المقال رقم 20 من 23 في سلسلة خواطر في تفسير إنجيل يوحنا

إن صلاة الرب يسوع المسيح إلى الآب في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر تَستَعلن الإيمان المسيحي من جهة طبيعة الرب يسوع المسيح أنه “الله الظاهر في الجسد”. فلا يمكن فهمها إلا على ضوء الرؤية الصحيحة للتجسد الإلهي الذي فيه تمّ اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص/أقنوم “أبن الله”، الذي هو في نفس الوقت “أبن الإنسان”.

”أيها الآب قد أتت الساعة مجِّد أبنك ليمجدك أبنك أيضاً “
(العدد اﻷول)

نري هنا أن السيد المسيح بصفته “أبن الإنسان” يتشفع لدي الآب في بشريتنا التي أخذها من العذراء مريم وأتحد بها.

والآية تُظهِر بوضوح كيف أن خلاص الإنسان ودخوله إلي المجد هو مبادرة النعمة الإلهية أولاً وأخيراً  ”أيها الآب… مجِّد أبنك“. وأن جهاد الإنسان الروحي ”ليمجدك أبنك أيضاً“ هو نتيجة  استجابة الإنسان وقبوله  للنعمة التي حصلت بقبول الآب للإنسان.

إن جهادنا الروحي مِن تمجيد وشكر وتسبيح وسعي لا يهدأ، هو  كاشف لنعمة الله ورغبتنا في الانتماء لله أي الثبات فيها، لذا فإنّ الجهاد الروحي ليس استحداثا للنعمة ولكن كاشفاً لها.

ثم يقدم المسيح في بقية الصلاة، حيثيات طلبه لقبول الإنسان  في المجد مرة ثانية.

”إذ أعطيته سلطاناً علي كل جسد ليعطي حياةً أبديةً  لكل من أعطيته“
(العدد الثاني)

هنا يبدأ الرب يسوع المسيح  في الإشارة  إلي مرحلتين مهمتين في خلق الإنسان. فلقد أعلن لنا الكتاب المقدس في مواضع كثيرة أن خلق الإنسان هو عمل ثالوثي لله الواحد من خلال شخص وأقنوم “أبن الله”. مكتوب عن  أقنوم “أبن الله” أنه ”صورة الله ورسم جوهره“. وأن على تلك الصورة خلق الله الإنسان ”نخلق الإنسان علي صورتنا “. فلما سقط وتشوهت خِلقة الإنسان بالخطية ودخلها الموت، عاد الله و أفتقد البشرية الساقطة بواسطة تجسد (صورة الله) أي المسيح نفسه، إذ هو الصورة التي تصوَّر عليها الإنسان أصلاً. هذا هو تدبير الله في التجسد الإلهي لكي يجدد خلقة الإنسان. من هنا كانت حتمية تجسد المسيح “أبن الله” الذي هو (يسوع أبن مريم العذراء) ليكون هو ذلك الإنسان الجديد و آدم الثاني المخلوق علي نفس الأصل الإلهي، ولكي يبقي هذا الاتحاد ويدوم إلي الآبد وليس كما حدث مع آدم الأول.

ونحن إذ نؤمن بالتجسد الإلهي لأبن الله نُولَد ولادة ثانية روحية ونصير خليقة جديدة رأسها هو الله الظاهر في الجسد يسوع المسيح أبن الله. ونفهم من  قول المسيح ”إذ أعطيته سلطاناً علي كل جسد“ أنه بصفته “أبن الإنسان” فقد انجمعت في ناسوت المسيح  كل البشرية لأن بشريته غير محدودة إذ هو”ابن الله” أيضاً.

ثم أوضح الرب يسوع أن هدف الله من خلق الإنسان وتجديد خلقته بتجسد أبن الله، هو أن يمنحه الخلود والحياة الأبدية : ”… ليُعطي حياة أبدية لكل مَن أعطيته“.

”وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته “.
(العدد الثالث)

يقول الرب أن معرفة الله الواحد الثالوث هي الحياة الأبدية للإنسان. وبتعريف الرب لنعمة الحياة الأبدية للإنسان أنها هي معرفة الله الواحد الثالوث يتضح أن المقصود ليس هو المعرفة المجردة للإنسان عن الله وعبادته، ولكن معرفة الإله الحقيقي هي وجود أبدي يمتد منه كأصل ليُعطِي شركةً للإنسان في هذا الوجود الإلهي.

والمثال القريب إلي فهمنا هو أنتقال الحياة من الأم إلى أبنها. فالابن يحتاج أن تكون له شركة وجود مع أمه، متحداً بها مِن لحمها وعظامها. هكذا هي معرفة الله الواهبة للحياة الأبدية التي تكلم عنها الرب، التي من أجل تحقيقها قد تجسد “أبن الله” كما أشار إلي ذلك في العدد الرابع:

”أنا مجَّدتك علي الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته “
(العدد الرابع)

إذ أكمل  تجديد خلقة  الإنسان  ومخاض البشرية  الجديد من خلاله هو كابن الإنسان.

”والآن مجدني أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم“.
(العدد الخامس)

نري هنا أن المسيح “أبن الله” يطلب من أجلنا بكونه “أبن الإنسان”. فهو لا  يطلب فقط عودة الإنسان إلي مكانته الأولى التي خَلقه الله فيها، ولكننا نلاحظ أنه قد صار هناك ارتباطاً له صبغة مصيرية بين أبن الله وأبن الإنسان. فالطِلبة تذهب إلي أبعد من هذا إذ تقول ”مجدني عند ذاتك“. بل وتذكر أيضا أن هذا المجد المحفوظ للإنسان عند ذات الله هو  ”قبل كون العالم“. أي قبل خلق آدم.

هنا إشارة مستيكية إلي أعماق هذا اللقب السرائري “أبن الإنسان” الذي أحبه المسيح وكان يردده أكثر من لقبه “أبن الله”، لأنه يستعلن مرحلة الخلق الأولي للإنسان(قبل كون العالم) أي قبل خلق آدم. ومن ثمَّ  يشرح لماذا كان التجسد الإلهي ضرورة لخلاص الإنسان.

ويصعب الكلام عن تفاصيل خلق الله للإنسان لأنه موضوع مستيكي سرائري تجلَّت فيه طبيعة ”الله محبة“ (1يو 4 : 8).

ولكن لو جاز لنا بعض الاجتهاد المشفوع بالشغف في “الله المحبة” نقول  أن “أبن الإنسان” هو الأصل في خلق آدم وذريته ”أنا أصل وذرية داود“ (رؤ 22 : 16). فسفر دانيال يتكلم عن “أبن الإنسان” وكيف “قربوه إلي قديم الأيام” وأنه كان “أول خلق الله”. و قال “أبن الإنسان” عن نفسه “الرب قنَّاني/ أنشأني”. و مكتوب في العهد الجديد أن أبن الإنسان هو  ”بداءة خليقة الله“ (رؤ 14 : 3). لذلك يمكننا القول أن “أبن الإنسان” قد تصوَّر “قبل كون العالم” علي “صورة  الله ورسم جوهره”. أي تكوَّن علي صورة المسيح “أبن الله”.

وإن جاز لنا القول، فبحسب التدبير الإلهي لسر الخلق، فإن الله خلَق آدم كأول ذرية داود (وليس أصلها). والهدف من خلق الله لآدم هو أن  يتحد بأصله “أبن الإنسان” المخلوق علي صورة “أبن الله” الغير مخلوق بل الواحد في جوهر الله الثالوث.

فلما سقط آدم (أول ذرية داود)، ظهر “أبن الله” في الزمن المخلوق ولبس الطبيعة البشرية  لآدم وذريته، التي أخذها من العذراء القديسة مريم لكي يوحدها ببشريته هو أبن الإنسان (أصل ذرية داود).

فإن كان   قد أوقف مسيرة آدم للشركة في مجال حياة الله حَسَبَ التدبير، فإن الحب الإلهي للإنسان لم يزول لأن الحب هو طبيعة  الله. ولهذا أكمل الله تدبيره الصالح بتجديد بشريتنا (التي أخذها من العذراء مريم) علي أصلها الذي هو “أبن الإنسان” المخلوق علي صورة “أبن الله” الأزلي غير المخلوق.

والسُبح لله.
بقلم د. رءوف ادوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: خواطر في تفسير إنجيل يوحنا[الجزء السابق] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا<br>الإصحاح الرابع [٧][الجزء التالي] 🠼 خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (٢)
خواطر في تفسير إنجيل يوحنا <br />الإصحاح السابع عشر (١) 1
[ + مقالات ]