صار الشغل الشاغل للإعلام في الوقت الحالي هو فيروس كورونا المستجد بين عامي 2020 والوقت الحالي بسبب تأثيره البشع على حياة الكثيرين بشكل مباشر أو غير مباشر. الكثير من رجال الدين، سواء مسيحيين أم لا، نسبوا الوباء الحالي لغضب الله وتأديبه لعل العالم يتوب. الحلقات الماضية من الكتاب المقدس والتاريخ التي فيها يجلب الله حكمه على مجموعة من المؤمنين ترجح أن الله لا يقرر عقابه بشكل عشوائي. بالحري، يعلمنا الكتاب المقدس أن الله ليس إله تشويش، بل إله سلام
(كورنثوس الأولى 14: 33).
وإذ نعرف أن المجموعات الأكثر عرضة للإصابة هي المسنين ومرضى الجهاز التنفسي ومرضى الأزمة، ينبغي أن نتعجب إن كان هؤلاء هم هدف الله المستحق للعقاب! فمحبة الله ورحمته لا يتماشيا مع هذه النظرية خصوصًا وأن المرض أصاب الملحدين في الصين من ناحية والكثير من المؤمنين بمن فيهم الكهنة الأتقياء من الكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا الذين تنازلوا عن أجهزة التنفس للمرضى الصغار في السن كي تزيد فرص حياتهم من الناحية الأخرى. فلو أن الهدف هو عقاب الملحدين بسبب عدم إيمانهم، لماذا يسمح الله بمرض الكهنة الأتقياء؟ وإن كان يعاقب الكهنة لعدم أمانتهم في خدمتهم، فلماذا يتألم الملحدين من ذات المرض؟ وإن كان المرض تجربة يستخدمها الله ليختبر إيمان المؤمنين، فماذا يختبر حين يصاب به الملحدين؟ وإن كان هذا المرض هو إرادة الله، لماذا إذن يتبارى الأطباء والصيادلة بمن فيهم المسيحيين في قضاء الوقت في علاج المرضى والبحث عن طرق لإنهاء المرض الذي سببه الله بحسب هذه النظرية؟
الكلمة اليونانية المستخدمة للتعبير عن الخطية هي هامارتيا والتي تعني عدم إصابة الهدف. فإن أراد الله أن يعطي ثوابًا أو عقابًا، فلن يخطئ في إصابة هدفه. فالله كما سبق وتعلمنا إما أنه يرفع عقاب الخطية عن الخاطئ من أجل صلوات الأبرار، أو أنه يعاقب الخاطئ بينما يحفظ الأبرار كما رأينا في قصة لوط على سبيل المثال. فكل الاحتمالات التي تعلمناها من الأحداث الكتابية التي درسناها في هذه السلسلة لا تنطبق على الوباء العالمي الحالي.
لكن لابد أن نعترف أن الله يستطيع أن يستخدم الظروف الحالية ليعلم الإنسانية العديد من الدروس.
هذه الدروس قد تتضمن دعوة لنبطئ نمط حياتنا، فلا نتخذ وجود الكنيسة كأمر مسلم به، وندخر الوقت لنقضيه مع الله وفي الكنيسة. فإذا اتخذنا هذه الدروس وحفظناها في قلبنا وصححنا طبيعة علاقتنا به، نكون قد استفدنا استفادة حقيقية من الوباء الحالي على الرغم من المصاعب التي جلبها هذا الوباء في حياتنا. إذا حولنا هلعنا إلى صلاة وأنانيتنا في شراء أكثر من حاجتنا بقلب كريم، نكون قد استخدمنا الوضع الحالي لمنفعتنا الروحية.
هذا التحول من الشر إلى الخير هو أمر جيد بلا شك وهو أمر وارد جدًا أن يصنعه الله كما سبق ورأيناه في قصة يوسف وأخوته. فقط حين نقتني كل المنافع الروحية الممكنة من الموقف الحالي نستطيع أن نقول مع يوسف كان هذا الأمر من قبل الله لمنفعتنا. لكن بلا شك يظل هذا نوع من البلاغة في التعبير كما كان الحال مع يوسف. فالله لا يسبب الشر، ولكنه قدير بما يكفي لجلب الخير من وسط الشر. فإله شمشون الذي أخرج عسلًا من جثة حيوان نتنة قادر على جلب نمو روحي من مرض قاتل.
القديسون والأبرار تأثروا بالأوبئة في الماضي سواء بموتهم أو بموت أحبائهم. يعلمنا التاريخ عن الوباء زمن ق. كبريانوس حيث أصاب المرض الكثيرين خصوصًا في قرطاجنة حيث كان أسقفًا. ويعلمنا ق. كبريانوس أن كثيرين صاروا مسيحيين بسبب الوباء إذ رأوا كم أن حياتهم قصيرة وصدقوا وعد المسيحية بالحياة بعد الموت. كما يتغنى ق. كبريانوس بالكثير من المسيحيين اللذين رعوا المرضى زمن الوباء بصرف النظر عن انتمائهم الديني [1].
ومثل مسيحيي قرطاجنة، نرى في سيرة ق. باخوميوس البحيرية القبطية أنه قضى ثلاثة سنوات خادمًا المرضى بالوباء [2]. إضافة إلى ذلك، نجد في سيرة ق. سمعان العمودي كيف تحير الكثيرين في أمر الوباء الذي حل زمن الإمبراطور جاستينيان، إذ أصاب بعض أبناء المسيحيين بينما لم يمس أبناء الوثنيين. جعل هذا البعض بمن فيهم الأبرار مثل إيفاغريوس يتشككوا في الله، لكن بمساعدة ق. سمعان عادوا إلى رشدهم. إلا أننا لا نجد في أي موضع أن ق. سمعان أعطاهم إجابة مؤكدة على مصدر الوباء والهدف منه. ما نجده في المقابل هو أن إيفاغريوس قد نال الغفران إزاء تشككه بصلوات ق. سمعان [3].
فلا عيب في أن نعلن أننا لا نعرف سبب هذا المرض. لا نجد ما يحتم أن تكون الإجابة على هذا السؤال في المجال اللاهوتي من الأساس. فلو كان ق. سمعان مكتفيًا براحة إيفاغريوس في ألمه بسبب الوباء والشك دون تخمين أسباب المرض، لا يكن هناك أي خطأ في أن نعلن جهلنا بسبب هذا المرض إن لم يكن أمامنا جواب واضح.
كمسيحيي قرطاجنة وزمن ق. باخوميوس، يمكننا أن نخدم المتضررين من الوباء. فلو الطب في العصر الحديث لا يسمح لنا بالمساعدة كآبائنا القديسين، قد نستطيع المساعدة بطرق مختلفة كالصلاة من أجل الفرق الطبية، ومساعدة كبار السن والأكثر عرضة للعدوى بشراء حاجتهم بدل من خروجهم في أوقات تفاقم الوباء، أو على الأقل بأن نكون معتدلين في استخدامنا للموارد المتاحة من أجل الآخرين. كل هذه هي طرق نستطيع أن نسلك بها نهج القديسين ونريح أخوتنا في الإنسانية بدلاً من الفكر السلبي الذي يحاول ربط سبب المرض بالله.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر