخطية” كـ “جريمة في حق الله”،
– أو “التوبة” كـ “تكفير عن الذنب”،
– أو حتى أن الشريعة (القانون الإلهي/الحدود) هي مكفرات عن الذنوب (الجرائم)،
هي كلها مفاهيم شرائعية (قانونية) تنظر إلى الصورة العامة كخرق للقانون الإلهي يستوجب العقاب بالناموس (القوانين التشريعية)، وموجودة في كلٍ من اليهودية والإسلام بشكل بدائي، باعتبارهما ديانتين جمعيتين (دين للمجتمع، ومن ثمّ فالدين هنا أداة تنظيم للمجتمع).
أما المسيحية فمختلفة بنيويًا. لا تنظر للصورة العامة للخطيئة كخرقٍ للقانون يستوجب العقاب، بل كـ”مرضٍ” يحتاج إلى استشفاء. والتفاصيل هنا أوضح في اللاهوت الآبائي الشرقي.
المسيحية رسميًا بلا ناموس (بلا شريعة)، باعتبارها دينًا فردانيًا (دينًا للفرد، ومن ثمّ فهو أداة لتنظيم الفرد لا المجتمع). والرؤية الأشمل أن صلاح المجتمع يأتي من تراكم صلاح أفراده، أو من قيادتهم لعمليات الإصلاح داخل مجتمعاتهم (ليُضئ نوركم أمام الناس).
لذلك،
عندما أقرأ المادة الثالثة من الدستور المصري،
أتيقن أنها مادة مكملة للمادة الثانية، من مُشرّع مسلم العقيدة، يريد أن يعدل في تقسيم سلطة الدستور، بأن يعطي جزءًا من سلطة الدولة للمؤسسة الإكليروسية، كي تصيغ هي ناموسها الديني الطائفي، وكلٌّ يلمّ معزاته!
أتفهم سعي المشرع الإسلامي للعدل (وفق مفهومه الديني للعدل)، وأتفهم أنه لا يعرف المسيحية بنيويًا وهيكليًا، وأتفهم جهده في القياس حسب معلوماته المحدودة عن دين لا يعرفه، فلجأ للقياس والمقاربة على دينه. لكني لا أتفهم قبول السلطة الكنسية لهذا العرض إلا في ضوء مصالحها الكهنوتية في اكتساب سلطة زمنية، وما لذلك من منحها مكانة أكثر نفوذًا في كل تشريع وطني قادم.
سيروا في غيكم يا كهنة بيزنطة، فإن عين الله –التي هي جاحظة على ألم الشعب– لا ترعاكم.
ولتنهضوا من سكونكم يا طبقة العبيد البائسة، فإنكم لا ترونهم كبارًا إلا لكونكم راكعين.