الموت هو النهاية الحتمية لنا جميعًا. أما طريقة الموت فتظل بلا أهمية إلى حد كبير. لكن النهاية الأبدية التي تأتي بعد الموت هي غاية في الأهمية. يقدم لنا ق. باسيليوس الكبير نظرة عميقة للموت والجحيم فيقول [1] :
هذا الشيء ينبغي أن نتمسك به في عقولنا، أنه كوننا مخلوقات الله الصالح وأننا محفوظين بواسطته، إذ أنه يدبر الأشياء العظيمة والصغيرة الخاصة بنا، فلا يمكن أن نمر بأي شيء ما لم يكن ذلك بإرادة الله، ولا نتألم حقيقةً بأي شيء ما لم يكن مفهومًا أن هذا الشيء يجلبنا نحو ما هو أفضل. فالميتات التي تأتي من الله؛ حقًا ولا الموت يعد شرًا، إلا إذا كنا نتكلم عن موت الخاطئ، إذ أن موت مثل هذا انتقال نحو بداية العقوبات في الجحيم. ومرة أخرى، الشرور التي في الجحيم، لا يعد الله سببها، بل نحن سببها. فبداية وأصل كل خطية فينا وفي حرية إرادتنا. فمن الممكن لمن ابتعدوا عن الشر ألا يمروا بأي شيء سيء، أما من ضلوا بشهواتهم في الخطية، وهي الحالة الحقيقية إذا تكلمنا بطريقة دقيقة [2]، ألا يكونوا هم سبب ألمهم؟(Basil the Great, On the Human Condition, (Crestwood, N.Y.: SVS Press, 2005), 67)
فعلى كل حال، نحن نحدد مصيرنا الأبدي بعد الموت بسبب حرية إرادتنا. فحين يختار الله أن يموت أحدهم—أيًا كانت طريقة الموت، يمنع نسمته عنهم والتي يسوس البشر بها والتي بواسطتها يستمد البشر وجودهم كأحياء. فقد يسمح الله أن يكون الموت بطريقة ما ليعلمنا شيء ما. دون شك، كانت ميتة كميتة حنانيا وسفيرة ذات هدف تعليمي إذ أنها علمت المؤمنين أن الحضور الإلهي الذي كان في إسرائيل قد انتقل إلى الكنيسة. فضلًا على ذلك، بينما موت الخاطئ يبدو شرًا من منظور مصيره الأبدي، إلا أن هناك جانب من الرحمة الإلهية في موت الخاطئ إن لم يكن هناك أملًا في توبته. فبذلك يكون هذا الموت طريقة مؤكدة لوقف استمراره في طريق الخطية التي ستزيد من سوء مصيره الأبدي.
يعلمنا ق. بطرس عن دينونة ضحايا الطوفان في رسالته:
فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقربنا إلى الله، مماتًا في الجسد ولكن محيى في الروح، الذي فيه أيضًا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن، إذ عصت قديمًا، حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح، إذ كان الفلك يبنى، الذي فيه خلص قليلون، أي ثماني أنفس بالماء(بطرس الأولى 3: 18 – 20)
تعلمنا الكنيسة الأرثوذكسية أن المسيح، بعد موته نزل إلى الجحيم وجلب أرواح الأبرار معه. يحضر ق. بطرس إلى أذهاننا أن المسيح كرز للأرواح التي في الجحيم والتي كانت قبلًا عاصية في زمن الطوفان العظيم, وهذا يجعلنا نتساءل: لماذا كرز لهم المسيح؟ فلو كان مصيرهم محتوم وهم بلا فرصة، فلماذا يكرز لهم؟ وإن كان هناك فرصة ثانية لهم بعد الموت، فكيف تبدو هذه الفرصة؟ وإذ أنه من الصعب التخمين في مثل هذه الأمور، سأشاركك -عزيزي القارئ- أقوال ثلاثة من آباء كنيستنا المعتبرين في هذا الموضوع وهم ق. أثناسيوس وق. كيرلس وق. ساويرس.
في تفسيره لبطرس الأولى، يوضح القمص تادرس يعقوب ملطي أن أثناسيوس رأى في هذه الآيات أنه من الممكن أن يكون البعض قد تابوا وطلبوا الرحمة حين كانت مياه الطوفان تعلو فوقهم لتغرقهم. لهؤلاء الذين سعوا نحو التوبة، أعلن المسيح ذاته لهم في الجحيم [3]. أما ق. كيرلس فيكتب لنا [4] :
ليخلص كل من سيؤمنوا، علم المسيح من كانوا أحياء على الأرض زمن تجسده، وهؤلاء الأخرين اعترفوا به حين ظهر لهم في المواضع السفلية، ولذا استفادوا هم أيضًا من مجيئه… والابن الوحيد صرخ بسلطان للنفوس المتألمة، حسب كلمات العهد الجديد، قائلاً للمقيدين: “هلم خارجًا!”. وللذين في الظلمة: “استنيروا”. بكلمات أخرى، كرز لمن هم في الجحيم أيضًا، كي يخلص كل من يؤمنوا به. فالأحياء على الأرض وقت تجسده والذين كانوا في الجحيم كانت لهم ذات الفرصة لمعرفته. فالجزء الأعظم من العهد الجديد يعلو فوق الطبيعة والمعتاد، فبينما استطاع المسيح أن يكرز لمن كانوا أحياء زمن ظهوره ومن أمنوا به صاروا مباركين، كذلك أيضًا استطاع أن يحرر الذين في الجحيم إذ أمنوا به واعترفوا به بواسطة نزوله هناك. على الرغم من ذلك، فنفوس من اشتركوا في العبادات الوثنية والأفعال الشريرة ومن عميت عيونهم بشهوات الجسد، لم يستطيعوا أن يروه ولم يخلصوا.(Thomas Oden, ed., Ancient Christian Commentary on Scripture: James, 1-2 Peter, 1-3 John, Jude, 1st edition (Chicago: Routledge, 2000), 107-108)
ونسمع صدى هذه الكلمات في كتابات ق ساويرس الأنطاكي الذي اعتبر نفسه تلميذًا لكيرلس الكبير إذ يقول [5] :
لم تعط المغفرة لكل من كانوا في الجحيم، بل فقط لمن أمنوا واعترفوا بالمسيح. هؤلاء الذين نقوا ذواتهم من الشر بصنع الأعمال الصالحة في حياتهم عرفوه، لأنه حتى ظهوره في المواضع السفلية كان الكل، بمن فيهم من تعلموا البر، كانوا موثقين بقيود الموت وكانوا منتظرين وصوله هناك، إذ كان الطريق إلى الفردوس مغلقًا بسبب خطية آدم. على الرغم من ذلك، لم يستجب كل من كانوا في المواضع السفلية للمسيح حين ذهب إلى هناك بل فقط من آمنوا به.(Thomas Oden, ed., Ancient Christian Commentary on Scripture: James, 1-2 Peter, 1-3 John, Jude, 1st edition (Chicago: Routledge, 2000), 108)
باختصار، أمن القديسون أن عبدة الأصنام لم يستفيدوا من نزول المسيح إلى الجحيم إلا إذا كانوا قد تابوا في نهاية حياتهم إذ رأوا حكم الله العادل. ومن كانوا أحياء وأموات في جهل، كان مجيء المسيح استنارة لهم إذا كانوا أحياء في الصلاح حسب الناموس المكتوب على قلوبهم الذي يعلمنا عنه ق. بولس [6] :
لأنه الأمم الذين ليس عندهم ناموس، متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس، فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم، شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة(رومية 2: 14- 15)
كثيرًا ما بحث الآباء فيما سيحدث بعد الموت وكثيرًا ما اختلفوا في تفاصيل هذا الموضوع. لو اختلف الآباء في هذا الموضوع أغلب الظن أننا لن نصل إلى إجماع فيما اختلف فيه الآباء. فإن كنا محتاجين لمعرفة تفاصيل هذه الأمور من أجل خلاصنا لأعلنتها الكنيسة بشكل واضح في التقليد. ولكن إذ اتخذت الكنيسة طريقًا أبوفاتيكيًا (أي التعبير عن الحقيقة بنفي ما ليس بها) تجاه الحياة بعد الموت، وجب علينا أن نسير في خطاها. فلنا إيمان برحمة الله، وصلاحه، وعدله الذي بهم يدبر موتنا تمامًا كما يدبر حياتنا كما يليق. نحن جاهلين بما سيحدث بعد الموت، لكن لنا إيمان كامل بمن يأتي بعد الموت، أي المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات.
الختام:
خلال هذا البحث، استخدمت العديد من المصادر بقدر الإمكان مستندًا على الكثير من المصادر العربية والإنجليزية التي تعطي القارئ فهمًا حقيقيًا للكتاب المقدس والجذور الآبائية لإيماننا فيما يخص صفات الله والطبيعة وعمل الله في العالم. حين فحصنا الأجزاء الكتابية المتعلقة بالكوارث الطبيعية سواء كانت عالمية أو محلية، لم نغفل استخدام المدارس الكتابية الحديثة إذ أنها تلقي الضوء على السياق التاريخي والحضاري للأحداث، والتفسير اليهودي لمواضيع العهد القديم، وتفاسير الآباء للكتاب المقدس التي درسناها لنصل إلى مستوى جيد من معرفة المعنى المقصود من الأسفار الإلهية.
لا أدعي أني قدمت إجابات لكل الأسئلة المختصة بالله أو بالصعوبات الموجودة في الكتاب المقدس. لكن كلي أمل أن أكون قد قدمت للقارئ أدوات يستطيع استخدامها والبحث فيها أكثر وأكثر ليصل إلى معرفة أعلى بأسرار الله كما استعلنت في المسيح يسوع، ودُونت في الكتب المقدسة، وحُفظت من قبل الآباء. فلا ينتهي هذا البحث بخاتمة كلاسيكية إذ أنه لا نهاية لمعرفة الله في أي موضوع لاهوتي وما هذا البحث إلا بداية لبحثك أنت عن الحقيقة. ستظل العلاقة بين الله وأحكامه والأوبئة موضع جدل، وتساؤلات، وأبحاث، ونقاشات.
أملي أن يجتمع قادة الكنيسة الأرثوذكسية ليضعوا أجوبة عن الأسئلة التي طرحتها في هذا البحث وحاولت الإجابة عنها بقدر الإمكان. فالحاجة لبيان واحد واضح مجمع عليه من رجال الإكليروس صارت ملحة مع كم البيانات التي تبدو متضاربة إذ تأتي من كل رجل دين على حدة دون حوار مع باقي رجال الإكليروس. بوركت الكنيسة الأرثوذكسية بكونها كنيسة جامعية حيث الوصول إلى الحقيقة يأتي في صورة حوار في شركة المحبة. إذا كان فيما كتبت ما هو نافع، أروم أن أرى الكنيسة تستخدمه كما ترى سواء في صياغة بيان مجمعي أو غير ذلك. وإذا كان هناك أي شيء خاطئ فيما كتبت، فرجائي أن تصححه الكنيسة وسيكون من دواعي سروري تصحيحه في الطبعات القادمة لتتفق مع بيان يتفق عليه المجمع المقدس بقيادة الروح القدس.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر