لو انت في مصر، فأكيد طبعا أكيد سمعت الأية اللي في العنوان، وبتتقال كدا:
من مصر دعوت ابني.. مبارك شعبي مصر
فإنت تحس إن دي آية واحدة، ومن العهد الجديد لكونها بتتكلم عن “ابني” اللي هو المسيح طبعا.. صح؟
للأسف ﻻء.. فهمك خاطئ تمامًا..
دول أيتين متجمّعين، واﻵيتين من العهد القديم، ومن سفر إشعياء، وكل آية في أصحاح غير التاني.
آية “مبارك شعبي مصر” مش مجرد مدموجة في نص وسياق مختلف، وإنما أيضاً مجزّأة.. دي الآية الكاملة: [1]
مبارك شعبي مصر، وعمل يدي أشور، وميراثي إسرائيل(إشعياء 19: 25)
الأية دي أنا قريتلها أكتر من تفسير سواء مسيحي أو يهودي.. وبصراحة أنا شايف ثغرات مش مغطيها أي تفسير ديني، بس لقيتلها تفسير تاريخي وأركيولوجي محدش متدين هيقبله بسهولة (أي متدين، يعني المسلمين مشمولين مش بس اليهود فقط أو المسيحيين). لكن بسبب الأوضاع اللي فرضتها حركة حماس على فلسطين قبل ما تفرضها على إسرائيل في عملية طوفان الأقصى، أصبحنا كلنا كمسيحيين مطالبين بإعلان موقف، ومحتاجين نحط فواصل بين النظرة الدينية لكتب التناخ العبراني [العهد القديم] وبين النظرة المسيحية لنفس النصوص. كمان أنا مصري، ومصر ليها وضع استثنائي إضافي لكونها بحسب التاريخ أولًا، والنصوص العبرانية المقدسة ثانيًا هي طرف أصيل في المعادلة. وده ممكن يسبب ارتباك إضافي للقبطي لما بيلاقي أجداده، قدماء المصريين، في حالة صراع مع “شعب الله” [إسرائيل] مش في قصة الخروج بس، ولكن كل ما تلاها لكون المملكة المصرية هي اللي أطاحت بمملكة يهوذا من بعد ما حليفتها مملكة آشور ما أطاحت بمملكة إسرائيل، قبل أن تظهر مملكة بابل وتختطف المنطقة من الجميع.
الدراسة بتاعت النهاردة في المنطقة دي. بتتدخّل بشكل علماني لترتيب الأوراق في المناطق الضبابية لتعيد تشكيل إنحيازات المسيحي المصري بشكل أكثر أكاديمية وأقل تراثية. لذلك، باتوقع إن نسبة قبول مثل هذه الدراسات عند العامة بيتزايد، لكونها بتقدم حلول جديدة وليس تكرارا وعظيًا مستهلكًا.
خلينا في الأول نوضّح إن النص في الترجمة العربي دقيق في كلمة “شعبي مصر” (بياء الملكية، مش “شعب مصر”) المتكلم هنا هو الله.. و”شعبي” لما تتقال من الله يبقى “شعب الله”، وفي العهد القديم تطلق على بني إسرائيل فقط. خصوصًا إن قبل الأية دي في لعن وسب لآلهة المصريين، فغالبا المقصود: شعبي [الذي في] مصر
بمعنى: “سلالة يعقوب [بني إسرائيل] الموجودة في مصر”
خلينا ناخد النص من أوله.. معلش هو طويل شوية، بس ده النص مثار الفحص، واللي هايوضحلنا السياق، وما به من قرائن قوية على حاجات يصعب تصورها نظرا لموروثاتنا عن اليهود: [2]
وحي من جهة مصر: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها. وأهيج مصريين على مصريين، فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه: مدينة مدينة، ومملكة مملكة. وتهراق روح مصر داخلها، وأفني مشورتها، فيسألون الأوثان والعازفين وأصحاب التوابع والعرافين. وأغلق على المصريين في يد مولى قاس، فيتسلط عليهم ملك عزيز، يقول السيد رب الجنود. وتنشف المياه من البحر، ويجف النهر وييبس. وتنتن الأنهار، وتضعف وتجف سواقي مصر، ويتلف القصب والأسل. والرياض على النيل على حافة النيل، وكل مزرعة على النيل تيبس وتتبدد ولا تكون. والصيادون يئنون، وكل الذين يلقون شصا في النيل ينوحون. والذين يبسطون شبكة على وجه المياه يحزنون، ويخزى الذين يعملون الكتان الممشط، والذين يحيكون الأنسجة البيضاء. وتكون عمدها مسحوقة، وكل العاملين بالأجرة مكتئبي النفس.(إشعياء 19: 1-10)
ركزوا إن في خضم اللعنات في انقسامات داخلية في المملكة المصرية (الكلام شبه حرب أهلية أو حرب شوارع مع صراع على الحكم) وفي انتشار للسحر والشعوذة (الأديان البديلة) وفي ملك ديكتاتور مبياخدش رأي حد متزامن مع جفاف لنهر النيل، ومن ثم الترع السمك والسواقي والحقول والقصب والكتان وكل ده، بالتبعية هيتوقف، وتحصل مشاكل اقتصادية يعاني منها أكثر ناس العمال بأجر يومي.
عارفين ده حصل كام مرة؟ وإجتزناه كام مرة؟
ماتعدش!
الجزئية اللي بعدها بتتكلم بغشومية عن “صوعن”، وصوعن دي مدينة إتعملت في عصر الأسرة السادسة تاريخيًا. فكدا ممكن نجيب تحديد زمني أدق للكلام، وبرضو السياق مهم فخلينا نحط النص زي ما هو الأول: [3]
إن رؤساء صوعن أغبياء! حكماء مشيري فرعون مشورتهم بهيمية! كيف تقولون لفرعون: «أنا ابن حكماء، ابن ملوك قدماء»؟ فأين هم حكماؤك؟ فليخبروك. ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر. رؤساء صوعن صاروا أغبياء. رؤساء نوف انخدعوا. وأضل مصر وجوه أسباطها. مزج الرب في وسطها روح غي، فأضلوا مصر في كل عملها، كترنح السكران في قيئه. فلا يكون لمصر عمل يعمله رأس أو ذنب، نخلة أو أسلة. في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعد وترجف من هزة يد رب الجنود التي يهزها عليها. وتكون أرض يهوذا رعبا لمصر. كل من تذكرها يرتعب من أمام قضاء رب الجنود الذي يقضي به عليها.(إشعياء 19: 11-17)
الخلاصة العامة ممكن نقول: مزيد من اللعنات وسب الدين لمصر وشعبها ونظام حكمها، وﻻ في أي بركات، وكله “ردح إلهي” وفي نبرة تحدي واضحة لنظام الحكم اللي في “صوعن”.
نلاحظ إن النص ابتدأ يتكلم عن “رؤساء صوعن” وإنها مركز الحكم والقيادة (العاصمة) فكدا إحنَا ممكن بنتكلم عن الأسرة 12 مش السادسة، لأن الكلام عن صوعن مش كتأسيس وإنما كعاصمة رئاسية، وده محصلش في الأسرة السادسة وإنما بعدها، عند الأسرة 12. أما ذكر “رؤساء نوف” فده دلالة على العراقة والأصل القديم مش أكتر، ومنقدرش نعتبره دلالة على زمن لأن “نوف” هي “منف”، ممفيس، أو حوت كا بتاح [بيت روح الإله بتاح] ودي العاصمة القديمة جدا في الجيزة، ومن زمن تسمية مصر بإيجيبتوس اليونانية لوصف المملكة المصرية كلها في عصور ما قبل التدوين.
“صوعن” كعاصمة أو كنظام حكم مضببة وغامضة شوية، لأن حكام مصر [الفراعنة في عصر الأسرات] في الفترة دي مش كلهم من المصريين وفي كلام عن الـ “حكاو خاسو” [الملوك الرعاة] وده عليه نظريات كتير. منها من يقول إن دول الرعامسة [من مدينة رعمسيس] وده الكلام الكلاسيكي بتاع الوزارة واللي هو فعليا مش تاريخ قوي بقدر ماهو توافق على اعتقادات دينية [يهودية] غير محققة تاريخيا. ومنهم من يقول إن دول الـ “عابيرو”. وعابيرو دي مشكلة تانية لأنها بتطلق على شعبين سويا كان المصريين مش بيعرفوا يميزوهم عن بعض من الغباوة بتاعتهم: العبرانيين والعرب.. الإتنين قبائل بدوية بترعى غنم [مش شعوب زراعية] وحتى لغتهم العربي والعبري ذات أصول مشتركة وشبه بعض ووﻻد عم.
