المقال رقم 22 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

مررنا عبر المقالتين السابقتين على صلاة الرب يسوع في الإصحاح السابع عشر في انجيل يوحنا، ونستكمل هنا الاطلاع عليها متأملين في كلماتها الإلهية.

ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٢١-٢٢)

يؤمنون بي بكلامهم
الرب يكشف عن ملامح كنيسته التي هي محور اهتمام وموضوع طلبة المسيح إلهنا وصلاته إلي أبيه الصالح في هذا الإصحاح. و كيف أن الإيمان بشخصه المبارك هو قدس أقداس المسيحية والمسيحيين. وأن هناك خيط رفيع يفصل بين الإيمان بالمسيح وعلاقة المؤمنين به، وبين أرتباط المؤمنين  بخدام كلمة الرب. فمِن عثرات الخدمة في الكنيسة أن يتوارى شخص المسيح بينما يتعاظم الاهتمام بالقديسين الذين خدمونا بكلمة الرب.

 ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا
إن منهج و روحانية الخدمة المسيحية الغير الكاذبة تتجلي في كل خادم بالكنيسة يمتلئ شخصياً بالمسيح فلا يحتاج أن يقدم شخصه هو إلي الناس بل يقدم شخص المسيح الحي والحاضر والمُعلَن في كلمة الإنجيل ”وكان الكلمة الله“. فعندما يكون شخص المسيح وحده هو الهدف، عندئذ يتحقق قصد وتدبير الثالوث القدوس من تجسد المسيح :”ليكون الجميع واحداً “. والعكس صحيح، إذ تتعطل الخدمة المسيحية وينشأ الانقسام والتكتل والطائفية والتحزب بين طوائف المؤمنين بالمسيح، بل وفي داخل نفس الطائفة، عندما يحجب الخدام شخص المسيح و ينشغلون بذواتهم ليُظهِروها ”كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟ “ (يوحنا ٥).

ليؤمن العالم أنك أرسلتني
فعندما يكون شخص المسيح  هو ”الكل في الكل“ في حياة الكنيسة رعاةً ورعية، تصير الكنيسة امتداداً لمسيحها في العالم. فليَعلَم كلُ خادمٍ للمسيح أن العالم مملوء “بأبناء هذا الدهر” والكثير منهم ذوي ملكات شخصية وبشرية أعظم من خدام الكنيسة ”أبناء النور“ (لوقا ١٦).
إن الناس تقرع باب الكنيسة ليس بحثاً عن شخص الخادم وكاريزمته، ولكن شخص المسيح الفادي، الذي هو حبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت وصارت طحيناً مقدساً. فلا تحجبوا شخص المسيح  بأشخاصكم لأن العالم سينصرف عنكم وعن الكنيسة التي لا يجدون فيها حبة الحنطة وطحينها.

كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا
لقد طلب المسيح أن نكون ”واحداً فيه“ أربع مرات في ثلاث كلمات متتالية (يو ١٧ : ٢١-٢٣)، ولكن هناك قادة للكنائس منقسمين ويقسمون شعب المسيح  بحجة حماية الإيمان، علي الرغم من تأكيد الرب أن المؤمنين هم كنيسة واحدة “فيه” بسبب أتحادهم بجسده الواحد الغير منقسم. وبذلك فإنهم ”واحداً فينا“، لأن المسيح أبن الله هو واحد بلاهوته في الثالوث القدوس الغير منقسم.
فمهما تنازع قادة الكنيسة وقسموا شعب المسيح إلي طوائف إدارياً، فإن الرب يؤكد  للمؤمنين به أنهم واحدٌ فيه. فالمسيح واحدٌ غير منقسم ونحن فيه … ومن يتنازع من رؤساء الكنائس فليتنازع بَعد … لقد قُضِيَ  الأمر من فوق رؤوسهم.

والرب له المجد يؤكَّد هنا علي ضمان وحدة المؤمنين في كنيسته أنه أمرٌ مقضيٌ و غير قابل لعبث رؤساء كنائس، فوضع المقابلة بين وحدة المؤمنين في المسيح  وبين الوحدة المطلقة لأشخاص الأقانيم الثلاثة في الله الواحد.
إن الإيمان بالمسيح أنه أبن الله المساوي مع الآب والروح القدس في اللاهوت الواحد لله القدوس، وأنه تجسد وذاق الموت وقام من بين الأموات من أجل خلاصنا وأصعدنا فيه وأجلسنا في السموات عن يمين الآب، هذا الإيمان  هو الأساس الذي وضعه الرب لوحدة كنيسته المقدسة. وبذلك  فهي كنيسة  مستقيمة الرأي (= أرثوذكسية) جامعة (= كاثوليكية) رسولية (= أنجيلية تأسست علي كلمة الإنجيل التي كرز به الرسل).

وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد.
(إنجيل يوحنا ١٧ : ٢٢)

المجد الذي أعطيتني
المسيح هو “أبن الله” الوحيد الجنس لأنه واحدٌ مع الآب في الجوهر/ اللاهوت؛ حيث ليس هناك سابق ولا لاحق في أقانيم الله الواحد الثالوث القدوس. إن مجد “أبن الله” هو ذاته مجد الله الآب و الروح القدس. و مجد الله هو مجد ذاتي للاهوت الله الواحد، لا يُشارَك  و لا يُعطَي خارج الطبيعة الإلهية الواحدة لله.

وبالتالي، فإن (يو ١٧ : ٢٢) بالضرورة هو عن المجد الذي أعطاه الآب قبل خلق العالم  وخلق إلى “أبن الإنسان” الذي علي صورة  وشبه “أبن الله”. و من هنا تظهر أهمية التعبير المحوري الذي أستخدمه المسيح “أبن الله” ليَستعلِن طبيعة “أبن الإنسان” فيه، فقال في سفر الرؤيا  ”أنا أصل و ذرية داود“ فالمسيح هو أصل ذرية داود بكونه “أبن الإنسان”، الأصل الذي خُلِقَ عليه آدم. والمسيح هو مِن ذرية داود بسبب ولادته من العذراء مريم في ملء زمان تاريخنا.

إن مفردات وكلمات الآية (٢٢) التي قالها المسيح “أبن الله”  تشير بالضرورة  إلي شخصه (كابن الإنسان) لأنها تتكلم عن بشر (ذرية داود). والرب يتكلم في الآية (٢٢)  عن القصد النهائي من “” في التجسد الإلهي و كيف أنه  لتكميل “تدبير الخلق” بأن ينعم الله لمحبوبه الإنسان بالشركة في مجال حياة ومجد الله، والذي أخفق آدم الأول أن يناله عندما خالف “تدبير الخلق”. إن طبيعة آدم  وذريته قد تجددت بتجسد المسيح “أبن الله” لأنه  أعادها إلي أصلها  Prototype الذي هو “أبن الإنسان” المخلوق علي صورة”أبن الله” و أتحد به  قبل خلق آدم ”مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح … أختارنا فيه (أبن الإنسان) قبل تأسيس العالم … إذ سبق فعيننا (آدم و ذريته) للتبني بيسوع المسيح لنفسه “. (أفسس١).

إن “تدبير الخلق” هو منتهي التعبير عن حب الله المطلق، عندما خلق الإنسان من العدم … لقد خلقه حراً … يستطيع أن يختار بحرية إرادته أن يخلُص من قابلية الرجوع إلي العدم “الفساد” حيث أتى، بأن يواصل أنتماءه للصورة الإلهية المخلوق عليها، فيتحقق له وعد الله (بالشبه) بخالقه، أي ينال نعمة الخلود بالشركة في مجال حياة الله إلي الأبد. فنقرأ في سفر التكوين (تك ١ : ٢٦-٢٧) عن قصد الله في “تدبير الخلق” أن يكون  الإنسان علي صورة الله فيمكنه أن يرتقي – بحرية أرادته – ليكون على مثال / شبه الله في الخلود ”وقال الله: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا»“. فكان خلق آدم علي صورة الله فقط في أنتظار أن يتحقق الشبه ”فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه“.  ثم سقط آدم بغواية  الشرير، دون تحقيق قصد الله (الشبه).

ولكن الله الذي يقول “كن فيكون” لا تفشل مقاصده. فإن تكميل “تدبير الخلق”  قد تحقق من قَبل خَلق العالم أو خَلق آدم !! هنا يتجلى لنا شخص ”أبن الإنسان“ ( دانيال ٧).  وفيه قد تحقق ”تدبير الخلق“ للإنسان علي صورة  و  شبه/مثال  “أبن الله”.

إن لا يمكن أن يُسقِط تدبير الله في خلق الإنسان. ففي “مِلء الزمان” لبِس (أبن الإنسان المتحد بإبن الله) جسد آدم بعد السقوط وأكمل فيه مفاعيل الخلاص (تكفير / تبرير/ تقديس) و حقق “الشبه” لآدم  و ذريته.

هذا هو تجديد الطبيعة البشرية  لآدم  وذريته برجوعها إلي أصلها المخلوق (أبن الإنسان) الذي أتحد بالمسيح (أبن الله) لأنه علي صورته ومثاله. ولذلك تحقق له نعمة الدخول  إلي شركة حياة  الله إلي الأبد  “كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل أبن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فَقَرَّبُوهُ قدامه. فَأُعْطِيَ سلطاناً ومجداً” (دانيال ١٣:٧).

ومن ثمة صار لنا الدخول إلي الأقداس فيه ”أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ“ (نشيد الأنشاد ١). وكل إنسان يؤمن بالمسيح مخلِّصاً له يتحد به في هذه الخليقة الجديدة ” آمن بالرب يسوع المسيح  فتَخلُص أنت وكل بيتك“ (أعمال الرسل ١٦).

والسُبح لله
بقلم د. رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (٢)[الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (٤)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (٣) 1
[ + مقالات ]