المقال رقم 23 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

 ”أنا فيهم وأنت فىَّ ، ليكونوا مُكَمَّلين إلي واحد، وليَعلَم العالم أنك أرسلتني، وأحببتَهم كما أحببتني“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٢٣)

أنت  فيَّ … أحببتني
كلمات تشهد للحب المطلق بين أقانيم في الله الواحد لأن ”الله محبة“. هذا الحب المطلق هو الضمان المطلق لوحدانية المشيئة والإرادة والعمل بين أشخاص/ أقانيم الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس.

وليَعلَم العالم أنك أرسلتني
هذا الحب الثالوثي أعلن ذاته للعالم بتجسد ”أبن الله“  من أجل خلاص الإنسان، وهو إعلان وشهادة  للعالم بحب الله العجيب للإنسان.

أحببتَهم كما أحببتني
والدليل علي المقابلة في هذه الآية بين حب الآب للابن وبين حب الآب للإنسان هو أن ”الله الآب“ لم يَضِنّ بابنه الحبيب من أجل خلاصنا.

أنا فيهم وأنت فىَّ
أنا فيهم (بالناسوت الواحد)وأنت فيَّ (باللاهوت الواحد) “
لقد ظهر الله في الجسد بتجسد الابن  للتكفير عن خطية وذريته، و تبريره و تقديسه ”من أجلهم أقدِّس أنا ذاتي“. وبذلك فتح الباب لقبول كل إنسان يؤمن  بألوهية المسيح ”أبن الله“ ويتحد بناسوت ”أبن الإنسان“، فيدخل مجال حياة الله وخلوده.

وليَعلَم العالم أنك أرسلتني
مَن تألَّه في المسيح يسوع  حَسَبَ ما قاله الرب، فإنه حتماً ستنضح سيرته بملامح سيرة مسيحه البار القدوس،  ويصير مسيحاً يشهد بين الناس دون أن يدري. هكذا يتمسحن العالم ويصير الكل للرب ومسيحه. فالخدمة والكرازة بالمسيح لا تحتج كاريزما الخادم – كما يعتقد البعض – بقدر ما تحتاج حياة المسيح فيه وسكني الروح القدس.

أريد أن هؤلاء يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٢٤)

يقول المثل المصري أن معرفة الإنسان لشخص ما، لا تكون صادقة إلا من خلال المعاشرة والحياة المشتركة للشخصين. هكذا أيضاً علاقتنا بشخص الرب حَسَبَ العدد (٢٤)، فالإيمان هو عِلاقة بشخص الله الحي ”يكونون معي“.

لذلك فالمسيحية ليست فكرة أو معرفة عقلية بل شركة حياة يومية مع شخص الرب.

وقد قدَّم الرب مبادرته بأن يدخل بشخصه إلي قلب كل إنسان يؤمن به، لينال نعمة الوجود في حضرة الله : ”هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي.“ (رؤ ٣: ٢٠) وعندئذ تنفتح العين وتري مجد الرب.

أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك أمَّا أنا فعرفتك“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٢٥)

قول حاسم و باتر يجدر بنا أن نستلهمه من الرب. فهو تقرير مصير و شهادة انتماء إلى الآب وملكوت الله. فإن المعرفة (عدد ٢٥) القائمة علي خبرة المعاشرة  و حياة الشركة  (عدد ٢٤) تُنشِئ الانتماء. وانتماؤنا للمسيح يحرق جذور كل أنتماء غريب يتسلل إلي قلوبنا بغواية عدو الخير.

فهذا الملعون يتفنن في شيطنة أدوات العصر اللازمة لوجودنا في العالم ليجعل منها  أهداف مصيرية – في حد ذاتها – تربط الإنسان بها في انتماء بعيدً عن الله. هكذا أصبح المال والوظيفة والصحة والنفوذ والشهرة… إلخ  بمنزلة أهداف – وليست وسائل – استعبدت الإنسان لها فصار إليها أشتياقه وانتماؤه.

إن العالم لم يعرفك
لقد خدع عدو الخير أبوينا آدم و بشيطنته لمِا وضعه الله لخيرهما في جنة عدن – إن جاز لنا القول -، ليستخدماه وَفْقاً لقصده الشرير فكان السقوط. لقد شيطن أشتياقَهما لتحقيق وعد الله لهما بأن يصيرا ”مثل الله “. فأشار عليهما بمعرفة غير متألهة غاشة ليست من خلال الانتماء لله والعشرة معه :” تصيران مثل الله عارفَين الخير والشر …“  فسقطا. (ملحوظة: إن الله ومعرفته تخلو من الشر.)

أمَّا أنا فعرفتك
إن المعرفة التي يتكلم عنها الرب يسوع المسيح في هذه الآية، هي المعرفة التي كان علي آدم الأول أن ينمو فيها خلال عشرته بالله في الفردوس ولكنه فشل بغواية الحية. فشكراً ليسوع المسيح الذي أكمل – من أجلنا – كل برٍ كإنسانٍ لبس بشريتنا وعاش مثلنا علي الأرض وأستخدم أدوات العصر في سيرة مقدسة، ثم تركها لنا كنعمة من نِعم تجسده وميراث للمؤمنين به، يثبتهم في حياة شركة و أنتماء للثالوث القدوس علي مثال المسيح ”أبن الإنسان“. هذا ما يشير إليه الكتاب المقدس في مواضع أخري بأنه نعمة  ”بر المسيح“ أو  ”تبرير المسيح للإنسان“.

وعرَّفتَهم أسمك وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم“.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٢٦)

هذه الآية هي تلخيص لسبب خَلق الله للإنسان، ولماذا يريده أن ”يعرف الله “. و أنه لكي يسكب الله حبه في الإنسان ”ليكون فيهم الحب “. إن الحب هو طبيعة كيان الله ”الله محبة“. وهو سبحانه في اكتفاء ذاتي بحبٍ مطلق بين الأقانيم الثلاثة : ”الحب الذي أحببتني به“. وعندما ”يحِّل المسيح بالإيمان في قلوبنا“، وتتحقق كينونة المسيح فينا: ”وأكون أنا فيهم“، يفيض الحب الإلهي في الإنسان” ليكون فيهم الحب“.
هذا هو الهدف الأساسي من عمل الخَلق ”نعمل (إشارة للآب والابن والروح القدس) الإنسان علي صورتنا كشبهنا“. فلقد  خلق الله الآب الإنسانَ بالروح القدس علي ”صورة“ الابن. وإن عِلاقة الإنسان بأصل الصورة هي الهدف. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أنعم الله عليه بإمكانية العِلاقة الخاصة معه ليغمره  بحبه العجيب.

لقد أعطى الله للإنسان أن يختار بحرية أرادته هذه النعمة، فتنطبق الصورة علي الأصل و يتحقق الشبه بالأصل ”كشبهنا “. هذا يكون للإنسان عندما يَقبل بكينونة المسيح داخل قلبه ”وأكون أنا فيهم“. هذا هو الاتحاد بالمسيح.  وهو أصل عقيدة  ” الثيؤسيس“ أي تأله الإنسان في المسيح يسوع. وهي عقيدة في  الكنيسة الأرثوذكسية وتكلم بها آباؤها.

لقد حقق المسيح بتجسده ما أخفق فيه آدم. ففي شخص يسوع المسيح تم  اتحاد الإنسان بالله ولذلك ”انسكبت محبة الله الآب في قلوبنا بالروح القدس“ كقول الكتاب. و ظهر ذلك عياناً بحلول الروح القدس مثل حمامة علي شخص يسوع المسيح  أثناء معموديته في نهر الأرْدُنّ، ثم بحلول الروح القدس كألسنة نار علي تلاميذه يوم الخمسين.

(تمَّ : إلي هنا أعاننا الرب في قراءة أنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر)

والسُبح لله.
بقلم د. رءوف ادوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (٣)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (٤) 1
[ + مقالات ]