ربما مهم تعرف عن صوعن إنها كانت في وقت الأسرة 19 مقر عبادة الإله Seth [سِيت] عدو الإله حورس الشهير. القصة السياسية هنا إن ملوك الأسرة 12 أخدوا مدينة صوعن من الحكاو خاسو وأبقوا عليها كعاصمة، وحصنوها لجعلها مركز مراقبة الهجمات الشرقية على مصر. ومن وقتها بتتسمى بأسماء تاني زي افرس وتانيس، ولأنها مركز مراقبة للأعداء إتحطت (في زمن “سيتي الأول”، أسرة 19) رمز عبادة “سيت” ذو وجه “إبن آوى” لبث الخوف والرعب في الأعداء دول.
كدا لو ضمينا المعلومة الأولى بتاعت إن في حرب أهلية وإنقسامات داخلية، مع غموض مسألة الحكاو خاسو واللي مش معروفين مين بس هما أجانب بالنسبالنا (وقرايب بالنسبة للعبرانيين) وإن في صراع على الحكم بيننا وبين الحكاو خاسو والإتنين واخدين “صوعن” عاصمة.. فالكلام كدا ممكن -من وجهة النظر العبرانية على الأقل- إن ده اقتتال داخلي والمصريين بيقطعوا بعض.. فكدا بنحدد الزمن بدقة أكبر لأننا فهمنا خلفية المتكلم ونظرته للأحداث.
هانكمل مع النص اللي فجأة سياقه هايتغير، من اللعنات للبركات، والكلام هيتحول عن 5 مدن مصرية بتعبد الله الكنعاني – El إيل، بعد كل مظاهر الشردحة اللي فاتت دي كلها: [4]
في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتحلف لرب الجنود، يقال لإحداها «مدينة الشمس». في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود للرب عند تخمها. فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر. لأنهم يصرخون إلى الرب بسبب المضايقين، فيرسل لهم مخلصا ومحاميا وينقذهم. فيعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرا ويوفون به. ويضرب الرب مصر ضاربا فشافيا، فيرجعون إلى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم. في ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى أشور، فيجيء الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى أشور، ويعبد المصريون مع الأشوريين. في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور، بركة في الأرض، بها يبارك رب الجنود قائلا: «مبارك شعبي مصر، وعمل يدي أشور، وميراثي إسرائيل»(إشعياء 19: 18-25)
دي النهاية السعيدة بأه، والغير مبررة على الإطلاق..
مبدأياً، مملكة آشور معادية لمملكة إسرائيل.. ومملكة مصر احتلت مملكة يهوذا (أخت إسرائيل التوأم) في عصر الملك نخاو الثاني إبن بسماتيك الأول.. وأيوه فعلا المملكتين المصرية والآشورية حليفتان وصديقتان فدول طبيعي مع بعض على البابليين.. أما مملكتي إسرائيل ويهوذا فكانوا صغيرين جدا وبيتدهسوا وسط الكلام الكبير. فإزاي بقى يجتمع الحليفان القويان، مصر وآشور، مع عم يهوه اللي بيتشعبط في رضا واحد فيهم يحميه؟
هاتعرف إن الاستشكالية أكبر كمان لو عرفت إن الملك يوشيا، الموصوف بالملك الصالح، والوحيد اللي التوراة شكرت فيه من ملوك يهوذا، ده تحالف مع البابليين ضد نخاو التاني وعرقل أسطوله المتوسطي، فنخاو قتله ودهس مملكة يهوذا وكمل طريقه لنصرة الحلفاء في آشور باتجاه جلجميش. ده سبب احتلال مصر أساسًا لمملكة يهوذا، إحتلوها بالمرور، بالصدفة، ومكانتش في الذهن خالص (إحتقاراً، لأنها مش ند تخاف منه) وتم تحويلها لمقاطعة تحت السيادة المصرية، لذا فالعداء الديني متوقع يكون صعب جدا على مصر اللي قتلت أنضف ملك ذكرته التوراة.. يعني اللعنات والشتائم طبيعية جدا، لكن المباركة هيّ اللي مش طبيعية.. إزاي وتيجي إزاي؟
«شعبي [مصر] – عمل يدي [آشور] – ميراثي [إسرائيل]»
دول 3 ممالك.. ثالوث الممالك ده كيف يعبّر عن نسق ديني توحيدي كله لـ”يهوه”؟ شعبي ويدي وميراثي!؟
كدا إنت ممكن تكون فهمت الاستشكاليات بشكل كبير، ومن اللي جاي، هانتكلم بالفصحى لدواعي الدقة،
ﻻ يوجد اتفاق بين المؤرخين على ماهيّة الدين العبراني في ذاك العصر. نحن نلاحظ -بحسب سفر الملوك على الأقل- أن أغلب الأوقات يعبد اليهود آلهة مختلفة، ﻻ توجد سوى استثناءات بسيطة في تاريخهم الذي يصفه سفر الملوك أيضًا، الاستثناء هو أن يعبد اليهود “يهوَه” فقط كما في فترة حزقيا ويوشيا.
نلاحظ أيضًا عبر تعبيرات وتراكيب لغوية في أسفار العهد القديم أكبر من أن تحصى، أن يهوَه يقدّم نفسه باعتباره “إله الآلهة” [كبير الآلهة]، التعبيرات الشبيهة توضح أن يهوَه ليس هو “الإله الوحيد”، لكنه الإله الأعلى، أو الأقوى، أو الوحيد الجدير بالعبادة، لكن ليس بالضرورة الإله الوحيد الموجود. بطريقة أخرى: يقدّم نفسه كإله حقيقي في وسط آلهة مزيفة أو محدودة أو ضعيفة على الأقل.
في الفترة المُبكرة من تاريخ الشعب العبراني لم يكن الاعتقاد بوجود "إله واحد" بنفس المعنى الذي يبدو عليه اﻵن، الدين العبراني لم يكن Monotheistic [توحيد أحادي خالص]، لأن الصورة التي يقدمها سفر الملوك أو الكتب المُبكرة هو انه أحد أنواع الـMonolatrism [الإيمان بوجود العديد من الآلهة، مع العبادة الثابتة لإله واحد فقط]، بمعنى أن التوراة ذاتها تدعم الاعتقاد بوجود عدة آلهة، لكن الإله الوحيد الجدير بالعبادة هو يهوَه، بل أن هذا التصوّر لم يكن منتشرًا سوى عند النخبة المثقفة والكهنة والأنبياء، لكن أغلب عوام اليهود كانوا يعبدون عدة آلهة إلى فترة السبي تقريبًا، ولم يحدث أن اليهود عبدوا إلهًا واحدًا بالشكل التوحيدي المونوثيستي سوى في فترات قليلة كالتي تم ذكرها.
أما بعد فترة السبي، بدأت الأفكار اليهودية تميل إلى أن: يهوة يعاقبنا.. ويهوة فقط من يمكنه هذا.. وهو [يهوَه] من قال لنا هذا.. وبدأت الاعتقادات تتحرك إلى شكل التوحيد المونوثيستي بشكل جماعي واسع، ولم يحدث الثبات على الشكل التوحيدي الخالص الأخير إﻻ في عصر مُتأخر قد يصل لعصر المكابيين في القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد.
من ناحية أخرى، كان الإله El إيل، هو إله الكنعانيين، وقد استخدمه العبرانيون الأولون في التعبير عن يهوَه، هذا التشويش والتداخل في الرمز الديني كان له توظيفًا سياسيًا مفيدًا. فكرة أن إله العبرانيين في الشمال [إله إسرائيل] و”إيل” [إله الكنعانيين] متداخلين أو متشابهين أو هما نفس الإله، هي فكرة ساعدت بشكل ما في تأقلم العبرانيين من مملكة إسرائيل مع جيرانهم الكنعانيين. وفكرة أن شعب ما، يقدم آلهته باعتبارها نفس آلهة الشعوب المجاورة بشكل عام، هي فكرة تعكس سعيًا للدمج والاندماج مع الشعوب المجاورة. وربما تكون هذه النظرة أكثر وضوحًا مع الحضارات والثقافات الأكبر والأضخم مثل علاقة اليونان بالرومان، والتي تحوي بالضرورة أفكارًا دينية أن كل رمزٍ أو إله، له نظير عند الشعب الأخر مثل زيوس ونظيره جوبيتر، وغيرهم.
تساعد أفكار اﻵلهة المتناظرة أو المتماثلة أو حتى الأفكار الأعمق مثل توحيد الإله الواحد في أديان مختلفة [مثل "الله" في الأديان الإبراهيمية، والإسلام بالأخص] على تعزيز الثقة بصحة العقيدة الذاتية (لزيادة مساحة معتنقيها ولو بالشبه وبالخطأ وبالتحريف) وأيضًا تعزيز مسألة قبول اﻵخر (فاﻵخرين الذين يعبدون نفس آلهتنا، هم شبهنا، هم مثلنا، هم: "نحن"). ووفقًا لنظرية "نُسق المعتقد" لعالم الاجتماع: ميلتون روكيتش (1960): إنّ التناظر أو التماثل أو التطابق بين المعتقدات يحدد مواقف الجماعة من الجماعات الأخرى بشكل كبير، فكل من يشاركنا المعتقد، هم: "نحن"، وكل من يخالف معتقداتنا هم: "الآخرين"، المعادين أو الخصوم. [5]
والإله “إيل” هنا هو فكرة تساعد في تأقلم شعب مملكة إسرائيل في الشمال مع جيرانهم الكنعانيين في هذا الوقت، وعندما حدث هذا وتم اعتبار “إيل” الكنعانيين إله مُكافئ لإله العبرانيين، تم عبادة بعض الآلهة الأُخرى مع يهوَه [إيل]، أشهرهم الإلهة أشيرا [عشيرة أو عشتار، وظهرت باسم عشتروت في الكتاب المقدس وهو اسمها عند الفينيقيين، وهي إنانا لدى السومريين، إفروديت في اليونان القديمة، فينوس عند الرومان].
كنا قد شرحنا في دراسة سابقة [6] فكرة التوظيف السياسي لفكرة اﻵلهة المتناظرة في مساعدة الشعوب البدائية على التأقلم الاجتماعي مع الشعوب الأخرى، خاصة بعد الحروب، لذا لن نكرره [لكنه أساسي في الفهم التاريخي والسياسي، أي تحرك في اﻵلهة هو نتاج تحدي زمني أدى لتطوّر فكرة الله بشكل يتواءم مع التحدي الزمني، ويستطيع تفسير التحدي الجديد بشكل ﻻهوتي].
في خلال فترة السبي البابلي، اضطر اليهود إلى الهرب من مملكة يهوذا إلى المملكة القوية التي يكرهونها، وكُتب عنها سفر الخروج: المملكة المصرية. وبالتأكيد كان هذا يعكس تحديات زمنية جديدة إستدعت تطويرا ﻻهوتياً يستوعب هذا التحدي.
بالأخذ في الاعتبار ما ذكرناه عن تناظر اﻵلهة في التأقلم مع الشعوب خاصة بعد أوقات الحرب والعداء، وبالعودة إلى العدو “مصر”، كان بعض اليهود يعبد يهوَه في elephantine temple معبد إلفنتين [معبد فِيَلَة القديم] في جزيرة فِيَلَة في أسوان، ويقدمون العبادة للثالوث: (يهوَه، عناة، خنوم). [7]
عناة: هي إلهة كنعانية، مقر عبادتها يقع في مدينة عناتوت الإسرائيلية، وعناتوت بالأصل على اسم الإلهة عناة، زوجة الإله الكنعاني إيل، والذي إستخدمه العبرانيون كاسم بديل لـ”يهوة” في تناظر مع إله الكنعانيين سلفا.
أما الإله خنوم فهو الإله المسؤول عن فيضان النيل عند قدماء المصريين، والذي كان يُعتقد أنه الإله الذي يخلق الأطفال من طمي النيل ويضعهم في أرحام الأمهات، فكان يتم اعتباره إله للخصوبة أيضًا.
فكرة السبي البابلي الذي دمر من خلاله الملك نبوخذ نصّر الثاني، المملكتان اليهوديتان: إسرائيل ويهوذا، من الطبيعي أن تثير الذعر الوجودي لمسألة “بقاء النسل اليهودي”، ومن هنا يكتسب إله الخصوبة “خنوم” أهمية قصوى للعبادة بجوار يهوه [الأصل أو اﻵب العبراني] و”عناه” زوجة “إيل” الكنعاني، والأم الجنسية الحنونة [عشيرة القديمة] والتي كانوا يعبدونها سلفًا وأتت معهم إلى مملكة مصر من عناتوت الإسرائيلية.
نعود ونؤكد أننا نتحدث عن فئة، وﻻ نستطيع الجزم بأن كل اليهود في مصر كانوا يتعبدون ليهوَه بهذا التصوّر الثالوثي. بل كثير من الهاربين لمصر كان يعاني وأحيانًا يُضطهد بسبب أن يهوَه -بالنسبة له- ﻻ مثيل أو نظير له عند الشعوب الأُخرى. من أشهر كتبة التوراة الذين عاصروا هذه الفترة وهربوا إلى مصر، إرميا النبي والكاهن العبراني، والمنسوب له كتاب المراثي كاملًا، والذي وُلد في مدينة "عناتوت" عام 645 ق.م. [8] بالإضافة لتلميذه نحميا النبي والكاهن، والمنسوب له كتاب [سِفر] نحميا كاملا.
معبد إلفنتين قد تم تدميره فيما بعد، والمصادر التي عرفتنا بوجوده وطريقة عبادته هي elephantine papyri [مخطوطات / برديات إلفنتين]، وهي مجموعة أثرية تتكون من 175 مخطوطة أو بردية كل منها وثيقة كاملة، وألوف من الشظايا والهتًامات المبعثرة. وقد راعيت في هذه الدراسة ترجمتها كما هي باسم “إلفنتين” وليس “فِيَلَة” حتى لا يحدث تداخل اصطلاحي مع جزيرة فيلة أو معبد فيلة الحاليين.
من المحتمل أن تكون الجالية اليهودية في إلفنتين قد تأسست كمنشأة عسكرية في حوالي عام ٦٥٠ قبل الميلاد، في عهد منسى. من الأمور الضمنية الواضحة من الوثائق التاريخية، بما في ذلك الكتاب المقدس، أن “منسى” أرسل فرقة من الجنود اليهود لمساعدة الفرعون بسماتيك الأول [٦٦٤-٦١٠ ق.م.] في حملته على النوبة، والانضمام إلى بسماتيك في التخلص من نير آشور، ثم نير الإمبراطورية الآشورية، القوة العظمى العالمية. نالت مصر استقلالها، لكن ثورة منسى [ضد آشور] باءت بالفشل؛ لكن الجنود اليهود بقوا في مصر.[9](Prof. Bezalel Porten, Biblical Archaeology Review, May-June 1995 issue)
يعتبر المجتمع اليهودي في إلفنتين غير معتاد من حيث أنه احتفظ بعدد قليل جدًا من العادات الكتابية، وعلى الرغم من أنهم كانوا يتعبدون في معبد يشبه إلى حد ما معبد سليمان في التصميم، إلا أن قانون الكتاب المقدس العبراني يحظر إنشاء مثل هذا الصرح.
يجمع الدارسين على أن هذه البرديات سابقة على كتابة التوراة، ومن ثم لم يكن الحظر التثنوي بالذبح خارج أورشليم مطبقًا بعد. علاوة على ذلك، تُظهر برديات إلفنتين أن المجتمع استخدم اللغة الآرامية بدلًا من العبرية. كل هذا قد حير الدارسين. إحدى النظريات هي أن هؤلاء اليهود كانوا في الأصل من مجتمع شمالي يقع في سوريا (ربما يشبه البؤر الاستيطانية الإسرائيلية الشمالية المذكورة في الكتاب المقدس [10]). وربما كان هذا المجتمع مكونًا أيضًا من الفرق السامرية الوثنية، التي حلت محل مملكة إسرائيل الشمالية بعد هزيمتها النهائية عام 718 ق.م. على أي حال، يمكن القول إن الحالة الدينية في عهد منسى كانت أسوأ وأكثر دموية من الأمم الوثنية المحيطة، لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن الممارسات الدينية في إلفنتين ستكون “يهودية” بالاسم فقط. [11]
البردية رقم 30 من برديات إلفنتين، تعطينا معلومات عن أسماء أشخاص مذكورين في الكتاب المقدس، مما يعد دليلًا أركيولوجيًا يساعدنا في ضبط التقاطعات المبهمة عن الزمن المعني. تبدأ البردية بالنص التالي:
إلى باجوهي [باغوص] والي يهوذا، [من] الكهنة الذين في قلعة ألفنتين.
«[أرسلنا] رسالة [إلى] سيدنا يهوحانان، رئيس الكهنة، وزملائه الكهنة الذين في أورشليم، وإلى أوستانيس شقيق عناني ونبلاء اليهود»(مطلع البردية رقم ٣٠، برديات معبد إلفنتين)
البردية في مجملها هي نسخة من رسالة رسمية، أُرسلت إلى أورشليم، من معبد YHW [يهو] وهو الشكل اﻵرامي للكلمة العبرية YHWH [يهوه] الذي تم بناؤه في قلعة إلفنتين، وفحوى الرسالة تطلب الإذن بإعادة بناء المعبد بعد تدميره على يد القوات المصرية.
سنعود للوالي “باجوهي” بعد حين، يهمنا “يهوحانان”، رئيس الكهنة. و”يهوحانان” هو نسخة أطول من اسم “يوحنان”، والمقصود هنا هو “يوحنان بن ألياشيب” رئيس الكهنة الذي خدم في زمن عزرا ونحميا [12]، والأمضى دلالة من ذلك أنه مذكور بنفس النسخة الأطول: “يهوحانان بن ألياشيب” في سفر عزرا. [13]
عن يهوحانان، الكاهن الأعظم، يسجل يوسيفوس، مؤرخ القرن الأول الميلادي، بعض المؤامرات التي شارك فيها. يوضّح المؤرخ يوسيفوس وجود خلاف بين يهوحانان وباجوهي [الوالي الفارسي في بداية الرسالة، والذي من المحتمل أنه تولى المسؤولية خلفًا لنحميا نفسه]. يسجل يوسيفوس أن باجوهي كان ينوي تنصيب يشوع بن ألياشيب، شقيق يهوحانان، مكانه رئيسًا للكهنة. فتجادل يهوحانان ويشوع أخاه في الهيكل، وفي نوبة غضب قتل يهوحانان أخاه كي يحظى برئاسة الكهنوت بعد ذلك. يروي يوسيفوس أيضًا تأويلًا دينيًا للحدث التاريخي، بأنه -كعقاب إلهي- تم استعباد اليهود وتدنيس الهيكل من قبل الفرس بعد ذلك. (آثار اليهود [14]).
جاء في نهاية البردية أسماء أخرى مفيدة في التتبع:
وهذا كله [موثق] برسالة أرسلناها باسمنا إلى دلايا وشلميا ابني سنبلط والي السامرة(نهاية البردية رقم ٣٠، برديات معبد إلفنتين)
البردية هنا تذكر اسم سنبلط، والمقصود هو سنبلط الحوروني، حاكم السامرة، المذكور عدة مرات في سفر نحميا. ورسمته كتابات نحميا كعدو لدود لليهود الذين كانوا يحاولون إعادة بناء السور حول أورشليم. كان سنبلط الحوروني في الواقع على صلة قرابة بيهوحانان، رئيس الكهنة، حيث كانت ابنة سنبلط قد تزوجت من العائلة الكهنوتية ألياشيب [15] حاول سنبلط إحباط جهود نحميا في إعادة تأسيس أسوار أورشليم، وتآمر عليه مع جشم العربي كما تشير كتاباته: [16]
ولما سمع سنبلط وطوبيا وجشم العربي وبقية أعدائنا أني قد بنيت السور ولم تبق فيه ثغرة، على أني لم أكن إلى ذلك الوقت قد أقمت مصاريع للأبواب، أرسل سنبلط وجشم إلي قائلين: «هلم نجتمع معا في القرى في بقعة أونو». وكانا يفكران أن يعملا بي شرا.(سفر نحميا، الإصحاح 6: 1-2)
يأتي اسم سنبلط مركبًا من مقطعين: سين-بلط، وهو مأخوذ من اسم الإله «سين»، إله القمر الآشوري، ومعنى اسمه بالكامل: “إله القمر أعطى الحياة”، أما “حران” فهي مدينة قديمة في بلاد ما بين النهرين العليا بالقرب من الحدود الحديثة بين تركيا وسوريا. وكانت مركز عبادة الإله «سين» في الشمال مع مدينة “أور” في الجنوب. الاسم ذاته يحمل دلالات إعتقادية غير يهودية، ومن المحتمل أن يكون الحورونيون من بين تلك الأمم التي تم نقلها إلى السامرة ليحلوا محل الإسرائيليين الذين أجلاهم الآشوريون في حوالي 721-718 قبل الميلاد. [17] وكان سنبلط الحوروني بالفعل حاكمًا للسامرة [بقايا مملكة إسرائيل، وعاصمتها أورشليم] قبل ولاية نحميا الأولى، والتي بدأت حوالي عام 445 ق.م.
