حين يتعلق الأمر بإجابة سؤال عن الغضب الإلهي، يتجه العديد من اللاهوتيين لربط الأحداث التي تبدو معلنةً لغضب الله على أنها أحداث متعلقة بالعهد القديم فقط ولا مكان لها في العهد الجديد. وهذه الأجوبة إن لم تنقح بطريقة لاهوتية دقيقة قد تبدو وكأنها تنادي بانقسام أو تغير فظ في طبيعة الله. وسواء كانت الإجابة منقحة لاهوتيًا أم لا، فهي تتركنا بدون معرفة حقيقية بكيفية فهم الآباء لطبيعة غضب الله كما سبق وشرحنا في الجزء الأول. فحادثة موت حنانيا وسفيرة في العهد الجديد تجعل الإجابة السهلة التي تروق للبعض “هذه الأشياء تخص العهد القديم ولا تخصني” إجابة غير نافعة وغير مقبولة. فإن كان لا مكان للغضب إلا في العهد القديم، فلماذا يقدم الله على إنهاء حياة شخصين اعتمدا وصارا عضوين في الكنيسة الأولى؟
السياق اليهودي:
على الرغم من سرد هذا الحدث في العهد الجديد إلا أنه من الصعب أن نرى الصورة الكاملة له دون قراءتها في ضوء قصة أقل شهرةً من العهد القديم ألا وهي قصة عخان بن كرمي في سفر يشوع. بعد أن هزم يشوع شعب أريحا، جاءت الوصية الإلهية مقررة بألا يحتفظ أي شخص بأي شيء من غنيمة الحرب إذ اعتبرت ممتلكات شعب أريحا محرمة ولذا من يأخذ منها يجلب لعنة وحرامًا بين شعب إسرائيل. وكان فعل سرقة عخان لجزء من غنيمة الشعب سببًا في هزيمة شعب إسرائيل مقابل شعب عاي الذي كان أقل عددًا من شعب أريحا. فصارت خطية عخان سببًا في ترك الله لشعب إسرائيل وقت الحرب. فناح يشوع على ما حدث لشعب إسرائيل على يد عاي يومًا كاملًا حتى أمره الرب الإله أن يطهر الإسرائيليين ذواتهم لليوم التالي،
ثم تم التعرف على عخان كونه سبب الفاجعة التي حلت بإسرائيل خلال عملية فرز طويلة. وخلال هذه المدة الطويلة لم يعترف غخان بفعلته لا هو ولا أي من أهل بيته كي يحفظ الشعب الإسرائيلي من فعلته. وبسبب تعديه على العهد وبسبب مسؤوليته عن مقتل الكثيرين في معركة عاي، تم إعدامه مع أهل بيته وممتلكاتهم. وبينما يبدو ذلك وحشيًا للوهلة الأولى، كان يعد كسر العهد سواء مع الله أو مدينة أو شخص أخر إثمًا عظيمًا له عقبات وخيمة آنذاك [1]. يظن بعض الرابيين أن أبناءه لم يعدموا بل اتخذوا فقط ليشاهدوا عقاب أبيهم عن فعلته لئلا يقعوا في خطية أبيهم عينها مستقبلاً، بينما يرى البعض الأخر من الرابيين أنهم كانوا مذنبين لعدم إقرارهم بجرم أبيهم على الرغم من مشاهدتهم للعواقب الوخيمة لفعلته [2]. يرى ق. باسيليوس الكبير في فعل عخان سببًا كافي لإنهاء حياته فيكتب [3] :
لذا، أجد في اتباعنا للكتب المقدسة… أن التمرد على الله أمرًا مدانًا بلا شك، لا من حيث عدد المرات التي يقع فيها المرء في هذا التعدي البشع، بل حتى وإن تم هذا مرة واحدة بالتعدي على أي وصية أيًا كانت، بل وأكثر من ذلك، قضاء الله يمتد لكل أنواع العصيان. في العهد القديم، نقرأ عن نهاية عخان المرعبة… قد يعترض البعض على أن هؤلاء [أي عخان وأسرته] كانوا بالفعل مدانين بسبب خطايا أخرى التي أدت بهم لهذه العقوبات إلا أن الكتاب المقدس لم يشر إلا لهذه الخطايا، بل هذه [الخطية] فقط كونها خطيرة وتستحق الموت.(John Franke, ed., Ancient Christian Commentary on Scripture: Joshua, Judges, Ruth, 1-2 Samuel, 1st edition (Downers Grove, Ill: IVP Academic, 2005), 45)
قد يسأل أحدهم لماذا مات آخرين من إسرائيل في حربهم مع عاي أو باقي بيت عخان؟ هذا السؤال يأتي من طبيعة تفكيرنا الفردانية في وقتنا الحالي. أما في السياق والفكر الكتابي، ما يفعله الشخص يؤثر على مجتمعه، بل وأحيانًا على الخليقة بأسرها. فكانت خطية آدم على سبيل المثال هي أساس الموت والفساد في البشرية كلها. وإذا قيل مجازًا أن الأرض صرخت بسبب خطية سفك الدم كما كان الحال بين قايين وهابيل، فيمكننا أن نتخيل فكر العالم القديم الذي ساد فيه مفهوم تألم الجماعة بشكل عام بسبب خطية الفرد وتبعيات خطيته خصوصًا لو كانت هذه الخطية هي خطية تمرد وتعدي على العهد بين الله وشعب إسرائيل. كما يعلمنا ق. غريغوريوس صانع العجائب [4] :
انظر، ألم يسرق عخان بن زارح بسبب عدم أمانته الأشياء المكرسة فأتى الغضب على كل شعب إسرائيل؟ فهو وحده أخطأ، إلا أنه لم يكن الوحيد الذي مات في خطيته [أو بسبب خطيته]. والآن نحن في وقتنا الحاضر كل ما لا يخصنا بل يخص غيرنا، ينبغي أن نعتبره “أشياء مكرسة”(John Franke, ed., Ancient Christian Commentary on Scripture: Joshua, Judges, Ruth, 1-2 Samuel, 1st edition (Downers Grove, Ill: IVP Academic, 2005), 42)
التفسير المسيحي:
يوجه الأب متى المسكين في تفسيره لسفر الأعمال أنظارنا نحو العناصر المتشابهة بين قصتي عخان من ناحية وحنانيا وسفيرة من الناحية الأخرى. فالكلمة اليونانية المستخدمة في الترجمة السبعينية للإشارة إلى خيانة عخان للعهد بين الله وإسرائيل هي ذات الكلمة المستخدمة في سفر الأعمال للتعبير عن اختلاس حنانيا من ثمن الحقل [5]. فخطية حنانيا وسفيرة كانت خطية ذات أوجه عديدة: فكسروا نذرهم بإعطاء ثمن الحقل للرسل، وسرقا ما صار حقًا للكنيسة، وكذبا على الرسل، وحاولا أن يقتنيا لذواتهما مجدًا مقابل عطيتهم العظيمة. ويلقي الأب متى المسكين الضوء على هذا الجانب الأخير فيقول [6] :
والأمر في مضمونه الإلهي يقاس على أساس أن حنانيا قدم حساب الحقل كله ليأخذ أجرة هذا العمل من الله روحيا سماويًا، مع مديح من الناس وشهرة وإكرام وتعظيم وتبرير وكتابة اسمه في لوحة شرف الكنيسة أو استئمانه على حمل الصندوق أو الطبق أو الصرف على الفقراء على أساس أنه قدم كل ما عنده، أي كل معيشته على الأرض… وكأنه أراد أن يربح الأرض والسماء، هذا العالم وعالم الدهر الآتي، النعمة والمال معًا، الاتكال على الله وعلى المال معًا، هنا مناقضة فضحها الروح القدس وسلب منه الأرض والمال والحياة…(الأب متى المسكين، تفسير سفر أعمال الرسل)
ويساعدنا ق. يوحنا ذهبي الفم في فهم سياق هذه الأحداث وكيف سألهم بطرس عن عملهم آملًا أن يعترفا أو يتوبا فيقول [7] :
كان هذا المال مقدسًا. فالذي يمتلك جزءًا من ممتلكاته بعد أن قرر بيعها وتوزيعها [أي لصالح الكنيسة أوالفقراء] يصبح متهمًا بتدنيس المقدسات، ما بالك الذي يأخذ مما لا يخصه من الأساس. ولا تظن أن كون هذه العواقب لا تحدث الآن، أن مثل هذه الجريمة ستظل بلا عقاب. أترى كيف أن هذه العقوبة التي وقعت ضد حنانيا كانت بسبب أنه بعد أن جعل المال مقدسًا اتخذه لنفسه؟ فيقول بطرس ألم يكن ممكنًا أن تحتفظ بثمن الحقل أو فوائده لنفسك [أي قبل نذره]؟ لم يكن هناك ما يمنعك، أليس كذلك؟ لماذا إذن فعلت هذا بعد أن نذرت؟ أترى كيف خطط الشيطان هجمته منذ البداية؛ كيف أنه بين هذه العجائب والعلامات يصير شخصًا بلا عقل كالصخر!… فتدنيس المحرمات هي من أشنع الجرائم، ممقوتة ومملؤة عصيانًا. فيقول الرسل، نحن لم نجبرك أن تبيع ولا أن تعطي ثمن ما بعت. أنت اخترت هذا بمحض إرادتك، لماذا إذن سرقت من الخزانة المقدسة؟(Francis Martin, ed., Ancient Christian Commentary on Scripture: Acts, 1st edition (Downers Grove, Ill: IVP Academic, 2006), 75)