ومن هنا نفهم أن كهنة معبد إلفنتين، حوالي عام 407 ق. م.، كانوا قد طلبوا المساعدة ليس من سنبلط، بل من ابنيه شلميا ودلايا. بالإضافة إلى طلب الإذن من يهوحانان، الكاهن الأعظم، في إعادة بناء المعبد الثالوثي (يهوَه، عناة، خنوم) على طراز معبد أورشليم، المحظور مماثلته أو مناظرته. أيضًا يمكننا استخلاص بعض الأدلة على النزاع الذي أشار له المؤرخ يوسيفوس، بين باجوهي [الحاكم] ويهوحانان [الكاهن]، إذ بينما يلجأ كهنة معبد إلفنتين إلى كلاهما، فإن رد باجوهي بالموافقة على بناء المعبد لم يشر إلى رئيس الكهنة. وبشكل يمكننا منه استخلاص أن مسألة الموافقة على هذا التصوّر الثالوثي، ربما تكون مدعومة من الحاكم [اﻵشوري] رغماً عن رئيس كهنة اليهود، أو بالتخطي لإذنه وتهميشًا لدوره. أيضًا لا يجب أن ننسى أننا نتحدث عن جالية عسكرية تستقر على جزيرة فِيَلَة المصرية، وليس عن عموم العبرانيين الهاربين إلى أرض مصر.
حتى في المنفى وما وراء ذلك، فإن عبادة الإلهة الأنثى استمر.[18](البردية AP-44، السطر الثالث، بحسب تكويد كاولي، برديات معبد إلفنتين)
تعتبر برديات إلفنتين وثائق أركيولوجية مثيرة للاهتمام، تأخذنا في رحلة عبر الزمن لنتعرّف على مجتمع يهودي شاذ وشيق ومثير للاهتمام، وفي حين أنها تثبت عددًا من العناصر الكتابية، أبرزها الوجود التاريخي لعدو نحميا اللدود سنبلط الحوروني والكاهن الأكبر يهوحانان بن ألياشيب. إﻻ أنها في الوقت ذاته تنفي سمة التوحيد اليهوي الخالص لهؤلاء الكهنة، وتؤكد عبادة ثالوثية تقدم لثلاثة آلهة (يهوَه، عناة، خنوم). وربما تكون هذه الفئة القليلة من يهود معبد إلفنتين هم المقصودين بالتعبير: شعبي [الذي في] مصر
، أما الثالوث: «يهوَه [الإسرائيلي]، عناة [اﻵشورية]، خنوم [المصري]» فنجد أصداء المباركة له واضحة في التعبير: «مبارك شعبي [مصر]، وعمل يدي [أشور]، وميراثي [إسرائيل]»
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- لماذا ﻻ نقول بوراثة الخطية مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ (رسالة بولس إلى رومية 5: 12) واضح أن آدم هو الذي أخطأ وليس ذريته ولذلك قال الوحي ”إنسانٍ واحدٍ“ والخطية تؤدي إلى الموت لأنها انفصال عن حياة الله وقداسته ”وبالخطية الموت“. “وهكذا اجتاز الموت......