وقد يتهم البعض ق. بطرس بالشدة المفرطة إلا أن بطرس لم يقتلهم بكلماته، بل بالحري الروح القدس الساكن في بطرس هو الذي حقق العدالة الإلهية بينما لم يكن بطرس سوى معلنًا لما هو آت لا محالة. فيكتب ق. غريغوريوس النيسي [8] :
وعن الروح القدس أيضًا، يقول بطرس لحنانيا: لماذا ملأ الشيطان قلبك كي تكذب على الروح القدس؟ مشيرًا بذلك لكون الروح القدس شاهد حقيقي واعٍ بما تجرأ عليه حنانيا في الخفاء، والذي بواسطته [أي الروح] صار السر معروفًا لبطرس. لأن حنانيا صار سارقًا لممتلكاته سرًا، كما ظن، بعيدًا عن عيون الجميع خافيًا خطيته. لكن الروح القدس في نفس الوقت كان في بطرس وكشف نيته، التي انحدرت نحو الجشع، وأعطى [الروح] بطرس من ذاته قوة رؤية الأسرار. فمن الواضح أن الروح لم يكن له أن يفعل ذلك [أي يعلن الخفايا لبطرس] ما لم يكن ممكنًا له هو [أي الروح] أن يعرف الخفايا(Francis Martin, ed., Ancient Christian Commentary on Scripture: Acts, 1st edition (Downers Grove, Ill: IVP Academic, 2006), 76)
وبشكل مشابه، يرى ق. جيروم أنه من الجهالة أن نربط العقوبة ببطرس بدلًا من الله. فيكتب جيروم [9] :
في الحقيقة، لم يأمر بطرس الرسول الموت أن يأتي عليهم بأي شكل، كما يدعي بروفيري الجاهل. لم يكن سوى معلنًا لحكم الله بروح النبوة كي تصير خاتمهما درسًا لكثيرين.(Francis Martin, ed., Ancient Christian Commentary on Scripture: Acts, 1st edition (Downers Grove, Ill: IVP Academic, 2006), 76)
أخيرًا:
في كل أحداث العهد القديم التي فحصناها سابقًا، نرى أن حكم الله كان دائمًا حكمًا صالحًا. وأي شر حدث، كان الله قادرًا أن يحوله إلى خير. وهذا الحدث لا يستثنى من هذا النمط. فلقصة حنانيا وسفيرة حدث موازٍ في العهد القديم حيث يحاول أحدهم أن يخدع الله بسرقة الأموال التي كُرست لله. لا نعرف الكثير عن حيوات عخان أو حنانيا وسفيرة قبل الأحداث المدونة عنهما. لكننا نعلم أن الخطية لا تولد في ليلة وضحاها. بل على العكس، تأخذ الكثير من الوقت لتتأصل في قلب الإنسان. وبينما تتأصل الخطية، يظل الروح مناديًا الخاطئ نحو التوبة. فمن يلبوا نداء الروح يصيروا قديسين ومن يرفضوا الله يجلبوا حكمه على ذواتهم. من الصعب على البعض التمييز بين طريق الله وطريق العالم. أما محاولة امتلاك الطريقين مع محاولة خداع الله وشعبه فهي خطية مكر وخداع تؤثر على الكنيسة بشكل كامل. في الماضي، جلبت هذه القصة خوفًا على أعضاء الكنيسة. فعلى الرغم من أنه حدث أليم راح ضحيته روحين غاليتين، استطاع الله أن يستخدم الحدث لصالح الكنيسة ككل. قد تكون هذه القصة قاسية، لكن إذا قرأناها راغبين تعلم طرق الله، ستقودنا هذه الرغبة لرفض محبة المال والخداع. سنرى كذلك كيف أن خطيتنا الخاصة تؤثر على الكنيسة ككل بشكل سلبي، وبالتالي توبتنا هي الأخرى تجلب ثمارًا للكنيسة ككل.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر